شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية
ژانرها
تميز هذه الأمة بالإسناد والرواية عن غيرها من أهل الكتاب والأهواء والبدع
قال ﵀: [ولما كان القرآن متميزًا بنفسه؛ لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:٨٨] وكان منقولًا بالتواتر، لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد.
فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان.
وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه، الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول.
وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب أمر حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمنًا يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورًا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين؛ ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون.
فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله، كان من أولياء الله المتقين، أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس:٦٢ - ٦٤].
وقد فسر النبي ﷺ البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه.
الثاني: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، فقيل: يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه قال: تلك عاجل بشرى المؤمن).
وقال البراء بن عازب ﵁ (سئل النبي ﷺ عن قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس:٦٤] فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له).
والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله ﷺ الربان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١]، قال ابن عباس ﵄: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد ﷺ، وجعله سلمًا إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم].
هذه سمة من سمات هذه الأمة في الجملة، أعنى: أن الله ميز هذه الأمة بالإسناد، والسنة باقية أيضًا في أهل السنة والجماعة، وعليه فالدين بل وآثار السلف تقوم على الإسناد، والمقصود بالإسناد: الإسناد الصحيح، وإلا فهناك من تعلق بالأسانيد، وخاصة بعدما اشتهر أمر الإسناد عن هذه الأمة واستقر عند أهل السنة، وعرف الصحيح من السقيم كأهل البدع والأهواء، الذين صاروا يتشبهون بأهل السنة في مسألة الاعتماد على الأسانيد التي لا أصل لها، وأحيانًا نجد أهل البدع من الصوفية والقدرية من تصدى لبدعته فجعل لها أسانيد من عنده، وهذا من باب التقليد والتشبه لا من باب الأسانيد الحقيقية، ولذا فأسانيد أهل الأهواء ليست صحيحة، ثم إنها قد تشتمل أيضًا على شيء من الخلط، أو قد تكون هناك أسانيد صحيحة ومتون فاسدة أو مكذوبة؛ لأنها أولًا لم تسند إلى النبي ﷺ، وما أسندوها إلى النبي ﷺ فقد ثبت أنها موضوعة، لذا فأغلب أس
1 / 7