Sharh al-'Aqidah al-Tahawiyyah - Nasir al-'Aql
شرح العقيدة الطحاوية - ناصر العقل
ژانرها
توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول
قال: [الخامس عشر: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: فكل ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يستخدم بدقة وإمعان؛ لأن العقل الصريح في دلالته على المراد لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت؛ لأن العقل والنقل وسيلتان لغاية واحدة: هي الوصول إلى الله، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يمكن لها أن تتعارض].
أظن أن هذه المسألة واضحة، ولكن أحب أن أبين أمرًا فيها قد لا يكون المتكلم عرج عليه هنا، وهو مسألة: المقصود بصحيح المنقول، والمقصود بصريح المعقول.
فأما صحيح المنقول فأظنه واضحًا، وهو النص الصحيح الذي هو في كتاب الله تعالى، وما صح من السنة، سواء ما يتعلق بالعقيدة وبالأحكام، وسواء ما يتعلق بأمور الغيب والشهادة، وسواء ما يتعلق بالتكييفات وما يتعلق بعلل وحكم الشرع، كل ذلك إن ورد فيه قاطع في الشرع فلابد حتمًا من أن يوافق العقل السليم، لكن تبقى المشكلة في تحديد معنى العقل السليم الذي يحكم في هذا الأمر، وهذه مسألة نسبية، فلا يستطيع أحد من البشر على الإطلاق أن يحدد لنا أن فلانًا من الناس عقله سليم مطلقًا، فالعقل سلامته نسبية، كسلوك الأفراد وصلاحهم، فلا توجد عصمة العقل إلا للأنبياء، وغير الأنبياء عقولهم تتفاوت وإدراكاتهم تتفاوت، ومهما بلغت العقول فإن سلامتها سلامة نسبية.
إذًا: فسلامة العقل أمر مفترض في جملة العقول الصحيحة وليس في أفرادها، وهذا دفع لشبهة ظهرت في المتكلمين، وهي أن يدعي إنسان من المفكرين العباقرة بأنه يستطيع أن يضع موازين للدين يزن بها الشرع، كما فعل الرازي، فقد ذكر في كتابه: (تأسيس التأسيس) موازين عقلية، وجعلها هي الموازين التي توزن بها أمور الدين، وفي جملة ذلك نصوص الشرع، حتى إنه رد خبر الواحد ورد الأحاديث الصحيحة، وأول صفات الله وأول أخبار السمعيات؛ لأنه حينما حكم قواعده العقلية فيها تنافت معها بزعمه.
إذًا: فالعقل السليم لا يملكه شخص، بل هو عند جملة أهل الحق بمجموعهم، وضابط العقل السليم ضابط واضح، وهو أنه إن وافق الشرع فهو سليم، وإن خالف الشرع فإن فيه قصورًا أو خللًا، فإذا كان صاحبه صاحب بدعة وهوى ففيه خلل، وإذا كان العقل لا يوافق عقول أصحاب الهدى والاستقامة فإن فيه قصورًا عن إدراك مراد الشرع، فمن هنا اعتبر العقل مؤيدًا لا مصدرًا، فهو يعتبر رافدًا ولا يعتبر أساسًا.
قال: [يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح المعقول لم يخالفه السمع، الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلًا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته].
هذا صحيح؛ فإن الذين حكموا عقولهم في أمور الغيب لو أردنا منهم أن يثبتوا أن العقل استطاع أن يأتي بشيء تفصيلي غير ما جاء به الشرع لما استطاعوا، فالعقل لا يستطيع أن يدرك أمور الغيب، مهما بلغ من القوة والذكاء والحدة، فالمتكلمون الذين حكموا العقول وقعوا في معضلات لا يستطيعون التخلص منها، أول هذه المعضلات أن عقولهم لا تتفق، فعقل من نصدق، إنهم لم يتفقوا على أمر قطعي على الإطلاق، أي: أمر قطعي يثبت في أمر الغيب أنه كما هو في الغيب؛ لأنا لم نطلع على الغيب، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن ما نفوه ليس لديهم برهان على نفيه إلا في مدركات العقل العامة، مثل نفي النقائص عن الله ﷾، فهذا أمر قطعي على جهة الإجمال والتفصيل لا يحتاج إلى أن تعمل فيه العقول، لكن تبقى الدلالة على أن هذا اللفظ منفي معناه عن الله ﷾ على مراد الله، كنفيهم الاستواء بالعقل، فهم نفوا ما في أذهانهم، ولم يستطيعوا نفي الاستواء الحقيقي؛ لأن الاستواء الحقيقي الذي يليق بجلال الله تعالى لا نعلمه، أليس كذلك؟! وهل يستطيع عاقل مهما أوتي من القوة والذكاء أن يبين لنا كيف يكون استواء الله؟! إذًا: الذي نفوه هو وهمٌ في أذهانهم، فهم لما سمعوا قول الرحمن ﷾: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] توهموا أن الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، كاستواء الإنسان على الكرسي، فهل هذا الوهم حق؟! وهل هو قريب من الحق؟! وهل هو محتمل أن يكون حقًا؟! إذًا: هم نفوا ما في أذهانهم من الوهم؛ لأنهم حينما أثبتوا الأوهام التي في أذهانهم أثبتوها بغير دليل، وحينما نفوها نفوها بغير دليل، وأقحموا العقل المسكين في هذا، وهذه أعظم جناية على العقل، قالوا: إن العقل يحيل
1 / 6