والعالم يختار شعراءه على مهل، ولا يكون الحكم في اختياره للشاعر المختار ولا للأمة التي تنميه ولا لطائفة من الأمم يشملها هوى عارض في سنوات معدودات ولكنه حكم يرجع إلى قضاة متفرقين لأسباب متعددة، إذا تطابقت واستقامت على وجهة واحدة فهي بنجوة من أهواء الجور والمحاباة، ويكاد هذا الحكم يستقل عن منازعات الرأي في مدارس الأدب ومذاهب النقد؛ لأن حكم العالم باختيار الشاعر يتم عند تمام الاهتمام بتقديره ولا تنتظر مدارس الأدب حتى تفرغ من الأسماء والعناوين التي تطلقها على ذلك التقدير، ولا غبار على ميزان الاهتمام في جملته، إذ يكفي أن يطول اهتمام العالم كله بكلام شاعر لتثبت له القيمة الأدبية، أيا كان اسم تلك القيمة في مذاهب الأدباء والنقاد.
وآية الشاعر العالمي متى وجد في أمة من الأمم أن هذه الأمة لا تستطيع أن تحصره فيها؛ لأنه استحق «العالمية» بمزاياه الإنسانية المشتركة بين الأقوام والأزمنة، ولم يستحقها بمزية مقصورة على قومه يكررونها ويعيدونها بما استأثروا به من صفاتهم المكررة المعادة، وإذا لم يكن في إنجلترا شكسبيران ولم يكن في اليونان هوميران فليست علاقة الوطن في أحدهما بأثبت من علاقة الإنسان حيث كان.
ولهذا يحدث أحيانا أن يتشيع للشاعر العالمي أناس من غير وطنه على أناس من صميم وطنه، وقد يهجرونه في بلاده زمنا ثم يعودون إليه بهداية جديدة من الغرباء عنهم، فهم يستوردونه مرات من «الخارج» ولا يحق لهم أن يمنوا على «الخارج» بأنهم قد أصدروه إليه.
تلك آية من آيات «العالمية» تتمثل في شكسبير كما تمثلت في نظرائه من عباقرة العالم، فلا تستأثر بلاده اليوم بمأثرة من مآثر العناية به فيما عدا القربى «المحلية» التي فرضتها اللغة والمكان، وفي بلاد اللغة الإنجليزية من أجل ذلك متاحف لآثاره ومعاهد لذكرياته وطبعات من أصول كتبه لا يضارعها بلد آخر يتكلم بلغة أخرى ... أما دراسته ومراجعة أقواله وأقوال نقاده وشراحه، فذلك مجال يتسابق فيه قومه وغير قومه، ولا يندر أن يكون قومه هم المسبوقين فيه. •••
على أن هذه الشهرة العالمية لم تتوطد لشكسبير على عجل، فقد مضى أكثر من مائة سنة قبل أن ينتقل اسمه من جزيرته شوطا بعيدا إلى أرجاء القارة الأوروبية، ثم سرى فيها على مهل، فاختلف مجراه ومجرى السياسة في دولته اختلافا ينبئ عن كثير من أسرار العظمة الأدبية، وأظهر ما ينبئ عنه أن العظمة الأدبية التي ترتفع إلى أوج المكانة العالمية تسير بخطاها ولا تسير في ركاب دولة تحميها، فلو كانت في القارة الأوروبية بلاد تحتجب عنها شهرة شكسبير لسبب من أسباب السياسة الدولية لكانت فرنسا وألمانيا وروسيا أحق البلاد أن تحتجب عنها تلك الشهرة وأن تقف عند حدودها فلا تعبرها، فإنها الدول الثلاث التي أقامتها الحوادث منذ القرن السابع عشر مقام المنافسة - أو المنازعة - للدولة البريطانية في طلب السيادة على القارة وما وراءها، ومن لم يشتبك منها في حرب مع دولة شكسبير خلال القرن التاسع عشر فقد كان في ذلك القرن يجمع عدته لتلك الحرب ويتوقعها في أوانها، ولكن هذه الدولة كانت بين أسبق الدول الأوروبية إلى تعظيم الشاعر الغريب عن القارة وترويج أدبه والتنويه بقدره، وكان أسبقها في الزمن وفي التنويه فرنسا التي كانت خلال القرن كله تتلقى زحوف شكسبير زحفا بعد زحف وتذود جيوش بلاده في ميادين القارات الأربع بين العالمين القديم والجديد.
وآية «العالمية» في تنويه فرنسا بالشاعر الغريب أن يكون له فيها أنصار يفضلونه على أعلام الشعر والفن في أمتهم من طراز كورني وراسين وموليير، ومن لم يفضله في جميع المزايا على إطلاقها فقد فضله في بعض مزاياه غير متحرج ولا متحفظ، ومن هؤلاء من رفعتهم «شهرتهم العالمية» في حينها إلى طبقة كورني وراسين وموليير، وهم: هوجو، ولا مرتين، وأناتول فرانس، وأندريه جيد، ورومان رولان. •••
وفي ألمانيا ننظر إلى الأدباء والمفكرين الذين جعلتهم الأمة الألمانية فخرا «وطنيا» لها فإذا هم أكبر أدبائها ونقادها إعجابا بشكسبير، وقد كتب عنه هردر وجيتي وشلجل ولسنغ في ألمانيا، وكتب عنه كولردج وكارليل وهازليت وأرنولد في إنجلترا، وتقارب الوقت الذي كتب فيه هؤلاء وهؤلاء كأنهم في مباراة بينهم للتعريف به والإبانة عن معرفتهم بقدره، فلو كان قصب السبق في هذه المباراة لمن أعلن من فضله ما لم يعلنه الآخرون لتردد القارئ طويلا قبل أن يسلم قصب السبق للإنجليز أو الألمان.
وبعد حربين من حروب الحياة والموت بين ألمانيا وإنجلترا يحصي الناقد الألماني ولفجانج كليمين
Wolfgang Clemen
1424 عرضا لروايات شكسبير - ويشير إلى أسبوع خاص أفرد لتلقي الروايات على مسرح الدولة بدرسدن، ويذكر أن جماعة شكسبير استأنفت إصدار مجلتها الخاصة بأخباره وبحوثه، فصدر منها ثلاثة أعداد من الرابع والثمانين إلى السادس والثمانين بعد انقطاعها لضرورات الحرب، وعادت الجماعة إلى عقد جلساتها السنوية بمسرح بوشام
صفحه نامشخص