وأن أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية «كون» يتعلق بتعريفه للمنهج العلمي ومعاييره الخاصة بالتمييز بين العلم وغير العلم على نحو أوقعه في تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم. ذلك أن «كون» يساوي بين مناهج بحث الأقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت، وعلى الرغم مما يراه انقطاعا بين النظريات في التاريخ. ومنهج كون هذا يفضي، كما يرى منتقدوه، إلى نسبية المعرفة. فكل معرفة صحيحة قياسا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها الإرشادي. ويفضي هذا المنهج أيضا إلى التهوين من شأن التحليل العقلي كمعيار حاسم في البحث العلمي. وبهذا نفتقد الدليل العقلي الذي نمايز به بين العلم وغير العلم، مثلما نفتقد معايير قياس التقدم العلمي. وما دام الرأي عند «كون» أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين جميعها نظريات علمية على قدم المساواة، فليس غريبا أن يظل الباب مفتوحا، ولو نظريا حسب منهج «كون»، لاحتمال عودة نظرية قديمة لتحل محل أخرى جديدة طالما أننا لا نملك المعيار.
ورأى البعض في هذا نوعا من التشاؤم الأبستمولوجي أو اللاأدرية الأبستمولوجية التي تفضي إلى التشاؤم. فالنظريات جميعا سواء، ولا أمل أو معيار للتقدم المعرفي للإنسانية. ولا بأس، التزاما بهذا الرأي أن يستصوب البعض الردة إلى نظريات سابقة.
إن قضية التعارض بين النظريات الجديدة والقديمة، أو الانقطاع بينهما، هي قضية تتعلق بنظرية المعرفة مثلما تتعلق بقضايا منهج البحث العلمي. وهذان هما جوهر العلم الحديث، ومعيار التميز بين ما هو علمي وما هو غير أو قبل علمي، وهما بالتالي أحد معايير التقدم العلمي ومن ثم الحضاري.
إن الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية، قد تكون واحدة عند الأقدمين والمحدثين، والاهتمام بهذه أو تلك قد يكون واحدا عند هؤلاء وأولئك. ولكن الفارق الجوهري هو فارق معرفي من حيث محتوى المعرفة ومنهج البحث الذي يقره العلم الحديث، والذي يسبغ صفته على الباحث بحكم الالتزام به، وبدونه تسقط عنه صفة العلمية.
ولهذا فإن النظريات التي أشار إليها «كون» عند المقارنة بينها وبين النظريات الحديثة هي، في رأي منتقديه، نظريات غير علمية. والأمر جدا مختلف عند الحديث عن نظريات بطليموس وغيره من الأقدمين السابقين على المنهج العلمي الحديث أو عند الحديث عن نظريات علمية حديثة غير كاملة. فالأولى غير علمية تماما، والثانية، إذا ما توافرت فيها شروط المنهج، تكون خطوة على الطريق نحو نظرية كاملة تحدث تغييرا شاملا في مجال بحثها؛ أعني ثورة بالمعنى الذي ذكره «توماس كون». معنى هذا أن نمايز بين سعي الإنسان إلى المعرفة، وأن نضع إنجازاته في إطار عصره وسياقه الاجتماعي وبنيته الفكرية، وبين البحث العلمي في عصر المنهج القائم على البرهان التجريبي. وهذا السعي أو البحث مشروع أو ظاهرة اجتماعية متطورة تدريجيا على مدى التاريخ، ولها شروطها التي تمايز بين مراحلها.
ثم إن هناك اتصالا بين النظريات ولكنه في اتجاه واحد وليس اتجاهين؛ بمعنى أن الباحث المحدث يستطيع مع التزامه بالنظرية المعاصرة أن يفهم نظرية أرسطو أو بطليموس ويدرك مواطن الخطأ فيها وأسبابه، بينما من يعيش بنظرية أرسطو أو يفكر بطريقة الأقدمين فقط يستعصي عليه فهم النظرية الحديثة أو التحاور مع أصحابها. وهو ما يصدق أيضا على حوارنا في قضايانا الحياتية.
2
وماذا عن النظريات التي تثبت صحتها مثل «ميكانيكا نيوتن» ثم حلت محلها نظريات أخرى أكثر نجاحا «النظرية النسبية وميكانيكا الكم»؟ يقول «لأنساتا كيتا» أستاذ فلسفة العلوم في سيراليون: من الخطأ القول إن نموذج البحث في إحدى النظريتين الأخيرتين حل محل نموذج البحث في النظرية الأولى كبديل عنها؛ إذ يمكن الجمع بين النماذج الثلاثة والفارق هو فارق في المدى والدرجة بمعنى أن ميكانيكا نويتن أكثر دقة من ناحية المسافات والسرعات النهائية.
ويضيف إلى ذلك بوليكاروف
3
صفحه نامشخص