ومرت من أواخر هذه السنة إلى سنة 1591 فترة فراغ في ترجمة وليام لم يسمع فيها خبر عنه في القرية ولا في لندن؛ حيث يغلب على الظن أنه أقام في هجرته الأولى، وكثرت الأقاويل عن هذه الفترة على غير هدى لملء هذا الفراغ.
ولإيضاح الغوامض والشبهات التي أثارتها بحوث النقاد وشكوك المعترضين والمعجبين معا بعد استفاضة ذكره وتشعب الآراء في نسبة أعماله إليه أو إلى غيره.
ويذهب الأكثرون من أصحاب الأقاويل المختلفة في ملء فراغ هذه السنوات مذاهب من الظن أو التخمين لا سند لها من الوقائع ولا من الشهادات المسلمة أو الوثائق المتفق عليها، وإنما يأخذون فيها بالقرينة والاحتمال القريب قياسا على المعهود من أحوال العصر أو أحوال المترجم وأمثاله، وبعضها رجم بالظن لا يرجع إلى شهادة عيان ولا إلى شهادة سماع مقبول، وقد تكون القرينة في نفيه أقوى من القرينة في ترجيحه.
فمن قائل إنه هجر القرية هربا من القصاص الذي أنذره به أحد النبلاء في الإقليم - سير توماس لوسي - لأنه علم أن وليام يطارد الصيد خلسة في أرضه بجوار ستراتفورد، ومن قائل إنه هرب من القرية على غير علم من أهله ليلحق بفرقة من فرق التمثيل الجوالة في الريف، ومن قائل إنه خرج من الجزيرة البريطانية كلها في رحلة من رحلات البعوث العسكرية التي كانت تتردد ذهابا وجيئة بين إنجلترا وشواطئ أوروبة الغربية، ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير الحق» أنه لم يقصد إلى لندن عندما هجر قريته على أثر مولد طفليه، بل قصد توا إلى بليموث وركب البحر منها إلى بلاد المشرق بعد زيارة البلاد الإيطالية؛ لأن أوصافه لهذه البلاد أحجى أن تكون أوصاف خبرة عيان.
1
ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير بين الصدق والرواية» أنه كان يختلف إلى جامعة أكسفورد قبل زواجه بسنوات، وأنه لم ينقطع عنها إلا بعد عقد الزواج وإلحاح الحاجة عليه بالتماس وجوه العمل لتدبير نفقات البيت، وأنه عمل بمدرسة القرية في هذه الفترة كما جاء في بعض أنبائه، ولا يتشكك صاحب هذه الرواية في احتمالها لخلو دفاتر القيد بالجامعة والمدرسة من اسم شكسبير؛ إذ كانت هذه الدفاتر خلوا من بعض الأعلام الذين حضروا دروس الجامعة باتفاق المؤرخين وأشهر هؤلاء الأعلام «أوليفر كرمويل» زعيم الثورة بعد جيل شكسبير.
2
ويتساوى ملء الفراغ بهذه الأقاويل وترك الفراغ لمن يشاء أن يملأه بأمثالها من التخمينات التي لا تقطع فيها الحجة بنقض ولا بتوكيد.
قال الشاعر الناقد جون ماسفيلد في كتابه عن شكسبير بعد الإلمام بطائفة من هذه الأقاويل: «كل هذا ليس بالبينة ولا بالرواية ولكنه تخمين جامح، وقد يقال مثله إنه ارتقى عرشا أو صار من قدماء الرومان أو عمل في صناعة النسيج أو افتتح حانة شراب، ولا فرق في السند بين ما قيل وما يقال على هذا المثال.» •••
هذه قيمة التخمينات والفروض التي تواترت في أقوال الشراح والنقاد لملء فراغ هذه السنوات في ميزان ناقد ملهم معجب أيما إعجاب بالشاعر الكبير، وليس في كلامه عن تلك الفروض مبالغة في جوهر الحقيقة، إلا أن تكون مبالغة السخرية والتعميم، يستدركها من شاء بالتفرقة بين الفروض التي تركن إلى سند من الواقع وصدق الظن والفروض التي لا تركن إلى شيء غير الوهم وخبط عشواء.
صفحه نامشخص