وذلك أن «شرل» كان لدى نظره ل «سوسنة» وهي متشحة بثياب خطيبته «وردة» أصيب بدهش وحيرة عملا في عقله فخبل وجن، ولما بقيت كل الوسائط المتخذة في بيروت لعلاجه غير ناجعة مدة شهرين وطد القنصل عزمه على نقله إلى فينة ليعالجه هناك بعض نطاسيي الأطباء النمسويين.
فأقلعت السفينة في مساء ذلك النهار وتم السفر على غاية ما يرام من موافقة الرياح وهدو البحر، ووصلت أسرة القنصل «ب» إلى فينة في أواخر تشرين الثاني.
وكان بقرب العاصمة في ضاحية هيتسنغ
Hietsing
على مقربة من حديقة الصيد الإمبراطورية ومن الطريق المؤدية إلى مزار «ماريا برون» الشهير جادة قصر على جانبيها صفان من شجر السنديان القديم تنتهي ببقعة من الخضرة، يظهر وراءها قصر جميل أبيض اللون يتراءى رسمه منعكسا في بحرة يتراوح ماؤها بفعل نفحات النسيم، وكان حول البحرة أشجار كبيرة هائلة، تمتد تحتها ووراءها من كل الجهات حقول واسعة قائمة فيها بيوت صغيرة حمراء ومنازل للاصطياف معتدلة الحال منتصبة في وسط الخضرة، وكانت شمس تشرين الثاني المكفهرة ترسل أشعتها الذهبية بين أغصان الأشجار التي كان باقيا عليها شيء من الأوراق المصفرة جعدتها الريح الشمالية.
ففي هذا القصر الذي كان في سابق العهد منزلا لأجداده نزل «شرل دي لينس» وهو في حالة يرثى لها، فكنت تراه صلب نهاره راقدا على مقعد في غرفته وهو ممتقع اللون واهن القوة تغيرت بهجته وتنكرت بشاشته وخمد نوره وذهب بهاؤه حتى أصبح لا يعرفه من كان قد اعتاد النظر إلى ما كان عليه من الزهرة اللامعة والنضارة الرائقة.
وبينا كان نطس الأطباء يبذلون ما في وسع العلم لإصلاح الاختلال الذي طرأ على عقل البارون، التمس والدا «سوسنة» مساعدة جمعية من الراهبات الزاهدات اللواتي كان لهن في فينة شهرة طائرة بأعمال الرحمة، وكان من جملة أعمالهن المبرورة ومساعيهن المشكورة الذهاب إلى منازل المرضى للقيام عليهم أثناء المرض، فأجابت رئيسة الراهبات هذا الطلب بمحبة، ولما لم يكن لديها إذ ذاك لمثل هذه الخدمة الشريفة سوى راهبة واحدة أمرتها أن تذهب لتمريض ذلك البارون المنكود الطالع وبذل الاعتناء به.
وكانت تلك الراهبة صبية اسمها «أغنس» قد مرت عليها منذ عهد قريب السنة المسماة في عرف الرهبانية بسنة الابتداء، وكانت تلك الراهبة في زهاء العشرين من عمرها، بيد أن الناظر إليها كان يخال له أنها في نحو الثلاثين على الأقل؛ وذلك لما أصابها من الهموم الباطنة والمشاغل العقلية والمتاعب الجسدية، فضلا عما قاسته في سبيل دعوتها الرهبانية الجليلة، تلك الدعوة التي لا تليق إلا بمن كانت في نفسه شهامة الأبطال.
أجل، إن تلك المتاعب والهموم كانت لعبت بصحة الراهبة المتقدم ذكرها، فذهبت بجمالها وغيرت منظرها البهيج وأزالت من ملامحها تلك النضارة السنية والرونق الطري الخاص ببعض الأسرات الحسيبة.
12
صفحه نامشخص