فقال دون توقف عند قوله: أخشى أن يتكرر موقفي تجاه العمل إلى ما لا نهاية. - عليك بالرجيم والرياضة. ولن يهون عليك أن تخون بثينة، وتقع في اليأس. - سوف أشرب كأسا أخرى. - لا بأس، ولكن كن أكثر حزما في الإسكندرية. - تقول إنني كرهتك يوما ما، أنت كاذب كأكثر أهل صناعتك. - كنت تضيق بي على عهد إيماني الشديد بالفن. - كنت وقتذاك أعاني نزعه من نفسي. - أجل، كنت تقاتل حبه الكامن فيك، وتهجره بقسوة، وكنت أنا في ذلك الوقت وجها من وجوهه جديرا بإثارة الشجون. - ولكني لم أكرهك، وجدتك فقط ضميرا معذبا. - وقد احترمت أزمتك بعقل متسامح، وصممت على الاحتفاظ بك وبالفن معا.
ثم وهو يضحك: ولعلي أرحتك كثيرا عندما قررت نبذ الفن بقوة مذهلة، وها أنا أبيع اللب والفشار عن طريق الصحف، والإذاعة، والتلفزيون، على حين تنهض أنت قمة من قمم المحاماة في ميدان الأزهار.
ذكريات معادة، كالقيظ والغبار، دورات محكمة الإغلاق. والطفل الباسم يتوهم أنه يمتطي جوادا حقيقيا. - ضجر، يضجر، اضجر، فهو ضجر، وهي ضجرة، والجمع ضجرون، وضجرات. - الرجيم والرياضة! - يا لك من مضحك! - هي رسالتي في الحياة، التسلية، والجمع تسليات. قديما كان للفن معنى حتى أزعجه العلم من الطريق؛ فأفقده كل معنى. - أما أنا فقد نبذته دون تأثر بالعلم. - إذن لماذا نبذته؟
ماكر كالقيظ، وهذا الليل لا شخصية له، وضجيج الطريق ولا طرب. الماكر يسأل وهو يعلم. - دعني أسألك أنت عن السبب؟ - قلت وقتذاك إنك تريد أن تعيش، وأن تنجح. - إذن لماذا طرحت السؤال؟
ها هي نظرة اعتراف تقلق في عينيه الذابلتين من رمد قديم. - أنت نفسك لم تنبذه بسبب العلم وحده! - زدني علما. - عجزت عن أن تحتفظ له بمكانة محترمة على مستوى العلم.
فضحك مصطفى بصفاء مغسول بالويسكي، وقال: لا تخلو حركة هروبية من فشل، ولكن صدقني أن العلم لم يبق شيئا للفن، ستجد في العلم لذة الشعر، ونشوة الدين، وطموح الفلسفة. صدقني أنه لم يبق للفن إلا التسلية، وسينتهي يوما بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل في شهر العسل. - ما أجمل أن أسمع ذلك، انتقاما من الفن لا حبا في العلم. - اقرأ أي كتاب في الفلك، أو في الطبيعة، أو في أي علم من العلوم، وتذكر ما تشاء من المسرحيات، أو دواوين الشعر، ثم اختبر بدقة إحساس الخجل الذي سيجتاحك. - ما أشبه هذا الشعور بما ينتابني عندما أفكر في القضايا والقانون. - هذا الشعور المخجل لا يعانيه إلا الفنان المنبوذ من الزمن.
فتثاءب عمر، ثم قال: اللعنة، إني أشم في الجو شيئا خطيرا، ويرعبني إحساس حركي داخلي بأن بناء قائما سيتهدم.
ملأ مصطفى كأسا جديدة، وقال: لن نترك بناء كي يتهدم.
فمال نحوه مقطبا، وسأله: ماذا تظن بي؟ - الإجهاد، والتكرار، والزمن. - وهل في الرجيم والرياضة الكفاية؟ - كل الكفاية، اعتقد ذلك من كل قلبك.
3
صفحه نامشخص