فبكت واشتد نشيجها، وقالت: اغفر لي ذنبي يا سيرانو، فقد كنت السبب في جميع ما حل بك في حياتك من المصائب. قال: لا، بل بالعكس، فلقد قضيت حياتي كلها محروما لذة عطف المرأة وحنانها، حتى إن أمي كما حدثوني لم تكن تستطيع أن تراني جميلا كما يرى الأمهات أولادهن المشوهين، ولو كانت لي أخت أو عمة أو خالة لكان شأنهن معي ذلك الشأن، ولم أر يوما من الأيام في عيون النساء جميعا - جميلات كن أو دميمات - غير نظرات الهزء والسخرية والنفور والاشمئزاز، وأنت المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تتخذني صديقا، واستطعت أن ألجأ من عطفها ورحمتها إلى ظل ظليل، فما أعظم شكري لك! فقالت: عش يا سيرانو فإني أحبك، بل ما أحببت في حياتي أحدا سواك، وما لبست ثوب الحداد خمسة عشر عاما إلا من أجلك! قال: لا تحاولي الغدر بكرستيان يا سيدتي، واحذري أن يخف حزنك عليه، وبكاؤك على مصرعه، فإنه صديقي، وكل ما أطلبه إليك أن تضمي إلى شارات حدادك شارة صغيرة من أجلي؛ ليكون حزنك علي جزءا من حزنك عليه. فصاحت: آه ما أشقاني! لقد أحببت في حياتي حبيبا واحدا ففقدته مرتين!
وكان كوكب الليل قد أشرق من مطلعه، فانبسطت أشعته في فناء الدير، فانتعش سيرانو حين رآه وقال: ها هو ذا صديقي «فيبيه» قد أرسل إلي أشعته لتحملني إليه، فشكرا له على ذلك، سأصعد الليلة إلى السماء على نعش جميل من تلك الأشعة الفضية اللامعة، بدون أن أحتاج إلى تلك الآلات الرافعة التي سردتها على الكونت دي جيش، وسيكون مقامي هناك في ذلك الكوكب الجميل مع تلك النفوس العظيمة، التي أحبها وأجلها: سقراط، وأفلاطون، وغاليلي، وجميع الذين ماتوا ضحايا صدقهم وإخلاصهم!
وهنا انتحب لبريه وقال: وا أسفا عليك أيها الصديق الكريم! وما أشد ظلمة الحياة من بعدك!
فانتبه إليه سيرانو وقال له: لا تحزن علي كثيرا يا لبريه؛ فإني ذاهب لملاقاة صديقي كاربون دي كاستل، وسائر أبناء وطني الذين ماتوا ميتة الشرف والفخار في ميدان أراس، وسيكون مجتمعنا هناك جميلا جدا لا يكدره علينا ممثل ثقيل، ولا نبيل جاهل ولا شاعر مغرور!
وصمت صمتا طويلا كان يعاني فيه من الآلام ما لا يحتمله بشر، ثم ثار من مكانه هائجا مضطربا، وجرد سيفه من غمده وأخذ يصيح: لا لا، لا أريد أن أموت على هذا المقعد ميتة العاجز الجبان! فذعر أصدقاؤه ونهضوا بنهوضه، وحاول راجنو أن يمسكه، فدفعه عنه، وأسند ظهره إلى شجرة ضخمة، وقال: دعوني فإني أريد أن أموت واقفا.
وأخذ ينظر أمامه ويحدق النظر، كأنما يرى شبحا مقبلا عليه، ثم قال: تعال أيها الموت! تقدم ولا تخف! فقد أصبحت رجلا ضعيفا خائرا، لا قبل لي بمواثبتك ومغالبتك، تقدم، فما أنا بسيرانو دي بيرجراك، إنما أنا خياله الماضي وصورته الضئيلة، فهل بلغ بك الجبن أن تخاف الصور والخيالات؟ لقد ضعف في يدي ذلك السيف الذي كنت أقاتلك به، وأصبح رأسي ثقيلا ويداي مغلولتين، وكأن قدمي مصبوبتان في قالب من الرصاص، أقبل ولا تخف، ما لي أراك تنظر إلى أنفي نظر الساخر الهازئ؟ أشماتة هي أيها الساقط الجبان؟ ماذا تقول؟ تقول: إنك أقوى مني؟ نعم، ما أنكرت عليك ذلك، ولكني على هذا سأقاتلك وأثبت؛ لا لأني أطمع في أن أنتصر عليك؛ بل لأني أريد أن أموت ميتة الأبطال من قبلي!
ثم أخذ يدير عينيه يمنة ويسرة ويقول: من هؤلاء؟ مرحبا بكن أيتها الرذائل، لقد عرفتكن يا أعدائي القدماء؟ ما أكثر عددكن، وأقبح وجوهكن! نعم، سأموت، ولكن بعد أن شفيت منكن عليلي ومثلت بكن أقبح تمثيل، اغربن من وجهي، قبحكن الله وقبح صوركن وأزياءكن.
وظل يطعن بسيفه يمينا وشمالا، وأمام ووراء، ويقول: خذ أيها الكذب، خذ أيها الطمع، مت أيها الغدر، تبا لك أيتها الخيانة!
وظل يدور حول نفسه ساعة حتى بلغ منه الجهد، فسقط بين أذرع لبريه وراجنو، وظل على ذلك هنيهة، ثم فتح عينيه وحدق النظر أمامه طويلا، وقال: تقدم أيها الموت وخذ ما تريد مني؛ أتدري ماذا تستطيع أن تسلبني؟ إنك تستطيع أن تسلبني حياتي، وجسمي، وهذا السيف العزيز علي، وهذه الريشة التي وضعتها يد الفخار في قبعتي، بل جميع ما تملك يدي، ولكن شيئا واحدا لا تستطيع أن تسلبنيه، وسيرافقني في سفرتي التي انتويتها إلى السماء حتى أقف به بين يدي الله تعالى رافع الرأس عزة وفخارا، وهو ...
وهنا عجز عن النطق، فحاول أن ينطق الكلمة التي أرادها فلم يستطع، فانحنت عليه روكسان وقبلته في جبينه، وأرسلت دمعة حارة على وجهه، وقالت: وما هو يا سيرانو؟ ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فابتسم وقال: حريتي واستقلالي!
صفحه نامشخص