واستطرد عثمان قائلا: تصور أن يقتدي بك العقلاء في هذه الدنيا! - فليبق العقلاء للدنيا. - لكنك واحد منهم.
فمسح على رأسه، ثم كور قبضته، ورمى بها إلى الأرض بازدراء قائلا: هاك عقلي تحت قدميك.
فتساءل عثمان محزونا: ما جدوى هذه المناقشة؟ - هي عقيمة، ولا جدوى منها، وغدا لن تقع علي عين.
وقال مصطفى متأوها: لا أصدق كلمة واحدة مما يقال.
فقال وهو يخفي عينيه في الأرض: من الخير أن تنسياني كأن لم أكن.
فقال مصطفى: ولكنه فوق الاحتمال.
وتصلب وجه عثمان في حزن غاضب. وأسدل عمر على وجهه ستارا أصفر من اللامبالاة. وتحول شخصاهما في نظره إلى مجموعتين من الذرات فامحت ذواتاهما. ومن صراعه الباطني أدرك أن حبهما ما زال عالقا بفؤاده كأسرته. ذلك الصراع الذي يحمل أعصابه ما لا تحتمل من ضغط وتمزق. وتاقت نفسه إلى لحظة الانتصار المأمولة، لحظة التحرر الكامل.
18
عندما يظفر قلبك بضالته سيجد نفسه خارج أسوار الزمان والمكان. ولكنك ما زلت تشقى باللوعة في البيت الصغير ككوخ، تنبسط من حولك الأرض المعشوشبة، وتحيط بها على مدى السور أشجار السرو الرفيعة المقام. متى اليوم الذي يغيب عنك السرو وما يحدق به؟ يوم تسكت أشجان الليل المستقطرة من هسيس النبات، وزفرات الصراصير، ونقيق الضفادع. يوم لا ترهقك ذكرى ماضية، ويستأثر بك اللاشيء، وتتلاشى أصداء الترانيم الهندية، والتأوهات الفارسية، فتستقبل شعاع النشوة الوردي بلا وسيط. نشوة الفجر العصماء العصية لتشدك بقوة المجهول إلى قبة السماء. هنالك لن يعرف قلبك النوم، ولا حواسك الصحو.
وقفت بثينة رشيقة كشجرة السرو، وأجالت عينيها الخضراوين بين الحديقة والحقول المترامية وراء الأسوار، والترعة الجارية بين صفين من أشجار السنط، وسألته في عتاب: أمن أجل هذا؟!
صفحه نامشخص