Sharh al-Aqidah al-Wasitiyyah by Khalid al-Muslih
شرح العقيدة الواسطية لخالد المصلح
ژانرها
شرح العقيدة الواسطية [١]
من أهم العلوم التي يجب على الإنسان أن يتعلمها: علم العقيدة، إذ به النجاة من الفتن، والعصمة من الشبهات.
ومن أحسن ما كتب في العقيدة: كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وما ذاك إلا لما اشتمل عليه من الاعتقاد الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة.
1 / 1
سبب تأليف العقيدة الواسطية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا أول دروس العقيدة الواسطية، والعقيدة الواسطية هي: عقيدة مختصرة مباركة، ألفها الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، ألفها استجابة لطلب أحد قضاة واسط يدعى: رضي الدين الواسطي، أتى إلى الشيخ ﵀ وطلب منه أن يكتب له عقيدة يعتمدها ويستند إليها، فاعتذر الشيخ ﵀ وطلب منه العذر، وقال له في اعتذاره: إن عقائد العلماء المؤلفة كثيرة، فخذ أحدها واكتفي به، فألح عليه هذا القاضي، يقول الشيخ ﵀: فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، والإنسان يعجب من هذه العقيدة التي كتبها الشيخ ﵀ استجابة لطلب هذا القاضي دون إعداد مسبق، مع ما تميزت به من ميزات قل توافرها في كثير من العقائد المؤلفة!
1 / 2
بعض ميزات العقيدة الواسطية
هذه العقيدة اتسمت وتميزت عن غيرها من العقائد بأنها عقيدة مستندة إلى الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؛ ولذلك قال الشيخ ﵀ -في المناظرة التي عقدت له حول هذه العقيدة-: تحريت في هذه العقيدة الكتاب والسنة، وقال ﵀ -في جملة ما قال-: إنه ما من لفظ في هذه العقيدة إلا وله دليل من الكتاب أو السنة أو إجماع السلف، وهذا يدلك على أن هذه العقيدة منبثقة وصادرة عما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضًا: أنها عقيدة استقرأت أقوال السلف، وتتبعت ما قاله أئمة الأمة من الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة، وأجملت واختصرت بعبارة واضحة؛ ولذلك قال الشيخ ﵀ -في المناظرة التي عقدت له حول هذه العقيدة-: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم.
يعني: لم تكن هذه العقيدة خاصة بإمام من الأئمة، أو عالم من العلماء، بل هي مجمل ما اعتقده سلف هذه الأمة، على اختلاف مذاهبهم العملية، وإن كانوا لا يختلفون في المذهب الاعتقادي والمنهج الاعتقادي، فالمنهج الاعتقادي لأهل السنة والجماعة واحد.
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضًا: تحرير ألفاظها تحريرًا بالغًا دقيقًا، حتى إن الشيخ ﵀ تحدى خصومه الذين ناظروه ووشوا به إلى السلطان، وأمهلهم ثلاث سنوات ليأتوا بشيء في هذه العقيدة يخالف ما عليه سلف الأمة، وهذا يدلك على بلاغة التحرير، وعظم التدقيق في هذه العقيدة.
ومما تميزت به هذه العقيدة أيضًا: أنها من العقائد الشاملة لكثير من مسائل الأصول، فليست معتنية بجانب من جوانب العقيدة، بل انتظمت أكثر مسائل الاعتقاد: فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالمعاد، وفيما يتعلق بالإيمان، وفيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالمسلك العملي لأهل السنة والجماعة، وهذه إضافة على سائر العقائد، فإن كثيرًا من العقائد تذكر صفات أهل السنة والجماعة في الأصول، وتذكر ما تميزوا به في الفروع، لكن يغفلون الجانب العملي، وهذه العقيدة أولت الجانب العملي اهتمامًا، فأفرد الشيخ ﵀ في هذه العقيدة توضيحًا في فصل أو فصلين في آخرها، بين فيه المسلك العملي الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة.
ومما تميزت به هذه العقيدة: أنها حضيت باهتمام وثناء العلماء قديمًا وحديثًا، فالثناء عليها موصول، فأثنى عليها الذهبي، وأثنى عليها ابن رجب، والأول من تلاميذ شيخ الإسلام ﵀ ومن معاصريه، والثناء عليها موصول إلى يومنا هذا؛ ولذلك كثر الحفاظ لها، والدارسون لها والمدرسون، فاهتم بها أهل العلم تعلمًا وتعليمًا، حفظًا وتدريسًا، وهذا لما تضمنته من المزايا السابقة، وهي عقيدة مباركة سلفية واضحة، لا يملك الخصم إلا أن يسلم لما احتوته؛ لكونها مليئة بالدلائل الواضحة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
وقراءتنا لهذه الرسالة -إن شاء الله تعالى- ستكون تنبيهًا على القواعد والجمل والأصول في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وسنترك الاستطراد فيما لا صلة له مباشرة بما نحن فيه من دراسة العقائد المضمنة في هذه الرسالة.
أسأل الله ﷿ أن يرزقنا السداد، وأن يعيننا على الصواب، وأن يوفقنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبالمناسبة فقد جمعت في كتاب لطيف كلام شيخ الإسلام ﵀ على أكثر مباحثها، ولخصت فيه جل ما علق عليه الشيخ، وتكلم عليه من مسائل هذه الرسالة.
1 / 3
مشروعية البدء بالبسملة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة: أهل السنة والجماعة.
وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ: من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل] .
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) افتتح الشيخ ﵀ هذه الرسالة المباركة بالبسملة، وهي سنة جارية جرى عليها أهل العلم قديمًا وحديثًا تأسيًا بكتاب الله ﷿، حيث افتتح الله ﷿ كتابه بالبسملة، وعملًا بسنة رسول الله ﷺ، فإن النبي ﷺ كان يفتتح كتبه ورسائله بالبسملة، وعلى هذا جرى أهل العلم، وورد في ذلك حديث إلا أنه لا يقوى من حيث السند على إثبات سنية هذه البسملة في أول الرسائل، لكن دليل هذا كتاب الله ﷿، وهدي النبي ﷺ، أما الحديث الوارد في ذلك فهو ضعيف.
والكلام على البسملة واضح، إلا أن شيخ الإسلام ﵀ اختار في متعلق البسملة أنه اسم، خلافًا لما جرى عليه كثير من النحاة من أن متعلق البسملة فعل، وهذا شيء ينبه عليه؛ لخروجه عن المعروف المشهور في متعلق البسملة، فإن البسملة جملة تامة متعلقة بفعل أو باسم، والشيخ ﵀ اختار أنها متعلقة باسم مؤخر مناسب، والتقدير: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، وغيره يقدر فعلًا، فيكون التقدير: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.
افتتح الشيخ ﵀ هذه الرسالة بالبسملة وثنى بالحمد، واختار هذه الصيغة في الحمد، وهي من براعة الاستهلال؛ لأن هذه الرسالة تضمنت بيان أمرين: بيان العلم النافع، وبيان العمل الصالح؛ ولذلك قال: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فالدين معناه العمل كقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون:٦] أي: لكم عملكم ولي عملي.
1 / 4
الكلام على الحمد
والحمد عرفه كثير من المفسرين بأنه: الثناء بجميل الأوصاف، وأبلغ من هذا وأصح في بيان معنى الحمد ما ذكره شيخ الإسلام ﵀ من أن الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيمًا؛ لأن الثناء بجميل الأوصاف مجردًا عن المحبة والتعظيم ليس هو الحمد المذكور في كتاب الله ﷿، ولا هو المناسب للخالق جل وعلا، بل الحمد المناسب له هو ذكره ﷾ بصفات الكمال محبة وتعظيمًا.
والألف واللام في الحمد للاستغراق كما هو معلوم، فجميع المحامد لله ﷾، فله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، وله الحمد كله جل وعلا.
والغالب في الحمد أن يعقبه ذكر أسماء الله ﷿، أو صفاته العلا، أو أفعاله الجميلة، هذا هو الغالب في ذكر الحمد في كتاب الله ﷿، وفيما يفتتح به الخطاب.
وهنا ذكر فعلًا من أفعاله الجميلة، وهو إرساله ﷾ رسوله بالهدى ودين الحق، والرسول المقصود به محمدًا ﷺ، وإن كان كل رسول أرسله الله ﷿ موصوفًا بهذين الوصفين، أي: أن رسالته بالهدى ودين الحق، لكن أوفرهم نصيبًا وأعظمهم حظًا من هذين الوصفين هو محمد رسول الله ﷺ.
قوله: (ليظهره على الدين كله) .
(ليظهره): اللام هنا للعاقبة، أي: عاقبة هذا الإرسال ظهور هذا الرسول وما جاء به.
(على الدين كله) يعني: على جميع الملل على اختلافها وتنوعها دون استثناء، ما كان منها صحيح في وقته، وما كان منها غير صحيح.
1 / 5
معنى: وكفى بالله شهيدًا
(وكفى بالله شهيدًا) أي: كفى به ﷾ شهيدًا على صحة ما جاء به الرسول ﷺ، وهذا من الاستشهاد بفعله على صحة ما جاءت به رسله؛ لأنه من المحال أن يكون ما جاءت به الرسل كذبًا وضلالًا، ومع ذلك يشاهدهم الله ﷿ ويقرهم على كذبهم وضلالهم، فلما أقرهم وأدالهم على عدوهم ونصرهم وأظهر ما جاءوا به، دل ذلك على صحة ما جاءوا به؛ ولذلك تكفي شهادة الله في صدق الرسل، ولما طلب الكفار من النبي ﷺ آية قال: ﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الرعد:٤٣] أي: إني أدعوكم وأبين لكم وأقول لكم: إن الله يأمركم بكذا، وينهاكم عن كذا، والله شاهد على ذلك، ولم ينزل بي عقوبة، بل أظهرني وأيدني ونصرني وأمدني بالحجج والبينات! (وكفى): فعل يستعمل غالبًا في تقوية اتصاف الفاعل بوصف يدل على التمييز المذكور، وهذه في جميع السياقات التي يرد فيها هذا الفعل بهذه الصيغة: كفى بالله شهيدًا، كفى بالله نصيرًا، كفى بالله وكيلًا، كل هذا لبيان وتقوية اتصاف الفاعل -وهو الله جل وعلا في هذه السياقات- بالتمييز المذكور وهو في سياقنا هذا (شهيدًا)، وفيما ذكرنا من الأمثلة: وكيلًا ونصيرًا وما أشبه ذلك.
1 / 6
مناسبة ذكر الشهادة
يقول ﵀: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا) بعد أن فرغ من ذكر الحمد ثنى بعد ذلك بذكر الشهادة، وهي مما تجمل به الخطب، وهي لب الإسلام، وقلب الإيمان، وهي أوله وآخره؛ ولذلك ناسب أن تفتتح بها الخطب والمقالات.
أشهد أن إلا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا، أي: إقرارًا بالقلب واللسان، وتوحيدًا، أي: أشهد بذلك مفردًا الله ﷿ بهذه الشهادة، فلا أشهد بها لغيره ﷾.
قوله: (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا) فبعد أن شهد لله بالوحدانية شهد للنبي ﷺ بالرسالة، ووصفه بأعظم وصفين يوصف بهما النبي ﷺ، وهما وصف العبودية والرسالة في قوله: عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلمًا مزيدًا آمين.
1 / 7
معنى: أما بعد
ثم قال ﵀: (أما بعد) .
جملة (أما بعد) يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى المقصود بالكلام، وليس كما يقول بعض أهل اللغة من أنها تستعمل في الانتقال من موضوع إلى موضوع، أو من أسلوب إلى أسلوب، هذا لم يجر على لسان العرب، والذي جرى في استعمال النبي ﷺ -وهو أبلغ الفصحاء- استعمال هذا اللفظ في الانتقال من المقدمة والاستفتاح إلى المقصود بالحديث.
1 / 8
اعتقاد الفرقة الناجية
قوله: (فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة) هذا هو ما تضمنته هذه الرسالة، فالمشار إليه ما احتوته هذه الرسالة المباركة من اعتقاد الفرقة الناجية، أي: ما تعتقده الفرقة الناجية المنصورة، فوصف هذه الفرقة بوصفين: وصف النجاة ووصف النصر، وهما وصفان دل عليهما سنة رسول الله ﷺ، أما النجاة: ففي قول النبي ﷺ: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وسميت ناجية لأنها نجت من النار، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فلكونها نجت من البدعة والضلالة، وأما كونها منصورة فلما رواه الإمام أحمد من قوله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين -بهذا اللفظ- لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، فشهد لهم النبي ﷺ بالنصر؛ ولذلك قال الشيخ ﵀: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، فهما وصفان لفرقة واحدة، (إلى قيام الساعة) أي: منصورة إلى قيام الساعة للحديث الذي ذكرناه.
1 / 9
أهل السنة والجماعة
قوله: (أهل السنة والجماعة) هذا من عطف البيان، والمقصود به زيادة التوضيح والبيان لهذه الفرقة، من هي هذه الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة؟ هم أهل السنة والجماعة، وأهل الشيء هم أصحابه المتمسكون به، المعروفون به، فهؤلاء عرفوا بهذين الوصفين، وهما: مصاحبة السنة، ومصاحبة الجماعة، أما السنة فلقول النبي ﷺ لما سئل عن الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وأما الجماعة؛ فللرواية التي وردت في بيان هذه الفرقة حيث قال النبي ﷺ (هم الجماعة) وقوله: (ويد الله على الجماعة) فدل ذلك على أن هذين الوصفين مأخوذان من سنة رسول الله ﷺ.
1 / 10
عقيدة أهل السنة والجماعة إجمالًا
ثم بدأ المؤلف بعد بيانه لما تضمنته هذه الرسالة بتفصيل مضمونها، ومن جميل تأليفه وحسن تصنيفه ﵀ أن افتتح ذلك ببيان الجملة العامة التي تنتظم عقيدة أهل السنة والجماعة، فبين عقد أهل السنة والجماعة على وجه الإجمال، وانتقل منه إلى التفصيل، وهذا من بديع التصنيف والتأليف، أن يبدأ الإنسان بذكر الجملة العامة التي تنتظم ما سيتكلم عنه؛ وذلك ليدرك الإنسان ما هو مضمون هذا المؤلف، وليتشوف أيضًا لمزيد بيان لهذه الجملة المقدمة، فابتدأ الشيخ ﵀ في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ببيان الإيمان المجمل العام الذي يطالب به كل أحد، والذي لا يستقيم الإيمان في قلب أحد إلا بالإقرار به، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه هي أصول الإيمان وقواعده ومبانيه العظام التي لا يثبت الإيمان إلا بها.
ودليل هذا الكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة:١٧٧] وهذا شاهد لخمسة أصول، بقي القدر أين دليله؟! قول الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩] فهذا دليل هذه الأصول الستة من الكتاب، أما دليلها من السنة: فحديث عمر بن الخطاب ﵁ في قصة مجيء جبريل، وسؤاله النبي ﷺ عن الإيمان، فأجابه رسول الله ﷺ فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وهذا الإيمان هو الإيمان المجمل.
ما معنى: الإيمان المجمل؟ معنى الإيمان المجمل أي: الإيمان المطلوب من كل أحد على وجه الإجمال، ولو لم يعلم تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالله، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالملائكة، وبقية أركان الإيمان، فالإيمان المجمل هو: أن يقر الإنسان بجميع ما جاء به الرسول ﷺ على وجه الإجمال، ولو لم يدرك معناه، ولو لم يبلغه تفصيله، وهذا الإيمان لا يعذر أحد بتركه، وأما التفصيل فيختلف باختلاف أحوال الناس.
1 / 11
الأمور التي يتضمنها الإيمان المجمل
وبعد أن ذكر الشيخ ﵀ الإيمان على وجه الإجمال انتقل إلى التفصيل، ولكن نقف عند ما يتضمنه الإيمان المجمل في هذه الأصول الستة، فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بوجوده الإيمان بربوبيته الإيمان بأسمائه وصفاته الإيمان بإلاهيته جل وعلا، وأهم هذه الأمور وأصلها الذي لا يقر الإيمان ولا يستقيم إلا به، هو الإيمان بإلاهيته؛ لأنه يتضمن جميع أنواع التوحيد الأخرى؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ﵀ في توحيد الإلهية: وهو قلب الإيمان وأوله وآخره.
كيف أوله؟! لا يدخل إنسان الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وآخره: أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا يدل على عظم هذا النوع من التوحيد، وعلى أهميته، وعلى شدة الحاجة إليه، ومن استقام له هذا النوع فإن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات تابع له؛ لأنه يتضمن ويستلزم هذين النوعين.
والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بما أخبر الله عنهم في كتابه من أنهم مخلوقون من نور، وأنهم مربوبون متعبدون لله جل وعلا، والإيمان بما ذكر من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم، وكل هذا يندرج تحت بالملائكة، والإيمان بمن ذكر الله اسمه منهم كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وأن من لم يسمه الله لنا منهم أكثر ولا يحصيهم إلا الله، والملائكة من عالم الغيب، هذا المعنى العام للملائكة وما يتضمنه الإيمان بهم.
والكتب: جمع كتاب، والإيمان بالكتب يتضمن: الإيمان بأن الله ﷿ أنزل إلى رسله كتبه، منها ما ذكره في كتابه، ومنها ما لم يذكره، وأنه ﷾ تكلم بهذه الكتب، فكل كتاب أنزله فقد تكلم به كلامًا حقيقيًا، والإيمان بما سماه الله من هذه الكتب كالإنجيل والتوراة والزبور، هذا ما يتضمنه الإيمان بالكتب عمومًا.
والقرآن أخص هذه الكتب وألزمها إيمانًا؛ لأنه الكتاب الذي اختصت به هذه الأمة، فتميز عن غيره من الكتب بوجوب تصديق أخباره، ووجوب الانقياد لأحكامه، وهذا ليس من لازم الإيمان بالتوراة، ولا من لازم الإيمان بالإنجيل، ولا بغيرهما من الكتب، بل هو مما اختص به الإيمان بالقرآن.
والإيمان بالرسل يتضمن: الإيمان بأن الله ﷿ أرسل إلى خلقه رسلًا، سمى لنا منهم من سمى، وهم عدد لا يحصيه إلا الله جل وعلا، وأشرفهم وخاتمهم محمد ﷺ، والواجب الإيمان بالجميع: من سماهم الله لنا منهم ومن لم يسمه.
والبعث بعد الموت -أيضًا- من أصول الإيمان، وهذا الإيمان يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به الله ﷿، وأخبر به رسوله ﷺ مما يكون بعد الموت، وسيأتي تفصيل هذا النوع من أركان الإيمان وأصوله في هذه الرسالة.
والإيمان بالقدر خيره وشره هو الإيمان بأنه ما من شيء إلا بقضاء الله جل وعلا وقدره، وسيأتي تفصيل هذا النوع من الإيمان، وما يتضمنه من مراتب في هذه الرسالة المباركة.
هذا هو الإيمان المجمل الذي افتتح به الشيخ ﵀ هذه الرسالة المباركة، ثم بعد ذلك انتقل إلى التفصيل، وابتدأ في التفصيل بذكر ما يتضمنه الإيمان بالله تعالى، فقال ﵀: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه) إلى آخر ما قال.
1 / 12
شرح العقيدة الواسطية [٢]
إن مما يجب علينا الإيمان به: الإيمان بما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فإن الله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ»، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة.
2 / 1
وقوف أهل الحق عند أدلة الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال المصنف ﵀: [ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه ﷾، فإنه أعلم سبحانه بنفسه وبغيره، وأصدق قيلًا وأحسن حديثًا من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات:١٨٠-١٨٢] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب] .
نشرع بإذن الله في تفصيل ما ذكره الشيخ ﵀ من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة على وجه الإجمال في قوله: (وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره) .
قال ﵀: (ومن الإيمان بالله -هذا تفصيل للإجمال السابق-: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، فهم واقفون في هذا الباب على ما جاء عن الله ﷿، وعلى ما جاء عن النبي ﷺ، لا يزيدون في ذلك ولا ينقصون، بل هم مع النصوص دائرون، وحيث ما نزلت ينزلون، وحيث ما ارتحلت يرتحلون، فإمامهم وقدوتهم فيما يعتقدونه في الله جل وعلا -في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد- ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وهذه والله السعادة والطمأنينة؛ لأن الإنسان يصدر في أهم أمر وأعظمه عن حجج واضحة وبينات ساطعة، بخلاف أولئك الذين يتخبطون، وفي كل واد يهيمون، لا يصيبون صوابًا، ولا يحققون خيرًا.
2 / 2
سبب تخصيص المصنف توحيد الأسماء والصفات بالذكر في هذه الرسالة
وخص المؤلف ﵀ هذا النوع من التوحيد بالبيان في هذه الرسالة؛ لما شاع في عصره وكثر في زمنه من الانحراف في باب الأسماء والصفات، ولأن الذي طلب منه التأليف والكتابة شكا له حال الناس في جهته، وما هم فيه من اضطراب واختلاف، فبين الشيخ ﵀ هذا الجانب بيانًا واضحًا في هذه الرسالة المباركة.
هذا من وجه.
ومن وجه آخر وهو أن سبب تخصيص المؤلف ﵀ هذا النوع من التوحيد بالعناية: أن الرسل جميعًا جاءت داعية إلى الله ﷿، مُعرَّفةً بالله ﷿ وبأسمائه وصفاته، ولا يمكن أن يستقيم عقد الإيمان، ولا توحيد العبد إلا بكمال الإيمان بالأسماء والصفات؛ ولذلك فصل الشيخ ﵀ في هذا، وبين بيانًا شافيًا واضحًا، وبدأ الشيخ ﵀ في تقرير هذا الأمر ببيان المنهج العام الذي يسلكه أهل السنة والجماعة أهل الفرقة الناجية في هذا الباب من أبواب المعرفة بالله ﷾، فقال ﵀: (الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ، فالمصدر لإثبات الأسماء والصفات ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة.
2 / 3
قيود هامة في باب الأسماء والصفات
ولما كان كل أحد ممن ينتسب إلى أهل الإسلام وهو من أهل القبلة يدعي أنه إنما يصدر عن الكتاب والسنة؛ أراد المؤلف تمييز منهج أهل السنة والجماعة (الفرقة الناجية) عن غيرهم من الفرق وعن غيرهم من الطوائف، وهذا تمييز دقيق ومعيار صحيح لتخليص طريق أهل السنة والجماعة عن غيرهم بهذه القيود التي ابتدأها بقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) وهذه القيود الأربعة يأمن بها الإنسان من نوعي البدع في باب الأسماء والصفات، فإن البدع في باب الأسماء والصفات على اختلاف الطوائف، وتنوع الطرق ترجع إلى طريقين كبيرين: طريق المعطلة، وطريق الممثلة، وبهذه الاحترازات المذكورة تحصل السلامة للمؤمن من هاتين البدعتين في باب الأسماء والصفات، فقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) هذا ضمان السلامة من بدعة المعطلة، وقوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) هذا ضمان السلامة من بدعة التمثيل؛ ولذلك حري بنا أن نقف عند هذه القيود؛ لنتبين معانيها، ونعرف ماذا تتضمن، فليست هي من عطف المترادفات، وإنما كل قيد مراد.
2 / 4
معنى التحريف
قوله ﵀: (من غير تحريف) .
التحريف في الأصل: هو الميل بالشيء إلى حرفه، أي: إلى جانبه، فالأصل في التحريف الميل، من حرفت الشيء إذا أملته، والمراد به هنا: إزالة اللفظ عن معناه، أو صرف اللفظ عن معناه الراجح المتبادر إلى المعنى المرجوح من غير دليل، وهذا التحريف يسميه أهله تأويلًا، فحيث ما رأيت في كلام المبتدعة من أهل الكلام التأويل فمرادهم به التحريف، وليس هذا معروفًا في اصطلاح المتقدمين، فإن التأويل في اصطلاح المتقدمين هو التفسير؛ ولذلك يكثر في كلامهم: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، ثم يفسر ويبين ويشرح الآية، فالتأويل في لسان القرون المفضلة وسلف هذه الأمة معناه التفسير.
ومما يراد به أيضًا: حقيقة ما يئول إليه الخطاب، وهذا كفعل النبي ﷺ حيث كان يسبح في ركوعه وسجوده، ويكثر من قول: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)، يتأول بذلك قوله ﷾: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر:١-٣] فهو يتأول، أي: يعمل بما تضمنته هذه الآية، هذا هو معنى التأويل في كلام السلف وأهل القرون المفضلة، أما التأويل في كلام المتأخرين فهو التحريف الذي فسرناه: وهو إزالة اللفظ عن معناه، أو صرف اللفظ عن معناه الظاهر المتبادر إلى معنى مرجوح من غير دليل.
2 / 5
معنى التعطيل
ثم قال ﵀ في بيان القيد الثاني: (ولا تعطيل)، فثاني القيود نفي التعطيل، والتعطيل في اللغة: مأخوذ من عطَّل الشيء إذا أخلاه، والمراد به هنا نفي الصفات، إما كليًا أو جزئيًا، فكل من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ فله نصيب من التعطيل، فمن نفى الصفات جميعًا فهو معطل للجميع، ومن نفى بعضها -كمثبتة الصفات- وأثبت البعض فهو معطل تعطيلًا جزئيًا، المهم أن التعطيل هو نفي الصفات، فإما أن يكون كليًا يعني: يكون نفيه كليًا، وإما على جزء من الصفات فيكون نفيه جزئيًا.
والتحريف والتعطيل مقترنان، فكل من حرف فقد عطل، وكل من عطل فإنه لا يصل إلى تعطيله إلا بتحريف، وإنما قدم التحريف على التعطيل؛ لأنه سبيله والوسيلة إليه، فإنما يتوصل المعطل إلى تعطيله عن طريق التحريف.
2 / 6
أنواع التحريف
واعلم أن التحريف قد يكون تحريفًا في المعنى، وقد يكون تحريفًا في اللفظ، وقد يكون تحريفًا في اللفظ والمعنى، وكل هذه الأنواع تفضي بصاحبها إلى التعطيل، فتحريف المعنى -وهو الغالب الكثير في أهل الكلام-: صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن المعنى الظاهر، وإزالة اللفظ عن معناه، مثال ذلك: تأويل وتحريف الاستواء بالاستيلاء، فقالوا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] أي: استولى، هل هذا تحريف لفظي أو معنوي؟ تحريف معنوي، هم ما غيروا ما في المصحف، إنما غيروا المعنى، ومن التحريف المعنوي: قولهم في قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:١٦٤] قالوا: كلمه أي: جرحه بأظافير الحكمة، فحملوا الكلم هنا على معنىً غير المعنى المتبادر من اللفظ، وهو الكلام المعروف، وهذا من التحريف المعنوي.
ومن التحريف اللفظي: ما اقترحه ابن أبي دؤاد على المأمون من تغيير قوله تعالى وكان مكتوبًا على ستار الكعبة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] قال: أزل: السميع البصير، وضع: العزيز الحكيم (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) فهذا تحريف لفظي، وما المراد منه؟! المراد منه نفي اتصاف الله ﷿ بالسمع والبصر.
ومنه قول جهم: وددت أن أحك من المصحف: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، أحك يعني: أزيل، فهذا تحريف لفظي.
النوع الثالث من التحريف: التحريف اللفظي المعنوي، وهو مجتمع في تحريف بعضهم لقوله تعالى: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) وجه ذلك: أنهم غيروا الحركة المتفق عليها بين القراء، وهي الضم في لفظ الجلالة، فالآية: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:١٦٤] فمن الفاعل للتكليم؟ الله جل وعلا، فقلبوا الأمر، وجعلوا الله مكلمًا لا متكلمًا فقالوا: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) فجعلوا المتكلم موسى، وهذا تحريف لفظي ومعنوي، والرد عليهم من أسهل ما يكون، حيث قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف:١٤٣]، فهذا لا يمكن تحريفها، فماذا يفعلون بالضمير: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)؟! وهذا يدل على أن كل من أراد أن يبطل شيئًا في كتاب الله ﷿ فإنه ينقلب عليه ما استدل به، وهذه قاعدة مطردة: أن كل من استدل بشيء من الكتاب والسنة على باطله، كان فيما استدل به ما يبطل ما ادعاه من الباطل والزور، المهم أن التحريف الذي يتوصلون به إلى التعطيل قد يكون في اللفظ، وقد يكون في المعنى، وقد يكون في اللفظ والمعنى.
2 / 7
معنى التكييف
ثم قال ﵀: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) التكييف مأخوذ من الكيف، والكيف هو طلب صورة الشيء، فالتكييف طلب صورة الصفات وحقيقتها، فكل من طلب هيئة الصفة وصورة الصفة وحقيقة الصفة، وحقيقة ما أخبر الله به عن نفسه فإنه مكيف، وأهل السنة والجماعة قد أوصدوا هذا الباب وأغلقوه، فلا سبيل إلى معرفة الكيفيات؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه أمر لا تدركه العقول على وجه الكمال، إنما ندرك منه المعنى، وأما الحقائق وما عليه الأمر فإنه من العلم الذي استأثر به الله ﷾، قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٧] إذا وقفنا على لفظ الجلالة فالمقصود بالتأويل هنا: حقيقة ما يئول إليه ما أخبر به ﷾ عن نفسه وعن أمور الغيب، فإنه لا يعلم ذلك إلا الله ﷾.
فإذا قال قائل: كيف استوى على العرش؟ كيف وجهه؟ كيف يده؟ كيف كلامه؟ كل هذا لا سبيل إلى معرفته؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه، والله ﷾ قد نفى الإحاطة بصفة من صفاته، فكيف بصفاته؟ فكيف به ﷾، قال ﷾: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ [البقرة:٢٥٥] فنفى الإحاطة بشيء من علم الله جل وعلا، فكيف بمن أراد أن يحيط بجميع صفاته وما أخبر به عن نفسه؟ وقال ﷾: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠] حتى النظر الذي أخبر به ﷾ في نعيم أهل الجنة ليس نظرًا يدرك به الناظر الله جل وعلا، بل قد قال ﷾: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ [الأنعام:١٠٣] فنفى إدراك الأبصار له؛ وذلك لكماله وبديع وجميل صفاته وذاته ﷾.
فإذا كان العبد لا يمكن أن يدرك ما وصف الله به نفسه إدراكًا تامًا، فكيف يستطيع أن يكيف ما وصف الله به نفسه؟ هذا باب موصد لا سبيل إلى تحصيله ولا إلى ولوجه، والمؤمن يقف عند ما أخبر الله به ورسوله ﷺ، ويقول: يسعني ما وسع رسول الله ﷺ والصحابة وسلف الأمة، ومن تجاوز هذا الحد فإنه قد ولج باب بدعة.
2 / 8