وساد صمت متشائم، ونفث الدخان من فم متوتر، ثم تساءل: أكان ينبغي أن تأخذ مزيدا من الراحة؟ - دعنا من المغالطة، فالأمر أخطر من ذلك.
ثم وهو يشعل بدوره سيجارة على صدى أنغام جديدة: الأمر أخطر من ذلك، وليس العمل وحده الذي أصبحت أكره، ولكن الداء يلتهم أشياء أخرى أعز علينا من العمل، زوجتي على سبيل المثال. - زينب!
فقال فيما يشبه الحياء: لا أدري كيف أتكلم، ولكن للأسف لم أعد أطيقها، البيت نفسه لم يعد بالمأوى المحبوب. - أتقول ذلك عن مكان يضم بثينة وجميلة؟ - من حسن الحظ أنهما ليستا في حاجة إلي. - تجهم وجه مصطفى، ورمشت عيناه المستديرتان الذابلتان، وتجلت في نظرته المستطلعة رغبة ملحة حزينة في حل اللغز. - لكن مثلك لن يعجزه معرفة السر.
قال وهو يبتسم ابتسامة مريرة: لعله الكون - بدورانه الدائم على وتيرة واحدة - هو المسئول الأول عن ذلك. - اعترف بأنك تبالغ فيما يتعلق بزينب على الأقل. - هي الحقيقة السوداء.
فسأله بإشفاق: تتوقع عواقب عملية لذلك الموقف؟ - إني أعيش في مقام السؤال، ولكن بلا جواب. - على الأقل؛ فإنك لا بد مقتنع بأن ما بك هو حال من أحوال النفس. - سمه كيف شئت، ولكن ما هو؟ ماذا أريد؟ ماذا علي أن أعمل؟ - أنت أرشد من أن تبقى في مقام السؤال، سائل رغباتك الدفينة، راجع أحلامك، ها هي أشياء تود الفرار منها، ولكن إلى أين؟ - أجل، إلى أين؟ - عليك أن تجيب بلا تردد. - خبرني أنت عما يدفعك إلى العمل والزوجة؟
بدا السؤال مضحكا على نحو ما فضحك، ولكن قتامة الجو لم تسمح للمرح بالبقاء أكثر من ثوان. - إني أرتبط بزوجتي بحكم الواقع والعادة، أما عملي فهو مصدر رزقي، ولي جمهور أسعد به كثيرا، مئات الرسائل التي أتلقاها أسبوعيا تسعدني حقا، والحق أن تجاوب الناس معك قيمة ثمينة، ولو يكن مصدره بيع اللب والفشار! - وأنا ليس لي جمهور، وواقع، وعادة؟
تردد مصطفى مليا، ثم قال: الحقيقة أن عملك جاوز بك أبعد غايات النجاح، وأن زوجك تعبدك، فلم تعد أمامك غاية تتطلع إليها.
عمر وهو يبتسم ساخرا: هل أسأل الله فشلا في العمل، وخيانة في الزوجية؟ - لو استجاب لك؛ لمنحك حب الحياة من جديد.
وخلا كلاهما إلى نفسه في صمت مشحون بالتوتر، منذر بمأساة وشيكة الوقوع، وقال عمر: يعزيني أحيانا أنني أكره نفسي بنفس القوة.
ثم وهو يطفئ عقب السيجارة في النافضة بقوة حانقة: والحق أن عملي وزينب ونفسي، كل أولئك شيء واحد هو ما أود التخلص منه.
صفحه نامشخص