الشرح: A قد مضى أن أوقات السنة تدل على مرتبة المرض ونظامه ونوبته ليقدر الغذاء بحسب ذلك، والآن نبين أن تقدير الغذاء يختلف بحسب أوقات السنة بنفسها، وناسب ذكر هذا بعد ذكر تقدير الغذاء بحسب الأسنان، لأن الأسنان إنما اختلف الغذاء بحسبها لأجل الاختلاف في قوة الحرارة الغريزية وضعفها وقلتها وكثرتها، وهذا يختلف أيضا باختلاف الفصول، فإن في الشتاء تكون الحرارة الغريزية أكثر وأقوى، وفي الصيف بالضد. وربما ظن أن الأطباء يعنون بالفصول ما يعنيه المنجمون، وهو أن يكون الفصل عبارة عن انتقال الشمس في ربع ربع من فلك البروج، مبتدئة من النقطة الربيعية، وليس كذلك، بل الفصول عند الأطباء هي بحسب مايحس من الهواء، فالزمان الحار أي الذي يحوج إلى ترويح يعتد به هو الصيف، والزمان البارد الذي يحوج إلى إدفاء يعتد به هو الشتاء، B والزمان المتوسط أي الذي لايحوج إلى إدفاء يعتد به ولا إلى ترويح يعتد به وفيه ابتداء نشوء الأشجار وظهور الأزهار هو الربيع، والزمان المتوسط في الحر والبرد أي الذي يحس منه بالحر كما يحس منه بالبرد وفيه اصفرار لون الورق وابتداء سقوطه هو الخريف. وقد اختلف العلماء في سبب التعاقب، وأعني بالتعاقب أن الجسم إذاسخن ظاهره برد باطنه وبالعكس. ومثال ذلك الأرض فإنها في الشتاء يسخن باطنها، ولهذا يسخن ماء البئر ويرى البخار يتصعد من فمه، وفي الصيف يبرد باطنها فيبرد ماء البئر ويقل ما يتصعد منه من البخار. فقال بعضهم: إن ذلك غلط في الحس، لأن أبداننا تبرد في الشتاء فيكون ماء البئر أسخن منها، وفي الصيف يسخن فيكون ماء البئر أبرد منه وهو بحاله لم يتغير. قالوا وهذا كالبول فإنه يحسبه في داخل الحمام باردا وفي خارجه حارا وهو بعينه واحد لم يتغير. وقال: A آخرون وهو المشهور: إن ذلك لأن البرد إذا أصاب الظاهر هربت منه الحرارة إلى الباطن لأجل المضادة، وكذلك إذا أصاب الحر الظاهر هرب البرد للمضادة. وهذان القولان فاسدان، أما الأول فمن وجهين: أحدهما: أنه لا يمتنع علينا أن ندفيء بشرتنا في الشتاء دفئا يبلغ إلى سخونة هواءالصيف، ومع ذلك فإذا لمسنا ماء البئر وجدناه حارا. والوجه الثاني: إن البخار المتصعد من البئر لاشك أن المبخر له هو الحرارة وهو محسوس بالبصر؛ فيمتنع أن يقال أنه غلط في الحس. وأما القول الثاني ففساده أعظم؛ وذلك لأن الحرارة والبرودة من الأعراض، والأعراض يستحيل عليها الانتقال من موضوع إلى آخر، والحق أن سبب التعاقب هو أن كل جسم ففيه قوة مسخنة أوة مبردة لجميعه، فإذا أصاب ذلك الجسم كيفية مضادة لتلك الكيفية غصبت الأجزاء الظاهرة من ذلك الجسم عن فعل تلك القوة فيه فبقى B تأثيرها في الأجزاء الباطنة فقط، والمنفعل إذا قل قوى تأثير المؤثر فيه، فإنه لا سواء إضاءة عن مصباح وإضاءة صحراء رحيبة عن ذلك المصباح. مثال ذلك أن يكون في الأرض قوة تبردها فإذا استولى الحر الخارجي على الأجزاء الظاهرة منها في الصيف بقى تأثير القوة المبردة في الأجزاء الباطنة فقط فكان تبريدها (33) أقوى؛ وكذلك حال الأجواف فإن الحار الغريزي المسخن لجميع البدن إذا غصب البرد الخارجي منه الأجزاء الظاهرة قوى تسخينه لباطنه، وأيضا كان في الصيف تتحلل منه أجزاء كثيرة وفي الشتاء قل ما كان يتحلل منه فقوى تأثيره. وقوله: "أسخن ما يكون بالطبع" وإن كان قد يجوز أن يسخن أيضا سخونة خارجة عن الطبع، فإنه إذا حبس البرد الأبخرة الحارة وحقنها سخنت البدن، ولكن ذلك لا يوجب زيادة الحاجة إلى التغذية. وغرض أبقراط أن يبين أنه أسخن A ما يكون سخونة توجب زيادة الحاجة إلى التغذية، وذلك إنما يكون عن السخونة التي بالطبع وهي التي تقدم ذكرها. وهذا الذي ذكرناه من سبب سخونة الأجواف في الشتاء ظاهرا وأما سخونتها في الربيع فلأن الربيع لم ينتقل بعد هواه إلى الحرارة الموجبة لانتشار الحار الغريزي وانتشار فعل الحرارة الغريزية فيبقى على ما كان في الشتاء أو أقل منه قليلا. واعلم أن الجوف في اللغة يطلق على كل تجويف، وفي اصطلاح الأطباء يقال لشيئين: أحدهما يقال له الجوف الأعلى، وهو موضع تدبير الغذاء كالمعدة والكبد. وثانيهما يقال له الجوف الأسفل، وهو موضع الأمعاء. ومراده هاهنا بالأجواف مواضع تدبير الغذاء. قوله: "والنوم فيهما أطول" قد قيل: إن سبب طول النوم فيهما أن الليل فيهما أطول وليس كذلك، فإن ليل الربيع أقصر من ليل الخريف، بل لأجل الرطوبة الهوائية، ولأن الشتاء يكون المزاج فيه رطبا، والربيع تسيل فيه الرطوبات ويكثر الدم وذلك موجب لزيادة النوم. قوله: "فينبغي في هذين الوقتين أن يكون ما يتناول من الأغذية أكثر" معناه أن الأجواف لما كانت في هذين الوقتين أسخن والنوم أطول كان الهضم والاستمراء أتم، فينبغي أن يكون استعمال الأغذية أكثر؛ وذلك لا لكونها وقودا للحار الغريزي كما بين في الفصل المتقدم، بل لأنها أغذية وذلك لأن التغذية يلزمها التقوية فتكون التغذية مطلوبة وفي باقي الفصول قد لا يمكن الإكثار منها لمانع وهو الخوف (34) من أن لا يتم انهضامها، وأما في هذين الفصلين فينبغي الإكثار لأنا جازمين بقوة الهضم. قوله: "وذلك لأن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين كثير؛ ولذلك يحتاج إلى غذاء كثير" هذا كأنه جواب عن دجل مقدر وهو أنه كأن قائلا قال: إنه ينبغي أن يكون استعمال الأغذية في هذين الوقتين قليلا لأن الغذاء إنما يحتاج A إليه ليبدل على ما تحلل والتحلل في هذين الوقتين قليل، فينبغي أن يكون الغذاء في هذين الوقتين قليلا، فأشار إلى مناقضة ذلك بقوله: "وذلك لأن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين كثير" وإذا كان الحار الغريزي كثيرا كان التحليل كثيرا، وإذا كان التحليل كثيرا وجب أن يكون الغذاء كثيرا؛ ولهذا قد يعتقد أن في هذا الفصل تكرارا وليس كذلك، لأن المدعى في أولا هو حرارة الأجواف وإشارته بزيادة الغذاء أولا لعدم المانع منه إذ الهضم قوي، والمدعى ثانيا أن الحار الغريزي في الأبدان جملتها حينئذ كثير. قوله: "ولذلك يحتاج إلى غذاء أكثر" أي ولهذه العلة يحتاجون إلى أغذية أكثر، فكأنهقال: ينبغي أن تكون الأغذية في هذين الوقتين كثيرة لحاجة وأمان، أما الحاجة فلوجود الحار الغريزي الكثير الذي يلزمه زيادة التحليل المحوج إلى زيادة الغذاء، وأما الأمان فلقوة الهضم. أقول: وهاهنا شيء آخر يوجب B كون الغذاء كثيرا وهو أن البرد الخارجي يوجب جمودا في الدم، وذلك يوجب نقصان حجمه، وذلك يوجب زيادة الغذاء ليسد بدل ما نقص بالتكاثف وإن لم يمكن هناك تحليل البتة؛ وهذا كأنه أولى، وذلك لأن التحليل الخفي لا يبلغ من كثرته أن يكون مقاربا للتحليل المحسوس في الصيف من العرق والوسخ وغيرهما. قوله: "والدليل على ذلك أمر الأسنان والصريعين" إنما استدل بالأسنان والصريعين لأنه لما لم يكن بينا أن كون الحار الغريزي أكثر يحوج إلى كون الغذاء أكثر، استدل بأمر الأسنان والصريعين، وهذا ينتظم على هيئة التمثيل كقولنا: ثبت أن الأحداث يفتقرون إلى أغذية أكثر وإنما افتقروا إلى ذلك لأن الحار الغريزي في أبدانهم أكثر، لكن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين أكثر فينبغي أن تكون الأغذية فيهما أكثر. وكذلك نقول في الصريعين A أي المصارعين بأن نجعلهم أصلا وكثرة الحار الغريزي في أبدانهم علة لتكثير الأغذية فيهم، وأن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين أكثر فينبغي أنيكون الغذاء أكثر. واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف؛ وذلك لأن الموجب لزيادة الغذاء في الأحداث يتوقع كون حارهم الغريزي كثيرا أن التحليل من أبدانهم لرطوبتهم كثير ولحاجتهم إلى النمو، وهذا المجموع منتف هنا فلا يلزم من ذلك زيادة الغذاء هنا. وأما القياس على أبدان الصريعين فله غرض أن يفرق بينهما بأن الصريعين كثرة حركة أبدانهم الحركة القوية جدا توجب زيادة تحليل محوج إلى زيادة في التغذية، وهذا المعنى معدوم هاهنا فلا يلزم من ذلك كثرة الغذاء في هذين الوقتين. واعلم أن على هذا الفصل إشكالات: أحدها: إنه لو كان الحار الغريزي فيالأبدان في الشتاء كثيرا، لما كثر فيه البلغم، ولما كانت أمراضه B أكثرها باردة كالصرع والسكتة والفالج والرعشة، والتالي باطل فالمقدم مثله. وثانيها: إنه لو كان الأمر كما ذكرتم لكانت الأبدان كلها كذلك، أي كلها تحتاج إلى غذاء أكثر، وذلك باطل فإن كثيرا من الحيوانات تبقى في الشتاء مدة مديدة غير مستعملة للغذاء، فإن الدب يبقى ثلاثة أشهر لا يغتذي. وثالثها: لو كان كذلك لكانت الأبدان في الشتاء أنشط حركة، وليس كذلك، فإن من الحيوانات ما تبقى في أوكارها ملقاة كالميتة. والجواب عن هذا كله أن ما ذكرناه إنما هو بحسب ما تقتضيه طبيعة الفصل، فإن طبيعة الفصل تقتضي أن البرد يجمع الحار الغريزي ويقويه. وأما كثرة البلغم فإنما هو لكثرة استعمال الأغذية الغليظة وقلة الحركات، وكذلك كثرة الأمراض الباردة إنما هو لغوص البرد إلى داخل البدن بسبب ضعفه A وقلة حرارته في الأصل أو لضعف العصب أو غير ذلك. وأما بقاء الدب ثلاثة أشهر بغير غذاء فذلك لضعف حرارته وكثرة نهمه وكثرة وجود غذائه فإنه يأكل اللحم والثمار فيكون وجود ذلك كثيرا فيجتمع فيه في طول الزمان رطوبات كثيرة فجة فإذا جاء برد الشتاء أخمد حرارته لضعفها وبقيت تلك الرطوبات تمدها في تلك المدة. وأما بقاء بعض الحيوانات كالميتة وموت بعضها فلضعف جرمه وقلة دمه فيستولي عليه البرد ويغوص إلى باطنه فيجمد حرارته الغريزية وإن كانت كثيرة كالحية. وأما ما ذكرناه فهو بحسب ما يوجبه البرد من إحداث التعاقب المذكور، ولا امتناع في أن يكون بعض الناس ضعيف البدن أو قليل الحرارة الغريزية جدا أو قليل الدم فيؤثر فيه البرد ما يؤثره في تلك الحيوانات.
[aphorism]
صفحه ۴۷