وأما إن جوز نقيض ما ترجح عنده بأمر مرهوم لا أصل له كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك فهذا يجب أن لا يلتفت إليه فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس والورع منه وسوسة شيطان إذ ليس فيه من معنى الشبه شيء والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يعلمهن كثير من الناس " أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة فإذا علم بأي أصل تلتحق زال كونها شبهة وكانت إما من الحلال أو من الحرام وفيخ دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس.
وقوله: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " مما يشتبه.
وأما قوله: " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " فذلك يكون بوجهين أحدهما: أن من لم يتق الله وتجرأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات ويحمله التساهل في أمرها على الجرأة على الحرام كما قال بعضهم الصغيرة تجر الكبيرة والكبيرة تجر الكفر وكما روي " المعاصي بريد الكفر " .
الوجه الثاني أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه لفقدان نور العلم ونور الورع فيقع في الحرام وهو لا يشعر وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير. وقوله صلى الله عليه وسلم: " كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه " هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة ولا ينضبط فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك وهكذا محارم الله عز وجل من القتل والربا والسرقة وشرب الخمر والقذاف والغيبة والنميمة ونحو ذلك لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
" ويوشك " بكسر الشين مضارع أوشك بفتحها وهي من أفعال المقاربة، و " يرتع " بفتح التاء معناه أكل الماشية من المرعى وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث.
المضغة: القطعة من اللحم وهي قدر ما يمضغه الماضغ يعني بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها، وصلحت رويناه بفتح اللام والقلب في الأصل مصدر وسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه وأنشد بعضهم في هذا المعنى.
ما سمى القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وخص اله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة فتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها وتميز به مضارها من منافعها ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وإضافة إلى القلب فقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) وقد جعل الله الجوارح مسخرة له ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها وعملت على معناه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فإذا فهمت هذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
الدين النصيحة
7 - " عن أبي رقية تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " رواه مسلم " .
......................................................
ليس لتميم الداري رضي الله عنه غير هذا الحديث. والنصيحة كلمة جامعة معناها إرادة جملة خير حيازة لحظ المنصوح له. وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة معا.
ومعنى قوله " الدين النصيحة " أي عماد الدين وقوامه النصيحة كقوله: " الحج عرفة " أي عماده ومعظمه.
صفحه ۱۲