" والعالة " بتخفيف اللام جمع عائل وهو الفقير. وفي الحديث كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من تطويل البناء وتشييده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما وضعه في هذا التراب " ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة أي لم يشيد بناءه ولا طوله ولا تأنق فيه.
قوله: " رعاء الشاء " إنما خص رعاء الشاء بالذكر لأنهم أضعف أهل البادية معناه أنهم مع ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء.
وقوله: " فلبثت مليا " قد روي بالتاء يعني لبث عمر رضي الله عنه وروي فلبث بغير تاء يعني أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه وكلاهما صحيح المعنى، وقوله: " مليا " هو بتشديد الياء أي زمانا كثيرا وكان ذلك ثلاثا هكذا جاء مبينا في رواية أبي داود وغيره.
وقوله: " أتاكم يعلمكم دينكم " أي قواعد دينكم أو كليات دينكم قاله الشيخ محيي الدين في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم.
أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدرة الله تعالى وذكر بيان الإسلام والإيمان كلاما طويلا وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء، منها ما حكاه عن الإمام أبي الحسين المعروف بابن بطال المالكي، أنه قال: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص بدليل قوله تعالى: (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) ونحوها من الآيات، قال بعض العلماء نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وبين أصل وضعه في اللغة وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر بظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان المصدقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يغريهم السفه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال فأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك وهذا لا يمكن إنكاره ولا يشك في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: " قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام " وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله أكثر من أن تحصر قال الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم وحكي عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة إلى آخره " ثم فسر الإيمان بقوله أن تؤمن بالله تعالى وملائكته إلى آخره، وقال رحمه الله هذا بيان أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويبان أصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين، وإنما أضاف إليها الصلاة والزكاة والصوم الحج، لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها. وبقيامه بها يصح إسلامه.
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية وكذلك جاز اطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " .
واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فإن ذلك كله استسلام قال فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وقال هذا التحقيق واف بالتوفيق ونصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم والله أعلم.
صفحه ۸