الشرح: أما بيان تعلق هذا الفصل بما قبله فظاهر، لأنه لما فرغ من تقدير الغذاء بحسب الأمراض المزمنة وتقديره بحسب الأمراض التي في الغاية القصوى من الحدة، وجب أن نذكر تقديره بحسب الأمراض التي هى في الحدة دون ذلك. وقد فرغنامن تقسيم الأمراض بحسب مراتبها وأقسام الأغذية اللطيفة فيما مضى. ونريد "بالأوجاع التي في الغاية القصوى" أعراض المنتهى؛ لأن الأمراض يكمل اشتدادها عند المنتهى. واعلم أن لأكثر الأمراض A أربعة أوقات، وما يخرج عنها فهو من الصحة لأن كل مرض من شأنه أن يشتد وينقص، فإنه إذا ظهر فإما أن يظهر اشتداده أو انتقاصه، أو لا يظهر واحد منهما. والأول هو وقت التزيد، والثاني هو وقت الانحطاط، والثالث إن كان قبل التزيد فهو وقت الابتداء، وإن كان بعده فهو وقت الانتهاء. وكل ما يشتد ثم ينقص فبالضرورة يقف بينهما، ضرورة أن بين كل حركتين مضادتين وقوف. ولكن لا نعني بالانتهاء هو ذلك الوقوف فإن ذلك قد يكون غير محسوس، بل نعني به الوقوف في الحس وهو الزمان الذي بعد التزيد ولا يظهر فيه التزيد ولا الانتقاص، وإن كان قد يكون بعض ذلك الزمان اشتداد أو انتقاص في نفس الأمر لكنه غير محسوس. فعلى هذا يكون الانتهاء زمان محسوس وحكم مخصوص. وأما الابتداء فقد يراد به ما قلناه وهو الزمان الذي يظهر فيه المرض ولم يظهر بعد اشتداده ولا انتقاصه، B وقد يراد به أول ساعة حصول المرض، وقد يراد به الأيام الثلاثة الأول، وهذا المعنى هو المراد بقوله بدءا لاستحالة حصول أعراض المنتهى في المبتدأ بالتفسرين الأولين. قوله: "ويجب ضرورة أن يستعمل فيه التدبير الذي هو في الغاية القصوى من اللطافة" قد يظن ظان أن هذا هو تدبير هذا المرض، وليس كذلك، فإن تدبير ما يقال أنه حاد جدا ما هو أغلظ من ذلك، بل مراد أبقراط أنه في ذلك الوقت أي وقت ظهور تلك الأوجاع وهو أول ظهور علامات المنتهى يكون تدبيره ذلك. قوله: "فأما إذا لم يكن كذلك" أي لم يكن مما تأتي الأوجاع التي في الغاية القصوى فيه بدءا فهذا لايكون حادا جدا لأن كل حاد جدا فهو كذلك. فبقى أن يكون إما حادا بإطلاق، أو ما هو أميل إلى الإزمان، وإما حادا في الغاية أو في الغاية القصوى ، لكن الحاد في الغاية وفي الغاية القصوى يخرجان بقوله: لكن كان يحتمل من التدبير ما هو أغلظ A من ذلك. قوله: "فينبغي أن يكون الانحطاط على حسب لين المرض ونقصانه عن الغاية القصوى" لما بينا أن المرض كلما كان أحد كانت الحاجة إلى غذاء أقل، وكلما كان أقل حدة كانت الحاجة إلى غذاء أكثر. فإن قيل: قوله: "ونقصانه عن الغاية القصوى" إنما يحسن إذا كان المرض الذي فرض أن هذا المرض ألين منه هو المرض الحاد في الغاية القصوى، لكن ذلك هو الحاد جدا، فكان ينبغي أن يقول: فينبغي أن الانحطاط على حسب لين المرض ونقصانه عن الحاد جدا. قلنا: ليس هذا بلازم؛ لأنه يكون معناه أن المرض إذا لم يكن حادا بل ألين منه فينبغي أن يكون الانحطاط عن تدبير الحاد جدا على حسب الانحطاط عن الغاية القصوى إلى ما سواها أي درجة درجة، وهذا حسن. قوله: "وإذا بلغ المرض منتهاه فعند ذلك يجب ضرورة أن يستعمل فيه التدبير الذي هو في الغاية القصوى من B اللطافة" لا يريد بقوله "المرض" المرض حاد جدا، بل إما مسمى المرض أو كل مرض، بأن يكون الألف واللام للطبيعة والاستغراق. والظاهر أن المراد هو المرض الذي قال أنه يحتمل من التدبير ما هو أغلظ من، لأن من الأمراض ما لا يستعمل في انتهائها التدبير الذي هو في الغاية القصوى من اللطافة . وربما قيل: إن -على ما ذكرتموه- يكون الكلام مكررا؛ لأنكم فسرتم قوله: "فإن الأوجاع التي في الغاية القصوى تأتي فيه بدءا" على أنه أراد بذلك أعراض المنتهى، وحملتم قوله: "ويجب ضرورة أن يستعمل فيه التدبير الذي هو الغاية القصوى من اللطافة" على أن ذلك يكون في ذلك الوقت، فحينئذ يغني ذلك عن قوله: "وإذا بلغ المرض منتهاه فعند ذلك يجب ضرورة أن يستعمل فيه التدبير الذي هو الغاية القصوى من اللطافة" فتصريحه تكرار لا معنى له. قلنا: ليس ذلك بتكرار لأن ما قاله أولا هو في المرض الحاد جدا وفيه يجب أن يستعمل التدبير A الذي هو الغاية القصوى في أول ظهور علامات المنتهى، وذلك عند حصول الأوجاع التي هى في الغاية القصوى. وما ذكره ثانيا فهو في الأمراض التي تحتمل من التدبير ما هو أغلظ من ذلك، فإن في مثل هذه لا يجب أن يستعمل فيها التدبير الذي هو في الغاية القصوى إلا إذا بلغ المرض منتهاه؛ وذلك لأن المرض كلما كان أقرب من المبتدأ والأعراض أسكن كان استعمالنا الغذاء أكثر، وكلما جعلت الأعراض تشتد والمنتهى يقرب فقد أخذت الطبيعة في مقاتلة المرض، فقد ينبغي أن يلطف الغذاء أكثر، تخفيفا على الطبيعة وقت المجاهدة وثقة بما أسلفناه من التقوية. وأما غند المنتهى فهو وقت المقاتلة، وإعطاء الغذاء فيه تكثير للعدو، شاغل للطبيعة، غير منتفع به في التقوية لاشتغال الطبيعة عن إصلاحه بالمرض. لكن هاهنا إشكالان، أحدهما: إن ما (22) ذكرتموه باطل طردا وعكسا، فإن التشنج والفؤاق اليابسين B من الأمراض الحادة في الغاية القصوى والواجب فيها استعمال الغذاء الغليظ، والفالج واللقوة من الأمراض المزمنة والواجب فيها الغذاء اللطيف. فأجيب عن هذا: وقيل إن ما ذكرناه مختص بالحميات ولا حاجة إلى هذا التخصيص، بل نقول: إن هذا يعم كل مرض مادي يندفع بمقاتلة الطبيعة للمرض وتحتاج إلى إنضاج فهناك تحتاج إلى تقليل الغذاء عند قرب المقاتلة وتكثيره عند أول المرض ليفي بالتقوية إلى وقت المقاتلة. وأما في الفؤاق والتشنج اليابسين فإن استعمال الأغذية الكثيرة فيهما لا لأنهما مرض حاد أو مزمن، بل ولا لكونه غذاء، بل لإفادته الترطيب. وأما تقليل الغذاء في الفالج واللقوة فذلك في أول حصولهما رجاء منا أن يكون من الأمراض القريبة المنتهى، وأما إذا طالت وتحققنا من إزمانها لم يكن علاجها إلا بأغلظ أغذية المرضى، وإن كان قد يكون لطيفا بحسب الأصحاء. والإشكال الثاني: إن العمل على خلاف ما ذكرتموه، فإن الأطباء يمنعون في أوائل الحميات ثم يستعملونه في التزيد وفي A المنتهى، بل ربما استعملوا في التزيد ماء الشعير وفي المنتهى أمراق الفراريج. والجواب: إنه لا يناقض ما يستعمله الأطباء لما قلناه، لأن ما قلناه هو بحسب طبيعة المرض، وأما استعمال الأطباء، ما ذكرتموه إن سلمنا صدقه فليس كذلك، بل إما لنفرة المريض عن الغذاء في وقت الابتداء أو ليقدم تخمر وامتلاءات، فهم يرجون ترك الغذاء في الابتداء عطف الطبيعة على تلك المادة لتنضجها وتأخذ منها الغذاء، أو لأن المرض دموي أو بلغمي فيرجون بترك الغذاء الاغتذاء من مادة المرض أو لأشياء أخر توجبها المباشرة.
[aphorism]
صفحه ۲۶