شناشيل ابنة الجلبي
إرم ذات العماد
في الليل
في انتظار رسالة
الباب تقرعه الرياح
من ليالي السهاد
خلا البيت
جيكور وأشجار المدينة
ها ... ها ... هوه
أحبيني ...!
يقولون تحيا ...
وغدا سألقاها
ليلة الوداع
أغنية بنات الجن
جيكور أمي
يا غربة الروح
أم كلثوم والذكرى
كيف لم أحببك؟
أسير القراصنة
نسيم من القبر
في المستشفى
سلوى
متى نلتقي؟
أظل من بشر
القن والمجرة
عكاز في الجحيم
لوي مكنيس
حميد
المعول الحجري
في غابة الظلام
رسالة
ليلة انتظار
نفس وقبر
إقبال والليل
ليلى
شناشيل ابنة الجلبي
إرم ذات العماد
في الليل
في انتظار رسالة
الباب تقرعه الرياح
من ليالي السهاد
خلا البيت
جيكور وأشجار المدينة
ها ... ها ... هوه
أحبيني ...!
يقولون تحيا ...
وغدا سألقاها
ليلة الوداع
أغنية بنات الجن
جيكور أمي
يا غربة الروح
أم كلثوم والذكرى
كيف لم أحببك؟
أسير القراصنة
نسيم من القبر
في المستشفى
سلوى
متى نلتقي؟
أظل من بشر
القن والمجرة
عكاز في الجحيم
لوي مكنيس
حميد
المعول الحجري
في غابة الظلام
رسالة
ليلة انتظار
نفس وقبر
إقبال والليل
ليلى
شناشيل ابنة الجلبي وإقبال
شناشيل ابنة الجلبي وإقبال
تأليف
بدر شاكر السياب
شناشيل ابنة الجلبي
وأذكر من شتاء القرية النضاح فيه النور
من خلل السحاب كأنه النغم
تسرب من ثقوب المعزف - ارتعشت له الظلم
وقد غنى - صباحا قبل ... فيم أعد؟ طفلا كنت أبتسم
لليلي أو نهاري أثقلت أغصانه النشوى عيون الحور.
وكنا - جدنا الهدار يضحك أو يغني في ظلال الجوسق القصب
وفلاحيه ينتظرون: «غيثك يا إله!» وإخوتي في غابة اللعب
يصيدون الأرانب والفراش، و«أحمد» الناطور -
نحدق في ظلال الجوسق السمراء في النهر
ونرفع للسحاب عيوننا: سيسيل بالقطر.
وأرعدت السماء فرن قاع النهر، وارتعشت ذرى السعف
وأشعلهن ومض البرق أزرق ثم اخضر ثم تنطفئ
وفتحت السماء لغيثها المدرار بابا بعد باب
عاد منه النهر يضحك وهو ممتلئ
تكلله الفقائع، عاد أخضر، عاد أسمر، غص بالأنغام واللهف
وتحت النخل حيث تظل تمطر كل ما سعفه
تراقصت الفقائع وهي تفجر؛ إنه الرطب
تساقط في يد العذراء وهي تهز في لهفه
بجذع النخلة الفرعاء (تاج وليدك الأنوار لا الذهب،
سيصلب منه حب الآخرين، سيبرئ الأعمى،
ويبعث من قرار القبر ميتا هده التعب
من السفر الطويل إلى ظلام الموت، يكسو عظمه اللحما
ويوقد قلبه الثلجي فهو بحبه يثب!)
وأبرقت السماء ... فلاح، حيث تعرج النهر،
وطاف معلقا من دون أس يلثم الماء
شناشيل ابنة الجلبي نور حوله الزهر (عقود ندى من اللبلاب تسطع منه بيضاء)
وآسية الجميلة كحل الأحداق منها الوجد والسهر.
يا مطرا يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطرا يا شاشا
عبر بنات الباشا
يا مطرا من ذهب.
تقطعت الدروب، مقص هذا الهاطل المدرار
قطعها ووراها،
وطوقت المعابر من جذوع النخل في الأمطار
كغرقى من سفينة سندباد، كقصة خضراء أرجأها وخلاها
إلى الغد «أحمد» الناطور وهو يدير في الغرفه
كئوس الشاي، يلمس بندقيته، ويسعل ثم يعبر طرفه الشرفه
ويخترق الظلام.
وصاح «يا جدي» أخي الثرثار: «أنمكث في ظلام الجوسق المبتل ننتظر؟
متى يتوقف المطر؟»
وأرعدت السماء، فطار منها ثمة انفجرا
شناشيل ابنة الجلبي ...
ثم تلوح في الأفق
ذرى قوس السحاب، وحيث كان يسارق النظرا
شناشيل الجميلة لا تصيب العين إلا حمرة الشفق.
ثلاثون انقضت، وكبرت: كم حب وكم وجد
توهج في فؤادي!
غير أني كلما صفقت يدا الرعد
مددت الطرف أرقب: ربما ائتلق الشناشيل
فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي!
ولم أرها. هواء كل أشواقي، أباطيل
ونبت دونما ثمر ولا ورد!
لندن، 24 / 2 / 1963
إرم ذات العماد
(عند المسلمين أن «شداد بن عاد» بنى جنة؛ لينافس بها جنة الله، هي «إرم»، وحين أهلك الله قوم عاد، اختفت «إرم» وظلت تطوف، وهي مستورة، في الأرض لا يراها إنسان إلا مرة في كل أربعين عاما، وسعيد من انفتح له بابها.)
من خلل الدخان من سيكاره،
من خلل الدخان
من قدح الشاي وقد نشر، وهو يلتوي، إزاره
ليحجب الزمان والمكان،
حدثنا جد أبي فقال: «يا صغار،
مقامرا كنت مع الزمان،
نقودي الأسماك، لا الفضة والنضار،
والورق الشباك والوهار .
وكنت ذات ليله
كأنما السماء فيها صدأ وقار،
أصيد في الرميله
في خورها العميق، أسمع المحار
موسوسا كأنما يبوح للحصى وللقفار
بموطن اللؤلؤة الفريده،
فأرهف السمع لعلي أسمع الحوار.
وكان من ندى الخريف في الدجى بروده
تدب منها رعشة في جسدي فأسحب الدثار.
وانفرج الغيم فلاحت نجمة وحيده
ذكرت منها نجمتي البعيده
تنام فوق سطحها وتسمع الجرار
تنضح (يا وقع حوافر على الدروب
في عالم النعاس، ذاك عنتر يجوب
دجى الصحارى. إن حي عبلة المزار).
فسرت والسماء وجهتي، ولا دليل،
أرقب نجمها الوحيد، والشعاع
يخفت أو يؤج مانعا ومانحا، وكالشراع
ترفع أو تحطه الرياح في الصراع.
أسرت ألف خطوة؟ أسرت ألف ميل؟
لم أدر إلا أنني أمالني السحر
إلى جدار قلعة بيضاء من حجر،
كأنما الأقمار منذ ألف ألف عام
كانت له الطلاء،
كأنما النجوم في المساء
سلن عليه ثم فاض حوله الظلام.
وسرت حول سورها الطويل
أعد بالخطى مداه (مثل سندباد
يسير حول بيضة الرخ ولا يكاد
يعود حيث ابتدأ
حتى تغيب الشمس، غشى نورها سواد،
حتى إذا ما رفع الطرف رأى ... وما رأى؟)
حتى بلغت في الجدار موضع العماد
تقوم فيه، كالدجى، بوابة رهيبه
غلفها الحديد، مد حولها نحيبه
أراه بالعيون لا تحسه المسامع.
وقفت عندها أدق ...
يا صدى أراجع
أنت من المقابر الغريبه؟
أحس في الصدى
برودة الردى،
أشم فيه عفن الزمان والعوالم العجيبه
من إرم وعاد.
وحين كل ساعدي
وملني الوقوف في الظلام (كناسك، كعابد
يرفضه الإله في معبده، يظل لا ينام
ولا يريد الماء والطعام،
يصيح: «كن على الهوى مساعدي
يا رافع السماء، يا موزع الغمام.»)
جلست عند بابها كسائل ذليل
جلست أسمع الصدى، كأنه العويل،
يلهث خلف حائط من حجر ثقيل.
كأن بين دقة ودقة يمر ألف عام
وما أجاب العدم الخواء.
وحين أوشك الصباح يهمس الضياء
نعست، نمت ... واستفقت: مر ألف جيل!
الشمس والفلاه
والغيم والسماء
وكل ما أراه
هناك حيث كان سورها، المياه
تشع في الخليج.»
وقال جدنا ولج في النشيج: «ولن أراها بعد، إن عمري انقضى
وليس يرجع الزمان ما مضى.
سوف أراها فيكم، فأنتم الأريج
بعد ذبول زهرتي، فإن رأى إرم
واحدكم فليطرق الباب ولا ينم.
إرم ...
في خاطري من ذكرها ألم،
حلم صباي ضاع ... آه ضاع حين تم
وعمري انقضى.»
لندن، 21 / 2 / 1963
في الليل
الغرفة موصدة الباب
والصمت عميق
وستائر شباكي مرخاة ...
رب طريق
يتنصت لي، يترصد بي خلف الشباك، وأثوابي
كمفزع بستان، سود
أعطاها الباب المرصود
نفسا، ذر بها حسا، فتكاد تفيق
من ذاك الموت، وتهمس بي، والصمت عميق: «لم يبق صديق
ليزورك في الليل الكابي
والغرفة موصدة الباب.»
ولبست ثيابي في الوهم
وسريت: ستلقاني أمي
في تلك المقبرة الثكلى،
ستقول: «أتقتحم الليلا
من دون رفيق؟
جوعان؟ أتأكل من زادي:
خروب المقبرة الصادي؟
والماء ستنهله نهلا
من صدر الأرض:
ألا ترمي
أثوابك؟ والبس من كفني،
لم يبل على مر الزمن،
عزريل الحائك، إذ يبلى،
يرفوه، تعال ونم عندي:
أعددت فراشا في لحدي
لك يا أغلى من أشواقي
للشمس، لأمواه النهر
كسلى تجري،
لهتاف الديك إذا دوى في الآفاق
في يوم الحشر.»
سآخذ دربي في الوهم
وأسير فتلقاني أمي.
لندن، 27 / 2 / 1963
في انتظار رسالة
وذكرتها، فبكيت من ألمي:
كالماء يصعد من قرار الأرض، نز إلى العيون دمي
وتحرقت قطراته المتلاحقات لتستحيل إلى دموع
يخنقنني فأصك أسناني، لتنقذف الضلوع
موجا تحطم فوقهن وذاب في العدم.
دخان من القلب يصعد
ضباب من الروح يصعد
دخان ... ضباب
وأنت انخطاف وراء البحار، وأنت انتحاب
ونوح من القلب كالمد يصعد
ودمع تجمد
وغصت به الآه في الحنجره.
ذكرتك يا كل روحي ويا دفء قلبي إذ الليل يبرد
ويا روضة تحت ضوء النجوم بقداحها مزهره.
وذكرت كلتنا يهف بها ويسبح في مداها
قمر تحير كالفراشة، والنجوم على النجوم
دندن كالأجراس فيها، كالزنابق إذ تعوم
على المياه ... وفضض القمر المياها.
وكأن جسمك زورق الحب المحمل بالطيوب
والدفء، والمجداف همس في المياه يرن آها
فآها والنعاس يسيل منك على الجنوب
فينام فيه النخل تلتمع السطوح بنومهن إلى الصباح.
أواه ، ما أحلاك! نام النور فيك ونمت فيه،
والليل ماء، والنباح
مثل الحصى ينداح فيه، وأنت أول وارديه.
هو الصيف يلثم شط العراق
بغيماته ذاب فيها القمر،
وتوشك تسبح بيض النجوم لولا برودة ماء النهر
وهف شراع لأضلاعه في الهواء اصطفاق،
وغنى مغن وراء النخيل
يغمغم: «يا ليل، طال السهر
وطال الفراق!»
كأن جميع قلوب العراق
تنادي، تريد انهمار المطر.
وصعدت نحوك والنعاس رياح فاترات تحمل الورقا
لتمس شعرك والنهود به، تموت
حينا وتلهث في النوافذ من بيوت
ألقاك في غرفاتها، وأشد جسمك فار واحترقا.
إني أريدك، أشتهيك أمس ثغرك في رساله
طال انتظاري وهي لا تأتي، وتحترق الزوارق والتخوت
في ضفة العشار تنفض، وهي لاهثة، ظلاله
عل الرياح حملن منك لها رساله.
لم تبخلين علي بالورقات، بالحبر القليل وسحبة القلم الصموت؟
إني أذوب هوى، أموت
وأحن منك إلى رساله.
لندن، 9 / 3 / 1963
الباب تقرعه الرياح
الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق،
الباب ما قرعته كفك.
أين كفك والطريق
ناء؟ بحار بيننا، مدن، صحارى من ظلام
الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق
من نخلة يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام
الباب ما قرعته غير الريح ...
آه لعل روحا في الرياح
هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار
لتسائل الغرباء عني، عن غريب أمس راح
يمشي على قدمين، وهو اليوم يزحف في انكسار.
هي روح أمي هزها الحب العميق،
حب الأمومة فهي تبكي: «آه يا ولدي البعيد عن الديار!
ويلاه! كيف تعود وحدك، لا دليل ولا رفيق؟»
أماه ... ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار!
كيف انطلقت على طريق لا يعود السائرون
من ظلمة صفراء فيه كأنها غسق البحار؟
كيف انطلقت بلا وداع فالصغار يولولون،
يتراكضون على الطريق ويفزعون فيرجعون
ويسائلون الليل عنك وهم لعودك في انتظار؟
الباب تقرعه الرياح لعل روحا منك زار
هذا الغريب! هو ابنك السهران يحرقه الحنين.
أماه، ليتك ترجعين!
شبحا، وكيف أخاف منه وما امحت رغم السنين
قسمات وجهك من خيالي؟
أين أنت؟ أتسمعين؟
صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق؟
الباب تقرعه الرياح تهب من أبد الفراق.
لندن، 13 / 3 / 1963
من ليالي السهاد
(1) ليلة في لندن
كما ينسل نور خائف من فرجة الباب
إلى الظلماء في غرفه
سمعت هتافه المجروح يعبر نحوي الشرفه
ليرفع من سماوة لندن الليل المطل بلونه الكابي
على الطرقات ترقد في دثار الثلج ملتفه.
وأمس سمعت في إيران صوت الديك في الفجر،
ومن أفق المنائر في الكويت وزرقة البحر
أهاب، فرش جفني بالنعاس (رنين أكواب
بماء البصرة الرقراق تملأ ثم تسقيني)،
نداء راح ينثره المؤذن ... أطفئ الفانوس، رف ضياؤه رفه
وبعثره الظلام.
وليلي الأواه في بيروت يحييني
لأبصر فيه وجه الموت، راح يذيبه نبع من اللهفه
تدفق من فؤاد البلبل المسكوب بين غصون لبلاب
ليال من عذاب، من سقام، لست أنساها:
غريبا كنت حتى حين أحلم، لست في جيكور
ولا بغداد، أمشي في صحارى قلبي المسعور
يريد الماء فيها: «ماء ... أين الماء؟» وهي تريه أفواها
على آفاقها الربداء ظمأى تشرب الديجور
فلا تروى. أأقضي العمر في صحراء، في ليل من العطش؟
أفتش عن عيون الماء، عن إشراقة الغبش؟
كأعمى نال منه السكر صاح، ورفرفت كفاه بين مساند الماخور
ليبحث عن رفيق: «أين جاري؟ أين داري؟ أين - أواها! -
أميرتي التي كانت تناولني كئوس النور؟
فيبصر قلبي الدنيا ويلقاها؟»
كأن الصبح أشرق في العراق، وتعبر الرؤيا
بحارا بي وتطوي ألف درب في الدجى تاها:
تراجع عالم وأطل ثان: عالم يحيا
على الأقمار تولد ثم تكمل ثم تندثر،
وما لبس الجديد بغير يوم العيد: يدخر
ويجمع ثم ينفق ثم يضحك وهو يفتخر
بأن الله يرزق حين يرزق ... هكذا الدنيا
شتاء ثم صيف. ليس في جيكور محتكر
ولا فيها مصارف أو جرائد: «ليل كوريا
يرى شفقا من النيران.»
فالنيران فيها حين تستعر
تضيء لحى الشيوخ يحدثون، وأعين النسوه
تحدق في الطعام وترقب الأطفال في نشوه.
أعدني يا إله الشرق والصحراء والنخل
إلى أيامي الحلوه،
إلى داري، إلى غيلان ألثمه، إلى أهلي!
لندن، 3 / 2 / 1963 (2) ليلة في باريس
وذهبت فانسحب الضياء،
أحسست بالليل الشتائي الحزين، وبالبكاء
ينثال كالشلال من أفق تحطمه الغيوم.
أحسست وخز الليل في باريس، واختنق الهواء
بالقهقهات من البغايا ... آه! ترتعش النجوم
منها كبلور الثريات الملطخ بالدماء
في حانة لمدى السكارى في جوانبها انتضاء.
لم يبق منك سوى عبير
يبكي وغير صدى الوداع: «إلى اللقاء!»
وتركت لي شفقا من الزهرات جمعها إناء
كالأنجم الزرقاء والحمراء في أفق به حلم الصغير،
أرجعن لي عمر الطفولة: يا محارا في غدير
تتقارع الأقداح فيه، ترن أجراس كثار:
خوخ وأعناب ورمان ... وتمتلئ الجرار
عند الغروب، هو الخريف ونحن نسمر حول نار.
وكمستفيق في العراء
من حلمه: هو شهريار وتلمس الكف الخواء
ذهب التراب ... ورن في الليل النباح أو العواء،
عانقت كفك باليدين: «إلى اللقاء!» «إلى اللقاء!»
وذهبت فانسحب الضياء.
لو صح وعدك يا صديقه،
لو صح وعدك. آه لانبعثت وفيقه
من قبرها، ولعاد عمري في السنين إلى الوراء.
تأتين أنت إلى العراق؟
أمد من قلبي طريقه
فامشي عليه. كأنما هبطت عليه من السماء
عشتار فانفجر الربيع لها وبرعمت الغصون:
توت ودفلى والنخيل بطلعه عبق الهواء،
وهو الأصيل وتلك دجلة
والنواتي الخفاف يرددون: «يا ليتني نجم الصباح
آه لأسقط يا حبيبي، إذ تنام، على الغطاء،
أعتل بالبرد: ارتجفت فلفني، برد الهواء!»
وهو الأصيل وأنت في جيكور تجتذب الرياح
منك العباءة، فاخلعيها ...
ليس يدثر الضياء!
يتماوج البلم النحيل بنا، فتنتثر النجوم
من رفة المجداف كالأسماك تغطس أو تعوم،
ويحار بين الضفتين بنا كأنا منه في أبد الزمان:
زمن ولا ماض يعود له، ولا غد كي يسير
إليه. تنطفئ النجوم ونحن نحن العاشقان.
وذهبت فانسحب الضياء،
لم يبق منك سوى عبير
يبكي وغير صدى الوداع: «إلى اللقاء!»
وتركت لي شفقا من الزهرات جمعها إناء ...
باريس، 18 / 3 / 1963 (3) ليلة في العراق
وألهب كل ألواح الزجاج الزرق في الظلماء
فنور غرفتي، إيماض برق ثم رش مدارج الأفق
نثار من حطام الرعد فارتعشت له الأصداء
وحف، على الدجى، غاب من الأمطار والأزهار والورق،
وكنت أصيح من أرقي
ومن مرضي: «أريد الماء!»
وتخنق صوتي الظمآن وهوهة الدجى والماء.
ويعول من بعيد بوق سياره
يجيء إلي عبر الماء في الحاره،
يجيء إلي من أعماق بحر شمسه الخضراء
تنث على شراع السندباد أزاهر الشفق.
وكنت أصيح من أرقي
ومن مرضي: «أريد الماء!»
كأني وسط هذا الكون حيث يسوطني العطش
نواة حولها ارتجف العصير الحلو في ثمره
ويحرقها صداها.
وانتظرت: سيغسل الغبش
صداي، يحيلني شجره
تمص الماء، يقرع في مداها النسغ!
وألقى البرق، أرقص، ظل نافذني على الغرفه
فذكرني بماض من حياتي كله ألم:
طفولتي الشقية، والصبى، وشبابي المفجوع تضطرم
مشاعري البريئة فيه: كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفه
بآلاف الخروق تعربد الريح الشتائيه
بها وأظل أحلم بالهوى، والشط والقمر؟
وتزحم كل درب من دروبي هذه الخوذ الحديديه
وتتبعني عيون الموت من زمر البنادق نز بالشرر
كواها ... في دروب الجوع ألهث زائغ النظر.
وإذ يتمرد الإنسان في على العبوديه
أثور على الشيوعيه.
ولكن البنادق ما تزال عيونها الغضبى
تطاردني لأني غير ربي وحده، لم أتخذ ربا.
وحين تنفست عند انحسار الليل عشتار
تنفض جرح تموز المدمى، تغسل التربا
عن الجنبات منه، وحين هد البغي ثوار،
أرحت جبيني المحموم
على شباك داري أرقب الدربا
تدفق بالحبال وبالعصي يشدها العار
لتسحب أو تمزق جسم طفل ثغره المحروم
من القبلات والغنوات والزاد
ينادي دون صوت: «آه يا أمي! عرفت الجوع والآلام والرعبا
ولم أعرف من الدنيا سوى أيام أعياد
فتحت العين فيها من رقادي لم أجد ثوبا
جديدا أو نقودا لامعات تملأ الجيبا
لأن أبي فقيرا كان.»
يا لك ثورة تتأكل القلبا
فأصرخ: «أيها الجبناء، كفوا!»
ثم تزحم دربي الخوذ الحديديه
وتخنق من فم التنور في داري
فألهث في دروب الجوع أطحن من حصاها ثم أعجنه
وأقذفه إلى النار
لأطعم منه زغبا يطلبون الزاد في قر العشيات الشتائيه.
ويمضي بالأسى عامان، ثم يهدني الداء ...
تلاقفني الأسرة بين مستشفى ومستشفى
ويعلكني الحديد.
ومن دمي ملأ الأطباء
قناني وزعوني في القناني: تصبغ الصيفا
دمائي والشتاء.
وذات صبح قيل: إن الشر قد دحرا
ودك معاقل الطاغوت في بغداد أبطال
فقلت: سأوقد القمرا
سراجا عند بابي إنه ظفري، أما قالوا
بأن الشر قد دحرا؟
وعدت إلى بلادي. يا لنقالات إسعاف
حملن جنازتي! متمددا فيها أئن رأيت (غيلانا)
يحدق، بانتظاري، في السماء وغيمها السافي.
وما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا
ويفجأني النذير بأن أعواما من الحرمان والفاقه
ترصد بي هنا، في غابة الخوذ الحديديه
غريق في عباب الموج تنحب عنده الغاقه
تئن الريح في سعف النخيل، عليه ... ترثيه.
قصائده الحزينة بين أوراق من الدفلى أو الصفصاف تبكيه!
البصرة، 8 / 4 / 1963
خلا البيت
خلا البيت، لا خفقة من نعال
ولا كركرات، على السلم،
وأنت على الباب ريح الشمال
وماتت على كرمه المظلم:
تلاشت خطى موكب الدافنين
ومن مسجد القرية المعتم
تلوى، كما رف فوق السفين
شراع حزين،
أذان (هو الله باق، وزال
عن الأرض إلاه) الله أكبر،
وفي قبره اهتز، كالبرعم
إذا الصبح نور،
دفين ... وأصغى: أنين الرمال
وتهويدة النخل ينعس والليل أقمر
وفي بيته الآن - خل العويل
ونوح اليتامى وندب النساء -
لقد فتح الآن زهر الشتاء
ليملأ تنوره بالشذى والضياء،
أنار وجوها وأخفى وجوها، فسال الأصيل
ينث سنابله الدافئه،
وسمراء تصغي إلى الشاي فوق الصلاء
يوسوس عن خيمة في العراء
وعن عيشة هانئه.
خلا البيت وانسل لون المغيب
إلى المخدع المقفر،
هنا كان يطوي خيوط الدروب
صغيران تطفئ شمس الغروب
بشعريهما نار فانوسها الأحمر،
إذا ما ارتخت تحت ظل الهجير
جفون يرنق فيها النعاس
أفاءا إلى قصة عن أمير
تخطفه الجن حتى أتى منزلا من نحاس
تلامح شباكه عن أميره
تدلي إليه الضفيره
ليرقى إليها.
خلا البيت إلا أنين يابقا
يصعدها شاطئ من حنين.
البصرة، 26 / 7 / 1964
جيكور وأشجار المدينة
أشجارها دائمة الخضره
كأنها أعمدة من رخام
لا عري يعروها ولا صفره،
وليلها لا ينام
يطلع من أقداحه فجره.
لكن في جيكور
للصيف ألوانا كما للشتاء،
وتغرب الشمس كأن السماء
حقل يمص الماء،
أزهاره السكرى غناء الطيور.
ناحلة كالصدى
أنغامه البلور،
كأن فيها مدى
يجرحن قلبي فيستنزفن منه النور.
وتغرب الشمس وهذا المساء
أمطر في جيكور ...
أمطر ظلا، نث صمتا، مساء
غاف على جيكور.
والليل في جيكور
تهمس فيه النجوم
أنغامها، تولد فيه الزهور
وتخفق الأجنحه
في أعين الأطفال، في عالم للنوم. مرت غيوم
بالدرب مبيضا بنور القمر،
تكاد أن تمسحه،
تسرق منه الزهر ...
البصرة، 22 / 4 / 1963
ها ... ها ... هوه
تنامين أنت الآن والليل مقمر
غانيه أنسام وراعيه مزهر،
وفي عالم الأحلام، من كل دوحة
تلقاك معبر
وباب غفا بين الشجيرات أخضر.
لقد أثمر الصمت (الذي كان يثمر
مع الصبح بالبوقات أو نوح بائع)،
بتين من الذكرى وكرم يقطر
على كل شارع
فيحسو ويسكر
برفق فلا يهذي ولا يتنمر.
رأيت الذي لم صدق الحلم نفسه
لمد لك الفما
وطوق خصرا منك واحتاز معصما؟
لقد كنت شمسه
وشاء احتراقا فيك، فالقلب يصهر
فيبدو، على خديك والثغر، أحمر
وفي لهف يحسو ويحسو فيسكر.
لقد سئم الشعر الذي كان يكتب
كما مل أعماق السماء المذنب
فأدمى وأدمعا:
حروب وطوفان، بيوت تدمر
وما كان فيها من حياة تصدعا.
لقد سئم الشعر الذي ليس يذكر
فأغلق للأوزان بابا وراءه
ولاح له باب من الآس أخضر
أراد دخولا منه في عالم الكرى
ليصطاد حلما بين عينيك يخطر
وهيهات يقدر!
من النفس، من ظلمائها، راح ينبع
وينثال نهر سال فانحل مئزر
من النور عن وضاء تخبو وتظهر.
وفي الضفة الأخرى تحسين صوته (فما كان يسمع)
كما يشعر الأعمى إذ النور يظهر،
يناديك: «ها ... ها ... هوه»
ماء ويقطر
من السعفة النشوى
بما شربت من غيمة نثها نجوى
وأصداء أقدام إلى الله تعبر.
وناديت: «ها ... ها ... هوه» لم ينشر الصدى
جناحيه أو يبك الهواء المثرثر.
ونادى ورددا: «ها ... ها ... هوه!»
وفتحت جفنا وهو ما زال ينظر،
ينادي ويجأر.
لندن، 29 / 2 / 1963
أحبيني ...!
وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا،
ولكن ... كل من أحببت قبلك ما أحبوني
ولا عطفوا علي، عشقت سبعا كن أحيانا
ترف شعورهن علي، تحملني إلى الصين
سفائن من عطور نهودهن، أغوص في بحر من الأوهام والوجد
فألتقط المحار أظن فيه الدر، ثم تظلني وحدي
جدائل نخلة فرعاء
فأبحث بين أكوام المحار، لعل لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمه،
وإذ تدمى يداي وتنزع الأظفار عنها، لا ينز هناك غير الماء
وغير الطين من صدف المحار، فتقطر البسمه
على ثغري دموعا من قرار القلب تنبثق،
لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني.
وأجلسهن في شرف الخيال ... وتكشف الحرق
ظلالا عن ملامحهن: آه فتلك باعتني بمأفون
لأجل المال، ثم صحا فطلقها وخلاها.
وتلك ... لأنها في العمر أكبر أم لأن الحسن أغراها
بأني غير كفء، خلفتني كلما شرب الندى ورق
وفتح برعم مثلتها وشممت رياها؟
وأمس رأيتها في موقف للباص تنتظر
فباعدت الخطى ونأيت عنها، لا أريد القرب منها، هذه الشمطاء
لها الويلات؟ ثم عرفتها: أحسبت أن الحسن ينتصر
على زمن تحطم سور بابل منه، والعنقاء
رماد منه لا يذكيه بعث فهو يستعر؟
وتلك كأن في غمازتيها يفتح السحر
عيون الفل واللبلاب، عافتني إلى قصر وسياره،
إلى زوج تغير منه حال، فهو في الحاره
فقير يقرأ الصحف القديمة عند باب الدار في استحياء،
يحدثها عن الأمس الذي ولى فيأكل قلبها الضجر.
وتلك زوجها عبدا مظاهر ليلها سهر
وخمر أو قمار ثم يوصد صبحها الإغفاء
عن النهر المكركر للشراع يرف تحت الشمس والأنداء.
وتلك؟ وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها،
شربت الشعر من أحداقها ونعست في أفياء
تنشرها قصائدها علي: فكل ماضيها
وكل شبابها كان انتظارا لي على شط يهوم فوقه القمر
وتنعس في حماه الطير رش نعاسها المطر
فنبهها فطارت تملأ الآفاق بالأصداء ناعسة
تؤج النور مرتعشا قوادمها، وتخفق في خوافيها
ظلال الليل. أين أصيلنا الصيفي في جيكور؟
وسار بنا يوسوس زورق في مائه البلور؟
وأقرأ وهي تصغي والربى والنخل والأعناب تحلم في دواليها؟
تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعه،
وغيبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعه
فتذكرني وتبكي، غير أني لست أبكيها
كفرت بأمة الصحراء
ووحي الأنبياء على ثراها في مغاور مكة أو عند واديها.
وآخرهن؟
آه ... زوجتي، قدري، أكان الداء
ليقعدني كأني ميت سكران لولاها؟
وها أنا ... كل من أحببت قبلك ما أحبوني.
وأنت؟ لعله الإشفاق!
لست لأعذر الله
إذا ما كان عطف منه، لا الحب، الذي خلاه يسقيني
كئوسا من نعيم.
آه، هاتي الحب، رويني
به، نامي على صدري، أنيميني
على نهديك، أواها
من الحرق التي رضعت فؤادي ثمة افترست شراييني.
أحبيني
لأني كل من أحببت قبلك لم يحبوني.
باريس، 19 / 3 / 1963
يقولون تحيا ...
لأحببت لو أن في القلب بقيا - ولقد لفه الليل - للمشرق،
يقولون: «ما زلت تحيا» ... أيحيا
كسيح إذا قام أعيا
به الداء فانهار، لم تخفق
على الدرب من الخطى؟ يا أساه
ويا بؤس عينيه مما يراه؟
يقولون: «تحيا» فيبكي الفؤاد
فلو لم يكن خافقا لاستراح،
كطير رمي يجر الجناح
وقد مد، عبر الربى والوهاد،
بعينيه: في دوحة خلف تلك الظلال
سجا عشه، فيه زغب جياع
إذا حجب الغيم ضوء الهلال
يقولون: «هذا جناح أبينا وقد عاد بعد الصراع
بزهره،
بقطره
من الطل» ... حتى يطل الصباح.
كطير رمي يجر الجناح،
أقضي نهاري بغير الأحاديث، غير المنى،
وإن عسعس الليل نادى صدى في الرياح: «أبي ... يا أبي.» طاف بي وانثنى، «أبي ... يا أبي.»
ويجهش في قاع قلبي نواح: «أبي ... يا أبي.» «أبي ... يا أبي» في صفير القطار «أبي ... يا أبي» في صياح الصغار (خفاف الخطى يعبرون الدروب
بلا غاية، يقطفون الثمار
ولا يطعمون ابنة جائعه.
ولي منزل في سهول الجنوب
إذا كنت أسعى، من السابعه
إلى أوبة الطير عند الغروب،
فكي أطعم الجائعين
وراء نوافذه شاخصين
إلى الدرب: «أين الأب المطعم؟») «أبي ... يا أبي» والدجى مظلم
وجيكور خلف الدجى والدروب وخلف البحار.
لندن، 23 / 2 / 1963
وغدا سألقاها
وغدا سألقاها،
سأشدها شدا فتهمس بي «رحماك» ثم تقول عيناها: «مزق نهودي، ضم - أواها! -
ردفي ... واطو برعشة اللهب
ظهري، كأن جزيرة العرب
تسري عليه بطيب رياها.»
ويموج تحت يدي ويرتجف
بين التمنع والرضا ردف،
وتشب عند مفارق الشعر
نار تدغدغها: هو السعف
من قريتي رعشت لدى النهر
خوصاته، وتلين لا تدري
أيان تنقذف.
ويهيم ثغري وهو منخطف،
أعمى تلمس دربه، يقف
ويجس نهداها
يتراعشان، جوانب الظهر
تصطك، سوف تبل بالقطر،
سأذوب فيها حين ألقاها!
لندن، 27 / 2 / 1963
ليلة الوداع
إلى زوجتي الوفية
أوصدي الباب، فدنيا لست فيها
ليس تستأهل من عيني نظره.
سوف تمضين وأبقى ... أي حسره؟
أتمنى لك ألا تعرفيها؟
آه لو تدرين ما معنى ثوائي في سرير من دم
ميت الساقين محموم الجبين
تأكل الظلماء عيناي ويحسوها فمي
تائها في واحة خلف جدار من سنين
وأنين
مستطار اللب بين الأنجم.
في غد تمضين صفراء اليد
لا هوى أو مغنم، نحو العراق
وتحسين بأسلاك الفراق
شائكات حول سهل أجرد
مدها ذاك المدى، ذاك الخليج
والصحارى والروابي والحدود
أي ريش من دموع أو نشيج
سوف يعطينا جناحين نرود
بهما أفق الدجى أو قبة الصبح البهيج
للتلاقي؟
كل ما يربط فيما بيننا محض حنين واشتياق
ربما خالطه بعض النفاق!
آه لو كنت، كما كنت، صريحه
لنفضنا من قرار القلب ما يحشو جروحه
ربما أبصرت بعض الحقد، بعض السأم
خصلة من شعر أخرى أو بقايا نغم
زرعتها في حياتي شاعره
لست أهواها كما أهواك يا أغلى دم ساقى دمي
إنها ذكرى ولكنك غيرى ثائره
من حياة عشتها قبل لقانا
وهوى قبل هوانا.
أوصدي الباب، غدا تطويك عني طائره
غير حب سوف يبقى في دمانا.
الكويت، 21 / 8 / 1964
أغنية بنات الجن
شعورنا بللها المطر
وأشعل القمر
فيها فوانيس، فيا قوافل الغجر
بشعرنا اهتدي،
سيري إلى السحر،
سيري إلى الغد؟
نحن بنات الجن لا ننام،
نهيم في الظلام
على ذرى التلال أو نركض في المقابر،
نعشق كل عابر،
نسمعه أغاني الشباب والغرام.
إن نزلت صبية فيها من البشر
وأوحشتها وحدة القبور أو دجنة الحفر
سرت أغانينا إليها تعبر التراب
تقول: «إن عريت فالثياب
تنسجها عناكب الشجر
وكل خيط من خيوطها يرن كالوتر.
نامي إلى أن يؤذن القدر
ويحشر الموتى إلى الحساب.
حبيبك الوفي مس ثغره ابتسام،
فقد رأى سواك.
بل رآك في قوامها الندي كالزهر
وهدبها ومقلتيها. أشعل الهيام
في عينه السهر،
رآك فيها فاشتهاك. ليته انتظر؟»
نلوح للطفل فراشات من الشعاع
تخفق في ذوائب الشجر،
ويلمح العاشق في عيوننا الوداع
إذ يصفر القطار أو يصفق الشراع.
ونحن للشاعر إن شعر
نلوح في الدخان والعقار،
ننشد: «فلك سندباد ضل في البحر
حتى أتى جزيرة يهمس في شطآنها المحار،
يهمس عن مليكة يحبها القمر
فلا يغيب عن سماء دارها النضار.»
فيهتف الشاعر: «خذنني إلى حماها
لأنني أهواها
لأنني القمر!»
وجن وانتحر.
شعورنا بللها المطر،
ويرشف القمر
منها إلى أن يقبل السحر.
نركض في المقابر
نضل كل شاعر
وكل من عبر؟
لندن، 26 / 2 / 1963
جيكور أمي
تلك أمي، وإن أجئها كسيحا
لاثما أزهارها والماء فيها، والترابا
ونافضا، بمقلتي، أعشاشها والغابا:
تلك أطيار الغد الزرقاء والغبراء يعبرن السطوحا
أو ينشرن في بويب الجناحين: كزهر يفتح الأفوافا.
ها هنا، عند الضحى، كان اللقاء
وكانت الشمس على شفاهها تكسر الأطيافا
وتسفح الضياء.
كيف أمشي، أجوب تلك الدروب الخضر فيها، وأطرق الأبوابا؟
أطلب الماء فتأتيني من الفخار جره
تنضح الظل للبرود الحلو ... قطره
بعد قطره.
تمتد بالجرة لي يدان تنشران حول رأسي الأطيابا: «هالتي» تلك، أم «وفيقة» أم «إقبال»،
لم يبق لي سوى أسماء
من هوى مر كرعد في سمائي
دون ماء.
كيف أمشي! خطاي مزقها الداء. كأني عمود ملح يسير ...
أهي عامورة الغوية أم سادوم؟
هيهات ... إنها جيكور:
جنة كان الصبى فيها وضاعت حين ضاعا.
آه لو أن السنين السود قمح أو صخور
فوق ظهري حملتهن، لألقيت بحملي فنفضت جيكور
عن شجيراتها ترابا يغشيها وعانقت معزفي ملتاعا،
يجهش الحب، به، لحنا فلحنا
ولقاء فوداعا.
آه لو أن السنين الخضر عادت، يوم كنا
لم نزل بعد فتيين لقبلت ثلاثا أو رباعا
وجنتي «هالة» والشعر الذي نشر أمواج الظلام
في سيول من العطور التي تحمل نفسي إلى بحار عميقه
ولقبلت، برغم الموت، ثغرا من وفيقه
ولأوصلتك يا «إقبال» في ليلة رعد ورياح وقتام،
حاملا فانوسي الخفاق تمتد الظلال
منه أو تقصر، إذ يرعش في ذاك السكون،
ذلك الصمت سوى قعقعة الرعد،
سوى خفق الخطى بين التلال
وحفيف الريح في ثوبك، أو وهوهة الليل مشى بين الغصون،
ولعانقتك عند الباب، ما أقسى الوداع!
آه لكن الصبى ولى وضاع،
الصبى والزمان لن يرجعا بعد،
فقري يا ذكريات ونامي.
لندن، 5 / 2 / 1963
يا غربة الروح
يا غربة الروح في دنيا من الحجر
والثلج والقار والفولاذ والضجر،
يا غربة الروح ... لا شمس فأئتلق
فيها ولا أفق
يطير فيه خيالي ساعة السحر.
نار تضيء الخواء البرد، تحترق
فيها المسافات، تدنيني، بلا سفر،
من نخل جيكور أجني داني الثمر.
نار بلا سمر
إلا أحاديث من ماضي تندفق
كأنهن حفيف منه أخيلة
في السمع باقية تبكي بلا شجر.
يا غربة الروح في دنيا من الحجر!
مسدودة كل آفاقي بأبنية
سود، وكانت سمائي يلهث البصر
في شطها مثل طير هده السفر:
النهر والشفق
يميل فيه شراع يرجف الألق
في خفقه، وهو يحثو، كلما ارتعشا،
دنيا فوانيس في الشطين تحترق،
فراشة بعد أخرى تنشر الغبشا
فوق الجناحين ... حتى يلهث النظر.
الحب كان انخطاف الروح ناجاها
روح سواها، له من لمسة بيد
ذخيرة من كنوز دونما عدد.
الحب ليس انسحاقا في رحى الجسد
ولا عشاء وخمرا من حمياها
تلتف ساق بساق وهي خادرة
تحت الموائد تخفي نشوة البشر
عن نشوة الله من همس ومن سمر
في خيمة القمر
يا غربة الروح لا روح فتهواها.
لولا الخيالات من ماضي تنسرب
كأنها النوم مغسولا به التعب
لم يترك الضجر
مني ابتساما لزوج سوف ألقاها
إن عدت من غربة المنفى: هو السحر
والحلم كالطل مبتلا به الزهر
يمس جفنين من نور وينسكب
في الروح أفرحها حينا وأشجاها.
تسللت طرقتي للباب تقترب
من وعيها وهو يغفو ثم تنسحب،
ونشر الحلم أستارا فأخفاها
ورف جفناها
حتى كأن يدي
إذ تطرق الباب مست منهما: «واها!
من دق بابي؟ أهذا أنت يا كبدي؟»
وذاب في قبلتي ما خلف السهر
في عينها من نعاس، فهي تزدهر
كوردة فتحت للفجر عيناها .
لندن، 26 / 2 / 1963
أم كلثوم والذكرى
وأشرب صوتها ... فيغوص من روحي إلى القاع
ويشعل بين أضلاعي
غناء من لسان النار، يهتف: «سوف أنساها
وأنسى نكبتي بجفائها وتذوب أوجاعي.»
وأشرب صوتها ... فكأن ماء بويب يسقيني
وأسمع من وراء كرومه ورباه «ها ... ها ... ها»
ترددها الصبايا السمر من حين إلى حين.
وأشرب صوتها فكأن زورق زفة وأنين مزمار
تجاوبه الدرابك، يعبران الروح في شفق من النار
يلوح عليه ظل وفيقة الفرعاء أسود يزفر الآها
سحائب من عطور، من لحون دون أوتار.
وأشرب صوتها ... فيظل يرسم في خيالي صف أشجار
أغازل تحتها عذراء، أواها
على أيامي الخضراء بعثرها وواراها
زواج. ليت لحن العرس كان غناء حفار
وقرعا للمعاول وهي تحفر قبري المركوم منه القاع بالطين
وأذكرها، وكيف (وجسمها أبقى على جسمي
عبيرا منه، دفئا غلف الأضلاع) أنساها؟
أأنساها؟ أأنسى ضحكة رعشت على لحمي
وأعصابي، وكفا مسحت وجهي برياها؟
قساة كل من لاقيت: لا زوج ولد
ولا خل ولا أب أو أخ فيزيل من همي ...
ولكن. ما تبقى بعد من عمري؟ وما الأبد ...
بعمري
أشهر ويريحني موت فأنساها.
لندن، 9 / 3 / 1963
كيف لم أحببك؟
كيف ضيعتك في زحمة أيامي الطويله؟
لم أحل الثوب عن نهديك في ليلة صيف مقمره؟
يا عبير التوت من طوقيهما ... مرغت وجهي في خميله
من شذى العذراء في نهديك.
ضيعتك، آه يا جميله!
إنه ذنبي الذي لن أغفره!
كيف لم أحببك؟! يا لهفة ما بعد الأوان
في فؤاد لم تكوني فيه إلا جذوة في مجمره!
شعرك الأشقر شع اليوم شمسا في جناني
يترآى تحتها ساقاك، يا للزنبق
رف من ساقيك؟!
آه كيف ضيعتك يا سرحة خوخ مزهره؟
آه لو عندي بساط الريح!
لو عندي الحصان الطائر!
آه لو رجلاي كالأمس تطيقان المسيرا!
لطويت الأرض بحثا عنك ...
لكن الجسورا.
قطعتها بيننا الأقدار. مات الشاعر
في وانسدت كوى الأحلام.
آه يا جميله!
البصرة، 8 / 11 / 1963
أسير القراصنة
أجنحة في دوحة تخفق
أجنحة أربعة تخفق
وأنت لا حب ولا دار،
يسلمك المشرق
إلى مغيب ماتت النار
في ظله ... والدرب دوار
أبوابه صامتة تغلق!
جيكور في عينيك أنوار
خافتة تهمس: «مات الصبى!»
لم تبق آثار
من فجره، وانفرط المجلس،
فالتل لا ساق ولا سامر باق وسمار:
وأراهم في سفحه الموحش المهجور حفار!
وتحسد الشحاذ إن لاحا
يمشي على عكازه البالي.
مشلولة رجلاك مشدودة عيناك بالآل
وألف درب دونك انداحا
يدعوك أن تقطعه في الدجى
وتقطف الأثمار عن جانبيه
وأنت لا تملك غير الشجى
ودمعة تجري اشتياقا إليه.
عامان من نزع بلا موت
وأنت ما كنت سوى صوت،
صوت يدوي في قلاع الرياح.
يا ليتك المشاء في صمت
لا عازف القيثار باسم الجراح؟
وأنت في سفينة القرصان
عبد أسير دون أصفاد
تقبع في خوف وإخلاد
تصغي إلى صوت الوغى والطعان:
سال الدم،
اندقت رقاب ومال
ربانها العملاق
وقام ثان بعده ثم زال
فامتدت الأعناق
لأي قرصان سيأتي سواه
وأي قرصان ستعلو يداه
حينا على الأيدي؟! «وليأت من بعدي ...
من بعدي الطوفان.»
تسمعها تأتيك من بعد
يحملها الإعصار عبر الزمان!
البصرة، 29 / 10 / 1963
نسيم من القبر
نسيم الليل كالآهات من جيكور يأتيني
فيبكيني
بما نفثته أمي فيه من وجد وأشواق
تنفس قبرها المهجور عنها، قبرها الباقي
على الأيام يهمس بي: «تراب في شراييني
ودود حيث كان دمي، وأعراقي
هباء من خيوط العنكبوت، وأدمع الموتى
إذا ادكروا خطايا في ظلام الموت ... ترويني.
مضى أبد وما لمحتك عيني!»
ليت لي صوتا
كنفح الصور يسمع وقعه الموتى. هو المرض
تفكك منه جسمي وانحنت ساقي
فما أمشي، ولم أهجرك، إني أعشق الموتا
لأنك منه بعض، أنت ماضي الذي يمض
إذا ما اربدت الآفاق في يومي فيهديني!
أما رن الصدى في قبرك المنهار، من دهليز مستشفى،
صداي أصيح من غيبوبة التخدير، أنتفض
على ومض المشارط حين سفت من دمي سفا
ومن لحمي؟ أما رن الصدى في قبرك المنهار؟
وكم ناديت في أيام سهدي أو لياليه: «أيا أمي، تعالي فالمسي ساقي واشفيني.»
يئن الثلج والغربان تنعب من طوى فيه،
وبين سريري المبتل حتى القاع بالأمطار
قبرك، تهدر الأنهار
وتصطخب البحار إلى القرار يخضها الإعصار.
أما حملت إليك الريح عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك من الطوى وحفيدك الجوعان؟
لقد جعنا وفي صمت حملنا الجوع والحرمان،
ويهتك سرنا الأطفال ينتحبون من ويل
أفي الوطن الذي آواك جوع؟ أيما أحزان
تؤرق أعين الأموات؟
لا ظلم ولا جور
عيونهما زجاج للنوافذ يخنق الألوان
هناك لكل ميت منزل بالصمت مستور،
ولكنا هنا عصفت بنا الأقدار من ظل
إلى ظل ومن شمس إلى شمس يغيب النور
على شرفات بيت ضاحكات ثم يشرق وهي أطلال
ويخفق حيث كركر أمس أطفال
صرير للجنادب هامسات: «إنه المقدور
تصدع برج بابل منه وانهدمت صخور السور!»
أما حملت إليك الريح عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك من الطوى بعلو من السهل؟
البصرة، 18 / 4 / 1963
في المستشفى
كمستوحد أعزل في الشتاء
وقد أوغل الليل في نصفه،
أفاق فأوقظ عين الضياء
وقد خاف من حتفه،
أفاق على ضربة في الجدار
هو الموت جاء!
وأصغى: أذاك انهيار الحجار
أم الموت يحسو كئوس الهواء؟
لصوص يشقون دربا إليه
مضوا ينقبون الجدار.
وظل يعد انهيار التراب
ووقع الفئوس على مسمعيه.
يكاد يحس التماع الحراب
وحزاتها فيه ... يا للعذاب!
وما عنده غير محض انتظار:
هو الموت عبر الجدار!
كذاك انكفأت أعض الوساد
وأسلمت للمشرط القارس
قفاي المدمى بلا حارس.
بغير اختياري، طبيبي أراد!
لقد قص ... مد المجس الطويل ...
لقد جره الآن. أواه ... عاد
ولا شيء غير انتظار ثقيل.
ألا فاخرقوا، يا لصوص، الجدار
فهيهات، هيهات، ما لي فرار!
لندن، 5 / 2 / 1963
سلوى
ظلام الليل أوتار
يدندن صوتك الوسنان فيها وهي ترتجف،
يرجع همسها السعف
وترتعش النجوم على صداه: يرن قيثار
بأعماق السماء. ظلام هذا الليل أوتار!
وكم عبر الخليج إلي والأنهار والترعا،
يدغدغ بيض أشرعة يهيم وراءها القمر
وينشج بينها المطر،
وأوغل في شعاب البرق، يرجف كلما لمعا
ليحمل من قرارة قلبك الآلام والفزعا.
أشم عبيرك الليلي في نبراتك الكسلى
يناديني ويدعوني
إلى نهدين يرتعشان تحت يدي وقد حلا
عرى الأزرار من ذاك القميص، ويملأ الليلا
مشاعل في زوارق، في عرائش، في بساتين.
شذى الليمون يصرع كل ظل في دواليها.
أراك على السرير وأنت بين الليل والفجر
يكاد النجم في الشباك والمصباح في الخدر
يمسهما النعاس، وأنت زنبقة حواشيها
ينبهها هتاف الديك يعبر ضفة النهر.
ويهمس بي صدى: «سلوى
تغني.» كل سلوى في خيالي تكشف الأضواء عنها وهي تبتسم:
صديقة كل فحل من سدوم، في يد قلم
يسطر في الجريدة أنها تهوى ولا تهوى،
هي امرأتان في امرأة ... ويسرب في دمي ضرم.
وجارتنا الصبية في حرير النوم تنسرب،
يشف الثوب عن نهدين طوديين كم رجفا
من الأحلام تحت يد تعصر بردها لهب.
لها من فورة العذراء عطر يرتخي، يثب،
يمازج نفح ما نفح الحشيش، يسيل مرتجفا.
وألمح في سماء الصيف عبر تماوج الشجر
سماوة لندن المنهل فيها الثلج كالمطر،
ونافذة تعلق في الظلام زجاجها الألق،
ومدفأة وراء الليل تحترق،
وأسمع من يحدث عن هوى سلوى ويرقب طلعة السحر:
وأشعلت الظهيرة نارها في الشارع الممتد بين حدائق النارنج والعنب
وأصدت في رحاب المنزل الخالي
خطى سلوى، وأرخيت الستائر يا لشلال
من الألوان والخدر البرود.
ومسها لهبي
فارعش كل عرق في صباها، كل ما عصب.
ويزرع ألف غاب للنخيل غناؤك المكسال
ترقرقت الجداول بينهن وأزهر الليمون ...
وأنسام الربيع تمر تنثر زهره في مائها السلسال
كما حمل الوجوه إلي ماء غنائك المكسال
ويحملني النعاس إلى جزائر في مدى محزون!
البصرة، 9 / 9 / 1963
متى نلتقي؟
ألا يأكل الرعب منا الضلوع
إذا ما نظرنا إلى ظل تينه،
فلاحت لنا، من ظلام، قلوع
تهدهدها غمغمات حزينه؟
ألا يأكل الرعب منا الضلوع؟
ألا تتحجر منا العيون
إذا لاح في الليل ظل البيوت
هزيلا كما ينسج العنكبوت
ألا تتحجر منا العيون
ويلمع فيها بريق الجنون؟
وبالأمس كنا يذيب العناق
دما في دم،
كنور ونار، سنا واحتراق
يجولان في منزل مظلم
ولكن ما بيننا كان بحر
تغنيك أمواجه العاتيه: «سنرعاك من قلعة شد منها حديد وصخر
فما الحب هدم لجدرانك العاليه.»
ولكن ما بيننا كان بحر
وصحراء تنشج فيها النجوم
ولا نلتقي في دجى أو صباح،
تموت على رملها عاصفات الرياح
وتأكل عين الدليل التخوم
وصحراء تنشج فيها النجوم
وطارت بي الريح عبر البحار
إلى الليل والثلج والمجهل،
فصرنا إلى واقع لا نحار
بألغازه فاسألي،
وطارت بي الريح عبر البحار: «أما من لقاء لنا في الزمان؟»
بلى ... حينما تفهمين اللقاء
فيأوي إلى اللوحة المغرقان
يشدانها، يرفعان الدعاء: «ألا نجنا يا إله السماء!»
ألا يأكل الرعب منا الضلوع
إذا ما نظرنا إلى ظل تينه
فلاحت لنا، من ظلام، قلوع
تهدهدها غمغمات حزينه؟
ألا يأكل الرعب منا الضلوع؟
لندن، 10 / 3 / 1963
أظل من بشر
يا رب لو جدت على عبدك بالرقاد
لعله ينسى
من عمره الأمسا
لعله يحلم أنه يسير دونما عصا ولا عماد
ويذرع الدروب في السحر
حتى تلوح غابة النخيل
تنوء بالثمر
بالخوخ، والرمان، والأعناب فيها يعصر الأصيل
رحيقه المشمس أو تألق القمر
يدخلها فيختفي تحت ذوائب الشجر
ويقطف الجنى.
علق في رمانة عصاه وانثنى
يأكل أو يجمع الزهر
حتى إذا ما انطلقا
وراح يطوي الطرقا
أحس أو ذكر
بأنه بلا عصا سار وما شعر!
يا رب لو جدت على عبدك بالرقاد
لأنه يذكره السهر
بأنه أقل من بشر!
لندن، 25 / 2 / 1963
القن والمجرة
ولولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهد أعصابي
ولم ترتد مثل الخيط رجلي دونما قوه،
ولم يرتج ظهري فهو يسحبني إلى هوه،
ولا فارقت أحبابي،
ولا خلفت أودسيوس يضرب في دجى الغاب
وتقذفه البحار إلى سواها دونما مرسى.
هناك تركته وطويت عنه كتابي المهجور،
سأكمل سفرتي معه، ستحملني إلى جيكور
سفينته، ولن أنسى
بأن وراء رغو البحر قلبا هده القلق
وعينا كلما زرع الغروب حدائق الديجور
بأنجمها الصبايا شد من حملاقها الشفق
على الأفق البعيد لعل خفقا من شراع أو سنا مصباع
على اللجج الضواري لاح.
فآه لو كبنلوب الحزينة زوجتي تترقب الأنسام
لعل جناح طياره
كمحراث من الفولاذ، شقق بينها الأثلام
ليزرع، ثم، أزهاره.
ألا تبا لحب هذه الآلام من عقباه!
كأن شفاهنا، حين التقت، رسمت من القبل
سريرا نمت فيه أنث منه الآه بعد الآه،
وعكازا عليه مشيت ثم هويت في ثقل.
كأن حجارة السور الذي ما بيننا قاما.
لها من هذه القبلات طين شدها شدا.
أدهرا كان أم سبعا من النكبات أعواما؟
ولكن ما عليها من جناح، كنت معتدا
بذهني أو شبابي:
سوف أصهرها، أغيرها كطين في يد الفنان.
وقد غيرت. لكن الذي غيرت ماذا كان؟
فؤادا ضيقا كاللحد ... كيف أوسع اللحدا؟
ونفسا حدها بين السرير وبين قائمة الحساب كأنها قن من الأقنان
مداه يمد بين البيت والحقل
حبالا قيدت قدميه وهو يردد الألحان
ولم يك يفهم الكلمات (ليس لقطرة الطل
مكان إذ يجوع البطن يا لتلهف الظمآن!
أترويه المجرة وهي بحر - هكذا زعموا - على الشطآن
منه تناثرت كسر الكواكب فهي كالرمل
هنالك، والمحار؟ أكل هذا يشبع الجوعان؟)
ولكني أحن ... فهل أعود غدا إلى أهلي؟
نعم سأعود،
أرجع، لا إليها بل إلى غيلان؟
لندن، 2 / 3 / 1963
عكاز في الجحيم
وبقيت أدور
حول الطاحونة من ألمي
ثورا معصوبا، كالصخرة، هيهات تثور
والناس تسير إلى القمم
لكني أعجز عن سير - ويلاه! - على قدمي
وسريري سجني، تابوتي، منفاي إلى الألم
وإلى العدم!
وأقول سيأتيني يوم من بعد شهور
أو بعد سنين من السقم
أو بعد دهور!
فأسير ... أسير على قدمي
عكاز في يدي اليمنى
عكاز؟ ... بل عكازان
تحت الإبطين يعينان
جسما من أوجاع ... يفنى
طللا يغشاه مسيل دم
وأسير ... أسير على قدمي ...
لو كان الدرب إلى القبر
الظلمة والدود الفراس بألف فم
يمتد أمامي في أقصى أركان الدنيا ... في نحر
أو واد أظلم أو جبل عال
لسعيت إليه على رأسي أو هدبي أو ظهري
وشققت إلى سقر دربي ودحوت الأبواب السودا
وصرخت بوجه موكلها
لم تترك بابك مسدودا ...
ولتدع شياطين النار
تقتص من الجسد الهاري
تقتص من الجرح العاري
ولتأت صقورك تفترس العينين وتنهش القلبا
فهنا لا يشمت بي جاري
أو تهتف عاهرة مرت من نصف الليل على داري: «بيت المشلول هنا، أمسى لا يملك أكلا أو شربا
وسيرمون غدا بنتيه وزوجته دربا
وفتاه الطفل إذا لم يدفع متراكم إيجار.»
انثرني، ويك، أباديدا
وافتح بابك لا تتركه أمام شقائي مسدودا
ولتطعم جسمي للنار!
لوي مكنيس
أتى نعيه اليوم، جاب الديار
وجاب المحيطات حتى أتاني،
فلم تجر بالأدمع المقلتان
فقد غلغلت من دمي في القرار. (أبي مات لم أبك حزنا عليه
وإن جن قلبي
من الهم وانهد شوقا إليه.)
نعته إلينا مجله،
نعاه مقال حزين
نعته لنا آدميا مؤله
سماواته الشعر يصرخ بالغافلين،
وأحسست بالشوق (كالمدمنين
إلى جرعة من طلى ظامئين)
إلى شعره ...
لأحرق، قربان وجد وحب،
فؤادي في جمره.
ولكن ديوانه
دفينا غدا بين أكداس كتب
تلص العناكب ألوانه
ويقرأه الصمت للآخرين.
ومن لي بإخراج كنز دفين
تهاوى عليه الحجار؟
كسيح أنا اليوم كالميتين
أنادي فتعوي ذئاب الصدى في القفار: «كسيح
كسيح وما من مسيح.»
وتقرع - للصدى في خيالي -
نواقيس من شعره في الضباب
أمن بعد عشرين مثل الحراب
يمزقن جنبي. مثل النضال
أرجي ادكارا لأبياته؟
وهل يتذكر طفل ملامح أمواته
وقد بعثرتها صروف الليالي؟ «وبين المحبين، زوجين عادا،
يدحرج شاي الصباح
صحارى يضيع الصدى في دجاها الفساح،
وعند المساء تقوم الجريده
جدارا يدقانه بالأكف الوحيده
فتضحك، إذ يضربان، الرياح!»
وما بين زوجي وبيني خواء،
فليت الصحارى وليت الجدار
توحد ما بين زوجي وبيني ببرد الشتاء
وصمت الحجار!
ويا ليتني مت. إن السعيد
من اطرح العبء عن ظهره
وسار إلى قبره
ليولد في موته من جديد!
البصرة، 9 / 1 / 1964
حميد
«حميد» أخي في البلاء الكبير
فقد كان مثلي كسيحا
يدب بكرسيه مستريحا
تساءلت عنه فقالوا: «يسير
على قدميه فقد عاد روحا
لقد مات.»
يا ويلنا للمصير!
ينام ورجلاه مطويتان
شهودا على الداء، في قبره
إذا ما رأى الله رأي العيان
وقد سار زحفا على صدره
فأي انسحاق وأي انكسار
يشعان من عينه الضارعه!
سيبكي له الله من رحمة واعتذار.
وفي الساعة السابعه
إذا ذرت الريح ورد الغروب
سأجلس في الشرفة الخاليه
ومن تحتي الدرب يخفق، ينأى، يذوب:
ألوف من الأرجل الماشيه
إلى أي مبغى وراء الدروب
وخمارة في الدجى نائيه!
إلى اللغو والقهقهات الكذوب
وألمح فيما وراء الظلال
حميدا وكرسيه في الخيال
فتخنقني اللوعة الباكيه
فأواه لو توقدين الشموع
لدى مسجد القرية المترب
تمد من النور خيطا تعلق فيه الدموع،
ولو تضرعين، مع المغرب،
إلى الله: «يا رب، رفقا بطفلي الصغير
وأبق أباه
وجنبه، يا رب، هذا المصير!»
ولكنني مت ... وا حسرتاه!
المعول الحجري
رنين المعول الحجري في المرتج من نبضي
يدمر في خيالي صورة الأرض
ويهدم برج بابل، يقلع الأبواب، يخلع كل آجره
ويحرق من جنائنها المعلقة الذي فيها
فلا ماء ولا ظل ولا زهره
وينبذني طريدا عند كهف ليس تحمي بابه صخره
ولا تدمي سواد الليل نار فيه يحييني وأحييها.
تعالي يا كواسر يا أسود ويا نمور ومزقي الإنسان
إذا أخذته رجفة ما يبث الليل من رعب
فضجي بالزئير وزلزلي قبره
دماغي وارث الأجيال، عابر لجة الأكوان
سيأكل منه داء شل من قدمي وشديدا على قلبي
كلام ذاك أصدق من نبوءة أي عراف
تريه مسالك الشهب
حمى الأسرار، تطلعه على المتربص الخافي
إذا نطق الطبيب فأسكتوا العراف والفوال
رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي
سأعجز بعد حين عن كتابة بيت شعر في خيالي جال
فدونك يا خيال مدى وآفاق وألف سماء
وفجر من نجومك، من ملايين الشموس من الأضواء
وأشعل في دمي زلزال
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياء
خوالج كل نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي
وأوهامي
وأسفح نفسي الثكلى على الورق
سيقرؤها شقي بعد أعوام وأعوام
ليعلم أن أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغم وحش الداء والآلام والأرق
ورغم الفقر أن يحيا
ويا مرضي، قناع الموت أنت، وهل ترى لو أسفر الموت
أخاف؟ ألا دع التكشيرة الصفراء والثقبين،
حيث امتصت العينين
جحافل من جيوش الدود يجثم حولها الصمت،
تلوح لناظري. ودع الدماء تسح من أنفي من الثقبين
فأين أبي وأمي ... أين جدي ... أين آبائي
لقد كتبوا أساميهم على الماء
ولست براغب حتى بخط اسمي على الماء
وداعا يا صحابي، يا أحبائي
إذا ما شئتمو أن تذكروني فاذكروني ذات قمراء
وإلا فهو محض اسم تبدد بين أسماء
وداعا يا أحبائي ...
في غابة الظلام
عيناي تحرقان غابة الظلام
بجمرتيهما اللتين منهما سقر،
ويفتح السهر
مغالق الغيوب لي ... فلا أنام.
وأسبر الأرض إلى قرارها السحيق
ألم في قبورها العظام
فطالعتني - كالسراج في لظى الحريق -
تكشيرة رهيبة رهيبه
تليحها جمجمتي الكئيبه
سخرية الإله بالأنام.
عيناي من سريري الوحيد
تحدقان في المدى البعيد،
الليل وحش تطعنانه، مع النجوم،
بخنجريهما وخنجر السحر،
الليل خنزير الردى، العنيد
يشق خنجراهما إهابه الغشوم
لألمح العراق مرغ القمر
على ترابه البليل ضوءه الحزين.
ومقلتا غيلان تومضان بالحنين،
يرقب من فراشه ذوائب الشجر،
أمضه السهاد، عذبته زحمة الفكر (أين من الطفولة السهاد والفكر؟)
عيناه في الظلام تسربان كالسفين.
بأي حقل تحلمان؟ أيما نهر؟
بعودة الأب الكسيح من قرارة الضريح؟ (أميت فيهتف المسيح
من بعد أن يزحزح الحجر: «هلم يا عازر»؟)
عيناه لظى وريح
تحرق في أضالعي مضارب الغجر!
أليس يكفي أيها الآله
أن الغناء غاية الحياه
فتصبغ الحياة بالقتام؟
تحيلني، بلا ردى، حطام:
سفينة كسيرة تطفو على المياه؟
هات الردى، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثره
وراء ليل المقبره
رصاصة الرحمة يا إله!
الكويت، 9 / 7 / 1964
رسالة
رسالة منك كاد القلب يلثمها
لولا الضلوع التي تثنيه أن يثبا
رسالة لم يهب الورد مشتعلا
فيها، ولم يعبق النارنج ملتهبا
لكنها تحمل الطيب الذي سكرت
روحي به ليل بتنا نرقب الشهبا
في غابة من دخان التبغ أزرعها
وغابة من عبير منك قد سربا
جاءت رسالتك الخضراء كالسعف
بل الحيا منه والأنسام والمطر
جاءت لمرتجف
على السرير، وراء الليل يحتضر
لولا هواك وبقيا فيه من أسف
أن لم يرو هواه منك فهو على الشطين ينتظر
سفينة يتشهى ظلها النهر
فيها الشفاء هو الربان، والقدر
فيها المغني
لكان مما عراه الداء ينتحر!
جاءت تحدثني عني
عن شهقة الصيف في جيكور يحتضر
عن صوت أغربة تبكي، وأصداء
تذرذر الظلمة الصفراء في السعف
وعن بنات لآوى خلف منعطف
تعوي فتهتف أم: «أين أبنائي؟»
وتنفض الدرب عيناها وتهتف: «يا محمود ... علوان!»
لا رد ولا خبر!
ويا حديثك عن «آلاء» يلذعها
بعدي فتسأل عن بابا «أما طابا»
أكاد أسمعها
رغم الخليج المدوي تحت رغوته
أكاد ألثم خديها وأجمعها
في ساعدي ...
كأني أقرع البابا
فتفتحين ...
وتخفي ظلنا الستر!
الكويت، 3 / 8 / 1964
ليلة انتظار
يد القمر الندية بالشذى مرت على جرحي،
يد القمر الندية مثل أعشاب الربيع لها إلى الصبح
خفوق فوق وجهي، كف طفلتي الصغيرة، كف آلاء!
وهمس حول جرحي: كف طفلتي الكبيرة، كف غيداء
تدغدغني ونحن على السرير معا، على السطح
هناك! وآه من ذاك المدى النائي،
لأقرب منه مجمرة الثريا وهي تلتهب
بعيد بعد يوم فيه أمشي دون عكاز على قدمي
يئست من الشفاء، يئست منه وهدني التعب
وحل الليل ما أطويه من سهر إلى سهر ومن ظلم إلى ظلم
ولكن اليد النديانة الكسلى ترش سنابل القمح
على درب من الهمسات في حلم
بلا نوم يرف على جفوني ثم يحشوهن بالملح
غدا تأتين يا إقبال، يا بعثي من العدم
ويا موتي ولا موت.
ويا مرسى سفينتي التي عادت ولا لوح على لوح
ويا قلبي الذي إن مت أتركه على الدنيا ليبكيني
ويجأر بالرثاء على ضريحي وهو لا دمع ولا صوت
أحبيني! إذا أدرجت في كفني ... أحبيني
ستبقى حين يبلى كل وجهي، كل أضلاعي
وتأكل قلبي الديدان، تشربه إلى القاع
قصائد ... كنت أكتبها لأجلك في دواويني
أحبيها تحبيني!
الكويت - المستشفى الأميري، 5 / 8 / 1964
نفس وقبر
نفسي من الآمال خاوية
جرداء لا ماء ولا عشب
ما أرتجيه هو المحال وما
لا أرتجيه هو الذي يجب
قدر رمى فأصاب صادحة
في الجو خرت وهي تنتحب
من ذا يعيد إلى قوادمها
أفق الصباح تضيئه السحب
صلب المسيح فأي معجزة
تأتي؟ وأي دعاء ملهوف
ستزيح أبواب السماء له
أغلاقها؟! حبل من الليف
هيهات يرقى للسماء به
ليهز عرش الله تخريفي «مولاي مشلول!» فتحدجني
عين الملاك: «وأي ملهوف
لا يشتكي لله محنته؟
ارجع لبيتك دون إبطاء»
فبأي آمال أعيش إذن
وأدب حيا بين أحياء
لولا مخافة أن يعاقبني
عدل السماء لعنت آبائي
ولعنت ما نسلوا وما ولدوا
من بائسين ومن أذلاء
الدودة العمياء يلسعها
برد يقلصها ويطويها
أواه لو ترضى تبادلني
عيشي بعيش كاد يفنيها
ولو استجاب الله صرخة ذي
بلوى لصحت: «وخير ما فيها
موت يجيء كأنه سنة
ويمس آلامي فينهيها»
كم ليلة قمراء يطفئها
ليل النجوم ودورة الشهر
محسوبة، ويلاه، من عمري
وهي التي ضاعت على عمري
وثلاثة خضراء، أربعة
نثرت أزاهرها وما أدري
يا ليتها بغد تعوضني
فتمر باكية على قبري
الكويت - المستشفى الأميري، 10 / 11 / 1964
إقبال والليل
وما وجد ثكلى مثل وجدي إذا الدجى
تهاوين كالأمطار بالهم والسهد
أحن إلى دار بعيد مزارها
وزغب جياع يصرخون على بعد
وأشفق من صبح سيأتي وأرتجي
مجيئا له يجلو من اليأس والوجد
الليل طار وما نهاري حين يقبل بالقصير
الليل طال: نباح آلاف الكلاب من الغيوم
ينهل، ترفعه الرياح، يرن في الليل الضرير
وهتاف حراس سهارى يجلسون على الغيوم
الليل والعشاق ينتظرون فيه على سنا النجم الأخير
يا ليل ضمخك العراق
بعبير تربته وهدأة مائه بين النخيل
إني أحسك في الكويت وأنت تثقل بالأغاني والهديل
أغصانك الكسلى و«يا ليل» طويل
ناحت مطوقة بباب الطاق في قلبي تذكر بالفراق
في أي نجم مطفأ الأنوار يخفق في المجره
ألقت بي الأقدار كالحجر الثقيل
فوق السرير كأنه التابوت لولا أنة ودم يراق
في غرفة كالقبر في أحشاء مستشفى حوامل بالأسره.
يا ليل أين هو العراق؟
أين الأحبة؟ أين أطفالي؟ وزوجي والرفاق؟
يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج. تصوريني أقطع الظلماء وحدي
لولاك ما رمت الحياة ولا حننت إلى الديار
حببت لي سدف الحياة، مسحتها بسنا النهار
لم توصدين الباب دوني؟ يا لجواب القفار
وصل المدينة حين أطبقت الدجى ومضى النهار
والباب أغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد.
وخوض في الظلماء سمعي تشده
بجيكور آهات تحدرن في المد
بكاء وفلاحون جوعى صغارهم
تصبرهم عذراء تحنو على مهد
يغني أساها خافق النجم بالأسى
وتروي هواها نسمة الليل بالورد
أين الهوى مما ألاقي والأسى مما ألاقي؟
يا ليتني طفل يجوع، يئن في ليل العراق!
أنا ميت ما زال يحتضر الحياه
ويخاف من غده المهدد بالمجاعة والفراق
إقبال مدي لي يديك من الدجى ومن الفلاه،
جسي جراحي وامسحيها بالمحبة والحنان
بك ما أفكر لا بنفسي: مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسك والصبى في العنفوان.
ليلى
قرب بعينيك مني دون إغضاء
وخلني أتملى طيف أهوائي
أبصرتها؟ كادت الدنيا تفجر في
عينيك دنيا شموس ذات آلاء
أبصرت ليلى فلبنان الشموخ على
عينيك يضحك أزهارا لأضواء
إني سألثمها في بؤبؤيك كمن
يقبل القمر الفضي في الماء
ليلى! هواي الذي راح الزمان به
وكاد يفلت من كفي بالداء
حنانها كحنان الأم دثرني
فأذهب الداء عن قلبي وأعضائي
أختي التي عرضها عرضي وعفتها
تاج أتيه به بين الأخلاء
عرفتها فعرفت الله عن كثب
كأن في مقلتيها درب إسرائي
ليلى هواي مناي شعري
روحي الأعز علي من روحي وآمالي وعمري
حملت ضفيرتها هواي كأنها أمواج نهر
حملته نحو مدى السماء
نحو المجرة والنجوم ونحو جيكور الجميله
فأنا فتى أتصيد الأحلام يا لك من فراشات خضيله
أتصيد الأشعار فيها والقوافي والغناء
أوتذكرين لقاءنا في غرفة للداء فيها
ظل كظل الليل يخنق ساكنيها
لكننا بالشعر حولناه زرعا من ضياء
بالحب أزهر واللقاء
ما كان أحلى حبنا العربي حب كثير وجنون قيس
التبغ صحرائي أهيم على رفارفها الحزينه
وهناك نبني خيمتين من التأسي
ليلى مناد دعا ليلى فخف له
نشوان في جنبات القلب عربيد
كسا النداء اسمها سحرا وحببه
حتى كأن اسمها البشرى أو العيد
هل المنادون أهلوها وإخوتها
أم المنادون عشاق معاميد
إن يشركوني في ليلى فلا رجعت
جبال نجد لهم صوتا ولا البيد
ليلى تعالي نقطع الصحراء في قمراء حلوه
متماسكين يدا إلى يد من نحب
وترن في الأبعاد غنوه
للرمل همس تحت أرجلنا بها، للرمل قلب
يهتز منها أو ينام وللنخيل بها أنين.
وتهر عن بعد كلاب يا لغيم من نباح
هيهات يعشقه سوى غبش الصباح
فأنا وأنت نسير حتى تتعبين «ماء أريد أليس في الصحراء غير صدى وطين؟»
وتكركر الصحراء عن ماء وراء فم الصخور
فأظل بالكفين أسقيك المياه فترتوين
أسقي صداك فترتوين
أوتذكرين لقاءنا في كل فجر
وفراقنا في كل أمسية إذا ما ذاب قرص
الشمس في البحر العتي
تأتين لي وعبير زنبقة يشق لك الطريق فأي عطر
وتودعين فتهبط الظلماء في قلبي ويطفئ نوره القمر الوضي
فكأن روحي ودعتني واستقلت عبر بحر
وأظل طول الليل أحلم بالزنابق والعبير
وحفيف ثوبك، والهدير
يعلو فيغرق ألف زنبقة وثوب من حرير.
صفحه نامشخص