ومن يقرأ القصة اليوم لا يفتقد فيها لمحة شكسبير في مسرحياته التي كتبها نثرا ونظما إلى مختتم حياته الأدبية، ففيها عاداته في تحميل العبارة غاية ما تطيق من معانيها وأشكالها، وفيها شواهد الولع بالنقائض والأضداد، وفيها آيات القدرة على تصوير الشخصيات وتدبير المواقف والمفاجآت، وفيها عبرته الغالبة على جميع العبر في روايات المأساة والملهاة: وهي الحذر من الجماح والاستغراق والإنذار بسوء العاقبة؛ لأنها موكلة أبدا باللجاجة في الأهواء.
فالقصة شكسبيرية في مزاجها لا تختلف فيها سمات الشاعر إلا كما تختلف ملامح الصبا والكهولة، فهو في هذه القصة متوهج العاطفة ساطع الألوان فياض بالصور والأشكال، كأنما يريد أن يعطي كل ما عنده في دفعة واحدة، وكأنه يلتذ بالشعور الذي يساوره فلا يدعه حتى يستنفده كما ينفد اللهب من شدة الاشتعال، ولكن القارئ لا ينسى في أشد حالات الاسترسال أنه حيال عمل محكوم مملوك العنان، وأن وراء الأهواء إشرافا موزونا يلمسه في النتيجة التي تنتهي إليها القصة، وهي فجيعة فينوس في غرامها؛ لأنها أغرقت في ملاحقة أدونيس حتى هلك في طراد السباع معرضا عن لجاجتها وإصرارها، وفي بعض الحوار يقول في المقارنة بين الحب والشهوة: «إن الحب أنس كأنس الشمس المشرقة بعد المطر، ولكن الشهوة عاصفة بعد إشراق الضياء، وإن الحب الرقيق ربيع دائم، ولكن الشهوة شتاء يعاجل الصيف قبل انقضائه، وإن الحب لا يشكو التخمة، ولكن الشهوة تتخم حتى تموت، وإن الحب صدق، ولكن الشهوة كثيرة الأكاذيب.»
وقد أهدى شكسبير قصته المنظومة إلى اللورد سوثامبتون الذي كان يناهز العشرين عند إهداء القصة إليه، وكان في ذلك العصر نادرة من نوادر الذكاء والجاه والجمال، ولد في سنة 1573 وتخرج من جامعة كامبردج في السادسة عشرة، وحصل على إجازة أستاذ في الآداب من جامعة أكسفورد وهو في العشرين، وكتب اسمه بين ذوي الألقاب في الحاشية الملكية وهو دون العاشرة من عمره، وملك زمامه بين فتنة المال وفتنة الجمال، وبين غرور السطوة وغرور النبوغ على ذلك المثال الذي جعله بطلا من أبطال شكسبير في مسرح الحياة.
وبعد سنة - أي في سنة 1594 - أهدى إليه شكسبير قصته الشعرية الثانية إنجازا لوعده حين قدم له رواية فينوس وأدونيس، وكان مدارها - كالقصة الأولى - على لجاجة الحب ولكن من جانب الرجل في هذه المرة، وموضوعها مقتبس كتلك القصة من أشعار أوڨيد.
كانت قصته الثانية عن اغتصاب لوكريس زوجة كولاثيموس من كبار نبلاء الرومان، وكان تاركوين - ابن ملك الرومان - يهيم بها ويلاحقها على غير جدوى، ومما زاده هياما بها أنها اشتهرت بالعفة كما اشتهرت بالجمال، وقد تحدث قادة الرومان يوما في معسكرهم فذكروا عفة نسائهم ووفاءهن لهم في غيبتهم، وأرسلوا إلى المدينة من يمتحن هذه العفة، فوجدوا النساء جميعا يرقصن ويلهون بالسمر والمنادمة، إلا لوكريس - سيدة الجمال بينهن - فإنهم وجدوها في دارها تشتغل بمغزلها إلى الهزيع الأخير من الليل، فجن جنون تاركوين وعز عليه أن تمتنع عليه امرأة من نساء المدينة اللاهية وهو صاحب الغزوات في ساحة الحب وساحة الحرب، وخالف إليها زوجها مع الليل فهددها بالفضيحة وأقسم ليقتلن عبدا ويلقيه إلى جانبها على فراشها، فلم يرعها التهديد ولم يرجع عنها حتى اغتصبها عنوة وعاد من حيث أتى، وأصبحت لوكريس في ثياب الحداد تأخذ على ولاتها العهد أن يقتصوا لها، ثم بخعت نفسها وخرج زوجها يطوف المدينة بجثتها ويستعدي الرعية على رعاتها، فثارت ثائرة المدينة على الملك وأسرته، ولم تهدأ هذه الثائرة إلا بإجلاء البيت المالك كله عن عرشه، وإقامة الحكومة الجمهورية. •••
والقصتان المنظومتان نفحتان من روح واحدة وطرازان في التعبير من نسج واحد، ولكن الثانية أجود وأنضج من الأولى وأقرب منها إلى الجد والإتقان في موضوعها ومغزاها. •••
وللشاعر في غير المسرح والقصة مقطوعات كثيرة على وزن الموشحات، نظمت كلها في أغراض الشعر الغنائي من غزل ومناجاة وشكاية وخواطر تجري مجرى الأمثال، وهي من ثم أدل الشعر على نفس الشاعر ودخائل طويته وأصدقها تعبيرا عن حبه وعطفه، وعن نظراته الخاصة إلى أحواله وصروف أيامه، وتبلغ عدتها مائة وأربعا وخمسين موشحة نظمت ما بين سنتي 1592، 1598. ويرى الأستاذ لسلي هوستون
Leslie Hoston
الذي تخصص لتحقيق التواريخ الملتبسة والكشف عن الروابط بين موضوعها وترجمة الشاعر أن بعض الموشحات نظم في سنة 1589؛ أي قبل ظهور الموشحات التي نظمها السير سدني واعتبرها المؤرخون فاتحة عهد الموشحات في الآداب الإنجليزية على أيام الملكة اليصابات.
طبعها توماس ثورب لأول مرة في سنة 1609 وأهداها إلى مستر «و.ه» جالبها الوحيد، وهو في رأي بعض المترجمين لورد سوثامبتون الذي أهدى إليه شكسبير قصة فينوس وأدونيس، وقصة اغتصاب لوكريس؛ لأن اسمه الأول وريوثسلي
صفحه نامشخص