وتمضي الأشهر ويأتي النبأ من القاهرة بأن نفيسة قد رزقت زوجها صبية أخرى، وأنها سمتها جلنار، فيبتهج خالد وأبوه بنعمة الله. وكان خالد يود لو رزقته امرأته غلاما، وكان علي يود لو جاءه ابنه بغلام. ولكن الله قد أراد، وإرادة الله نافذة، والحق على المؤمنين الصادقين أن يقبلوا نعمة الله شاكرين. والشيخ ينظر ذات ليلة إلى الأب وابنه نظرة فيها كثير من سخرية وتأنيب، وهو يقول لهما: «حسنة وأنا سيدك» أليس كذلك يا علي؟ أليس كذلك يا خالد؟ إن فقراء الترك يقولون هذا لأغنياء المصريين، فأما أنتما فلا تقولان هذا لغني من الناس، وإنما تقولانه للغني عن الناس وعن كل شيء. ليصومن كل منكما سبعة أيام وليطعمن كل منكما أهل الحلقة في هذا الأسبوع، وليصلين كل منكما، وليدعون وليستغفرن حتى أؤذنه بأن الله قد تاب عليه، سأعرف ذلك في وجوهكما. ثم يتحول عنهما فيقيم الذكر. وقد أدى كل منهما ما أمره الشيخ بأدائه، فصام كل منهما ودعا وتصدق واستغفر الله، ولعل كلا منهما بكى واستعبر. وهما يروحان على الشيخ في كل يوم، فينظر الشيخ في وجوههما ثم يتحول عنهما لا يقول لأحد منهما شيئا. وفي ذات يوم ينظر الشيخ إليهما وقد عرف في وجوههما الحزن والندم وقال: اجتهدا لعل الله أن يتوب عليكما. ومهما يجتهد الأب وابنه، فقد يظهر أن الله لم يتب عليهما؛ لأنهما يصومان ويصليان ويتصدقان ويدعوان وفي قلب كل منهما خاطر ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يحس: لو رزقنا الله غلاما مكان هذه الصبية.
ثم يهبط خالد إلى القاهرة ليرى ابنته، ويرد أهله إلى المدينة. فإذا بلغ القاهرة وأدخل إلى أهله وقدمت إليه الصبية، نظر في وجهها ثم نظر في وجه امرأته، ثم جهر بقراءة آيات من القرآن يرد نفسه إلى الأمن وقلبه إلى الاطمئنان؛ ويمسك نفسه أن تخرج عن طهورها؛ فقد رأى ويا نكر ما رأى! رأى ابنته الثانية صورة مطابقة لأمها أشد المطابقة، وقد تكلف الاستبشار والرضا. وأحست منه زوجه ما أحست، فلم تظهر شيئا. ثم خلا إليه حموه، فقال: أصبر نفسك على ما تكره يا بني، فإن الله يمتحن عباده المؤمنين بالصبر. وأقسم لقد نهيت أباك عن تزويجك من ابنتي فإنها لم تخلق للزواج. وأقسم يا بني لقد رحمتك وأشفقت عليك وتحدثت إلى أبيك في ذلك، ولكن لله أمرا هو منفذه وحكمة هو بالغها.
قال خالد وقد ثاب إلى عقله كله وقلبه كله: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. علام أصبر وفيم أمتحن وما رأيت منك ولا من زوجي إلا خيرا، وما أنكرت شيئا وما ينبغي أن أنكر شيئا؟! أفترى نفيسة قد شكت إليك بعض قسوتي عليها في الدعابة والمزاح؟ فإني معتذر إليك وتائب إلى الله من هذا الإثم العظيم.
قال عبد الرحمن وهو يقبل ختنه: لا والله يا بني ما شكت إلي نفيسة شيئا، وما علمتك إلا برا كريما وابن أخ بر كريم. ومنذ ذلك اليوم أنزل الله السكينة على قلب خالد، فثاب إلى أهله وابنتيه كأحسن ما يثوب الزوج الصالح والأب العطوف.
الفصل السابع
على أن للشيطان في قلب كل إنسان مكانا يصغر ويكبر ويتسع ويضيق بمقدار حظه من الخير ونصيبه من رضا الله وبره به، وبمقدار اجتهاده في الدين، وحرصه على التقوى، وإيثاره للخير والمعروف. ولكن هذا المكان موجود دائما في قلوب الناس يبتلون به فيما يأتون من الأمر وما يدعون. وقد اجتهد خالد في الدين ما وسعه الاجتهاد، وآثر الخير والمعروف ما استطاع، ولكن مكان الشيطان ما زال مستقرا في قلبه؛ لأنه لا يزول إلا من قلوب الأنبياء والصديقين. والشيطان ماكر ماهر في المكر يحسن الاستخفاء بمكره وغدره، ويبرع حين يلبس الحق بالباطل، وحين يزين الشر في قلوب الناس، وحين يخدع الرجل عن نفسه وعن أحب الناس إليه وآثرهم عنده.
وقد كان الشيطان ماكرا ماهرا في سيرته مع خالد؛ فقد استخفى في ثنية من ثنايا قلبه وعطف من أعطاف نفسه أسابيع وأشهرا، لا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين سميحة وأمها من الاختلاف، ولا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين جلنار وأمها من التشابه المروع، وإنما يستخفي في زاوية من زوايا نفسه، حتى إذا أقبل خالد على ابنته الصغرى يريد أن يلاعبها أو يداعبها أو يلثمها أو يشمها انسل حتى يدنو من الصبية، فلا تكاد الصبية تبتسم إلا غشي ابتسامتها البريئة الحلوة بتقلصه المنكر البغيض الذي يسميه ابتساما. ولا تكاد الصبية تقطب وجهها لما يقطب له الأطفال وجوههم إلا اتخذ الشيطان أبشع ما يؤذن له أن يتخذه من الصور وعرضه دون وجه الصبية، فتقع عليه عين خالد، وإذا لسانه يوشك أن يتلو الآية الكريمة المروعة:
طلعها كأنه رءوس الشياطين . ولكنه يمسك لسانه في جهد شديد، ويمسح رأس الصبية وهو يتلو آية الكرسي كأنه يحصن بها الطفلة من كل خوف، وهو إنما يحصن نفسه من هذا الروع المروع الذي أشاعه الشيطان في قلبه. ولا يكاد الشيطان يسمع الحروف الأولى من هذه الآية حتى ينسل فزعا مذعورا، ولكن فزع الشيطان قصير الأجل، وحيلة الشيطان طويلة المدى؛ فهو لا ينسل إلا ريثما يبلغ الصبية الكبرى «سميحة» ذات الحسن الرائع والمنظر الأنيق، فيدفعها إلى أبيها، فتندفع فرحة مرحة، وإذا خالد البائس بين أجمل وجه خلقه الله، وأقبح وجه خلقه الله، وإذا هو مضطر إلى أن يلقي نظرة إلى تلك، وإذا هو مضطر إلى أن يفكر في امرأته، فيلحظها لحظة خاطفة، ثم ينصرف مسرعا رافعا صوته بآية الكرسي، حتى إذا بعد عن أهله شيئا أخذ المصحف، وفزع إليه بعد أن يستعيذ الله من الشيطان الرجيم.
وكذلك كانت حياة خالد عذابا متصلا بين ابنتيه وزوجه، يدفعه إليهن الحب والبر والعطف، ويصرفه عنهن الشيطان بما يتنكر من صور وما يزين في قلبه من شر، حتى أصبح لا يجد الراحة ولا الأمن إلا إذا خرج من داره وتحدث إلى أصدقائه وأترابه، وأي راحة وأي أمن! فقد كان الشيطان يألف أصدقاء خالد وأترابه. وما أكثر ما يألف الشيطان من الناس! وكان يطلق ألسنتهم بكثير من القول، فيه الإغراء بالمنكر، وفيه الصرف عن المعروف، وفيه هذه الأحاديث التي يألفها الشباب في القرى عما يأتون وما يدعون إذا خلوا إلى أهلهم، ثم فيه هذه الأحاديث التي تمتلئ بالأماني الآثمة والأحلام التي نسجت من الخطايا نسجا . فيه هذه الأحاديث التي يظهر فيها الخير والطاعة ويستتر فيها الإثم والفجور: أحاديث الاستكثار من الزوجات، والتنقل بينهن إرضاء للشهوات الجامحة والغرائز التي ليس للعقل عليها سلطان، وحديث الطلاق، واستبدال زوجة مكان أخرى للأسباب الهينة والأسباب ذات الخطر.
كل هذه الأحاديث كان الشيطان يطلق بها ألسنة الأصدقاء والأتراب الذين كان خالد يلقاهم إذا خرج من داره، فلا يكاد يسمع منها شيئا حتى يذكر امرأته وصورتها المنكرة، وإذا نفسه تنازعه إلى الطلاق، فيستحي منه ويرحم ابنتيه، وإذا نفسه تنازعه إلى الزواج فيستحي منه ويذكر حماه في القاهرة وأباه في المدينة، ويرحم امرأته وابنتيه من هذه القسوة التي لم يعرض ما يدعو إليها، ويسأل نفسه عن مكان امرأته الوفية من زوجه تلك التي يمكن أن تطرأ على داره، وعن مكان ابنتيه هاتين البريئتين من زوجه الطارئة وممن عسى أن ترزقه من بنين وبنات، ثم يسأل نفسه عن نفسه، وكيف يكون بين هاتين الزوجين، وكيف ينصفهما من حبه وقلبه، وكيف يرضي الله عن عدله بينهما، والله قد طلب إلى المسلمين هذا العدل، وبين لهم أنه عسير. وقد كان خالد على ذلك كله معذبا في حياته بهذه الأهوال التي يكبرها له الشيطان، ويجسمها في نفسه تجسيما، كما كان معذبا بشبابه القوي وفتوته الثائرة، وبهذا الشر الجديد الذي ابتلي به؛ فقد صرف عن زوجه صرفا، لا يكاد يراها إلا تولى عنها أسفا محزونا، فإذا خلا إلى نفسه جلى الشيطان له أجمل النساء وجها، وأحسنهن قواما، وأشدهن للرجال فتنة، وما زال يغريه ويغريه حتى يهم بهذه الصور الرائعة التي تتراءى له، فإذا هم لم يجد إلا ظلالا ووجد عندها ندما أليما.
صفحه نامشخص