ولولا هؤلاء لما تمهدت سبل البحث والنظر لإمام المدرسة التجريبية فرنسيس باكون معاصر شكسبير.
وسبب آخر من أسباب وفرة العوامل التي ضاعفت قوة النهضة في هذه الجزر المعزولة أنها أصبحت في المحيط الأطلسي مركز الملاحة والتجارة بعد كشف القارة الأمريكية، فقد تحولت طرق الملاحة العالمية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي بعد كشف أمريكا وكشف الطريق البحري حول رأس الرجاء إلى الشرق الأقصى، فنشطت في إنجلترا طوائف عدة من الرواد والملاحين ورجال الأعمال وطلاب المغامرة والمرشحين لولاية الحكم في مستعمرات الغرب والشرق، وتعاظم نفوذ هذه الطوائف في عصر شكسبير - عصر عريضة الحقوق الدستورية - فنالت الأمة الإنجليزية منها ما لم تنله الأمم الأوروبية بجوارها إلا بعد ذلك بعشرات السنين، وكانت عزلتها في البحر من أسباب هذا السبق في انتزاع الحقوق من أيدي المستبدين؛ لأن حكومتها كانت تعتمد على الأسطول لحماية أرضها، وكان يكفيها القليل من الكتائب في الجيش القائم لحماية الأمن في داخلها، وكان لنبلائها جيوش صغيرة في أقاليمهم توازن جيش الملك الكبير في العاصمة والمدن المحصنة، فلما نهضت الطبقة الوسطى - الجديدة - للمطالبة بحقوقها لم يكن في طاقة الملك أن يقمعها، وأن يستغني عن معونتها المالية في تسليح جيشه والإنفاق عليه، فنجحت الثورة الدستورية قبل أن تنجح في بلاد الحكومات التي تحميها الجيوش القائمة، ويضعف فيها نفوذ الطبقات الوسطى في كل حركة تستقل بها عن طبقة النبلاء، ولا تعتمد فيها على مشايعة الدهماء. •••
ولما دخلت إنجلترا في المذهب البروتستانتي كان دخولها في هذا المذهب بمثابة ثورة من طرفين متقابلين: ثورة الملوك على سيطرة الكنيسة للاستقلال بالحكم في دولتهم وإقامة أنفسهم على رأس الكنيسة في بلادهم، وثورة الشعب الذي كان على استعداد لخلع الرئاسة الدينية المفروضة عليه بعد تتابع الدعوات من قبيل دعوة وايكليف وأتباعه، أو قبيل دعوة المتطهرين التي ضمت في أحضانها شراذم متفرقة من طبقات متفاوتة تدين أحيانا بعقائد رومة ولا تدين في الجملة بمراسمها وتقاليدها «الكهنوتية».
وقد اصطلحت شتى العوامل على وضع الجزر البريطانية في موضع المناظرة والمقاومة لدولة القارة الكبرى التي تمثل فيها النظام القديم في موقفه من الدين والعلم وموقفه من مسائل الاجتماع والسياسة، وقد تمثل ذلك النظام على أتمه وأعمه في الدولة الإسبانية.
فالدولتان - إسبانيا وإنجلترا - تتنافسان في السياسة؛ لأنهما تتنازعان السيادة والغلب على المحيط الأطلسي ومستعمرات الأمريكتين الشمالية والجنوبية.
وكلتاهما تناصب الأخرى العداء؛ لأنها أكبر الدول التي تحمي مذهبها في العقيدة، فكانت إسبانيا حامية الكثلكة وإنجلترا حامية المذهب الذي اشتهر يومئذ بمذهب «الاحتجاج» والإصلاح.
وبين الدولتين منافسة في العنصر «القومي» لا تخلو من آثارها الملموسة في شؤون الفكر والنظرة الروحية، ولا شك أن لهذا التنافس أسبابه التاريخية التي تتصل بالسياسة وأنظمة الشعوب والقبائل، ولكنه - كائنا ما كان في منشئه وتطوره - ظاهر للعيان في تقسيم الأمم بين الكثلكة والمذاهب الأخرى؛ فالأمم اللاتينية إلا القليل منها جانحة إلى كنيسة رومة، والأمم التيوتونية والجرمانية إلا القليل منها جانحة إلى المذاهب التي فارقت كنيسة رومة وخرجت عليها، وقد يظهر ذلك في الجزر البريطانية نفسها، فإن الشعوب التي لا تنتمي إلى الجرمان والتيوتون بقي أكثرها على مذهب رومة ولم يتابع جيرانه في الخروج عليها.
وزبدة هذه العوامل المتشابكة أن الحوادث كانت تميل بالأمم البريطانية إلى الجانب المعارض للنظام القائم منذ القرون الوسطى، وأن دعوة الإنسانيين بالنسبة إليها كانت إلى الواقع المقرر أقرب منها إلى الرأي والمطاوعة المقصودة، فكل ما حرمته النظم القائمة فهو بحكم المصلحة - أو بحكم رد الفعل - عرضة للمناقضة والشك من الجانب الذي يناظره ويتحداه، وهذا الذي جعل الجزر البريطانية على عهد النهضة في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها، فضلا عن ثورتها في داخلها على حكامها.
وكل تلك العوامل المتشابكة تتراءى على كثرة، أو على قلة، فيما يصادفنا من أحوال المجتمع وعادات طوائفه وفئاته وأزياء رجاله ونسائه وفيما يتبدل من نظم الحكومة ودساتير المعاملة بين الرعاة والرعايا، وما يجيش في نفوس هؤلاء من سورات القلق والشكاية، وهذه نتائج تلك العوامل الجديدة في عالم الواقع على صورتها العملية، ولكنها تطالعنا صريحة ناطقة في صفحات الكتب ونظرات المفكرين وذوي الرأي فيما يتناولونه من موضوعات الدعوة الإنسانية، أو فيما يتخلل الموضوعات العامة عرضا واتفاقا بمعزل عن تلك الدعوة، وهجيراها في جملتها ترديد الاعتراف بحق الإنسان في التفكير المستقل والحياة الدنيوية، وتصحيح مكانه في هذا العالم تبعا لما تعارفه الناس من تصحيح علاقاته وحدوده، وهذه هي رسالة عصر النهضة التي بلغت مرحلتها الوسطى قبيل ميلاد شكسبير، ولم تزل آخذة في التمام والاتساع أثناء حياته وبعد مماته. •••
فالقس ريتشارد هوكر
صفحه نامشخص