تجهم وجه عمر. لطمته الذكرى بقبضة من حديد، ثم غمغم: إنه في السجن. - نعم، عمر طويل في السجن، أظنه كان زميلك في كلية الحقوق؟ - تخرجنا في عام واحد، أنا ومصطفى وعثمان. الحق أني لا أحب الماضي.
فقال بنبرة ختامية: فلتحب المستقبل.
ثم وهو ينظر في ساعته: من الآن فصاعدا أنت أنت الطبيب.
في حجرة الانتظار رفع عينيه مرة أخيرة إلى الصورة. لم يزل الطفل ممتطيا جواده الخشبي متطلعا إلى الأفق. وهذه البسمة الغامضة في عينيه أهي للأفق؟ وما زال الأفق منطبقا على الأرض، فماذا يرى الشعاع الذي يجري ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلة بلا جواب، فأين طبيبها؟
وفي الخارج أمام العمارة بميدان سليمان باشا، ركب الكاديلاك السوداء، فتحركت به كباخرة عروس النيل.
2
الوجوه تتطلع إليك مستفسرة، حتى قبل أن ترد تحيتك. حنان رقيق مخلص، ولكن ما أفظع الضجر! الحموضة التي تفسد العواطف الباقية. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة على النيل من الدور الرابع. وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس، واكتظت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم مليء بالثقة والمبادئ، وضاقت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما. أما ابتسامتها؛ فما زالت تحتفظ ببراءة رائقة، ومحبة صافية. - قلبي يحدثني بأن كل شيء طيب.
إلى جانبها وقف مصطفى المنياوي في بدلته الشركسكين، رافعا نحوك وجهه البيضاوي الشاحب، وعينيه الذابلتين، وصلعته التاريخية، وقد بدا ضئيلا في نحافته إلى جانب الزوجة المحكمة البناء. - حدثنا عن زميل المدرسة، ماذا قال؟ وهل عرفك؟
واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برنزي لامرأة باسطة الذراعين في هيئة مرحبة، وتطلعت إلى أبيها في تشوف بعينيها الخضراوين، وهي تكرر صورة أمها عندما كانت في الرابعة عشرة، بقامتها الرشيقة، ولكن يبدو أنها لن تتعملق مع الأيام، ولن تسمح للدهن بأن يغطي على صفائها. تساءلت بنظرة كما تتفاهم معك كثيرا دون كلام، أما جميلة - أختها الصغيرة - فعكفت على دبتها بين مقعدين كبيرين، ولم تهتم بالقادم.
وجلسوا جميعا، ثم قال بهدوء: لا شيء.
صفحه نامشخص