تمهيد
ألفريد نوبل
الوصية
أسباب المنح والمنع
الجوائز والأمم
الإسبان المختارون
الأدب الإسباني في وطنين
نحو القرن العشرين
چوان رامون خيمنيز1
بلاتيرو وأنا
آراء وخواطر
قصائد ومقطوعات
صور أدبية
ذكريات
سطور
تمهيد
ألفريد نوبل
الوصية
أسباب المنح والمنع
الجوائز والأمم
الإسبان المختارون
الأدب الإسباني في وطنين
نحو القرن العشرين
چوان رامون خيمنيز1
بلاتيرو وأنا
آراء وخواطر
قصائد ومقطوعات
صور أدبية
ذكريات
سطور
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
كانت أمامي مجموعة تشتمل على تراجم الأدباء المختارين لجائزة «نوبل» منذ ابتدائها في أوائل القرن الحاضر إلى سنة الحرب العالمية الأولى، فسألت نفسي: ترى لو لم تذكر مناسبة الجائزة في هذه المجموعة، هل يستطيع القارئ الناقد أن يعلم أسباب اختيار هؤلاء الأدباء دون غيرهم من مئات الأدباء في هذه الحقبة التي تجاوزت الجيل في حدوده المصطلح عليها؟!
إنه يعلم ولا شك أن هناك وحدة مقررة جمعت بين أسمائها، ولكنه قد يبحث عن تلك الوحدة طويلا قبل أن يقف على حقيقتها أو ما يقارب تلك الحقيقة.
ففي وسعه أن يعلم بغير مشقة أن هذه الأسماء لا تنتمي إلى أمة واحدة، ولا إلى فترة واحدة تتقارب فيها الأعمار.
ولكنه لا يرى فيها دلالة على التطور أو الترقي في مطلب واحد من مطالب الأدب؛ لأنها تقرن الشعر بالقصة، وتقرن هذين بالرواية المسرحية، وتقرن هذه المطالب جميعا بالتاريخ أو بفلسفة الأخلاق، وتمضي في طريق ثم تعود إليه بعد ارتياد الطرق الأخرى على اطراد وعلى غير اطراد.
ولا يرى الناقد في هذه المجموعة أنها جمعت أفضل نماذج الأدب في الأمم المتعددة ولا في الأمة الواحدة؛ لأنه يرى للأدباء المختارين أندادا يماثلونهم أو يفوقونهم في أمتهم وفي سواها.
ولكنه يعلم على التحقيق أن المجموعة تعطيه صورة واسعة متعددة الجوانب من ثقافة الغرب في قرابة نصف قرن، ولا يفوته أن يلمح فيها غياب نوع من الأدب لا يمثله أديب من أدبائها، وهو ذلك النوع الذي نصطلح على تسميته بدعوة الهدم والعنف، أو بما دون ذلك من دعوات الخشونة والمرارة، فإذا لاحظ ذلك فقد وصف المجموعة على الجملة صفة مقاربة لحقيقتها؛ لأنها في الواقع تجمع نماذج الفن الرفيع على شرط محدود، وهو خدمة السلام والتفاؤل بمصير الإنسان، فإذا توافر الشرطان مع التوسط في الكفاية والإتقان، فذلك خير من الامتياز الراجح بواحد منهما وفقدان الآخر.
وليست العصمة في وزن أحد الشرطين أو وزنهما معا أمرا مستطاعا أو ميسورا لعمل من أعمال الإنسان، فقد يختل الوزن مع اختلاف الزمن واختلاف البواعث النفسية أو الاجتماعية، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه أن دراسة الجائزة على علاتها كفيلة بتعريف الناقد تعريفا صحيحا بصورة وافية من صور الثقافة الغربية الحديثة من جوانبها المتعددة، ولا يقدح في ذلك غياب الجانب المسكوت عنه من أدب الهدم والقنوط؛ فإن الجانب المختار يدل عليه ويشير إليه، ويكاد يشرحه شرحا صريحا على سنة المقابلة ومعارضة النقيض على النقيض.
وهذا الذي اخترنا تأليف هذا الكتاب لأجله؛ فإن دراسة «جائزة عالمية» يستحقها من تختارهم هيئة من الهيئات المرشحة لوظيفتها، لن تخطئ أن تعطينا صورة من تاريخ الأدب الحديث تستحق النظر، وتستحق أن يدار عليها موضوع كتاب، ومما يستحق النظر من أجله أيضا أن يتعرف الناقد المؤرخ مواطن الصحة والخطأ ومواطن الخطأ في موازين الهيئات الفنية، التي تتصدى لوزن الكفايات والملكات على نطاقها الواسع بين أمم الحضارة؛ فإن العلم بمدى هذه الهيئات من الصحة والخطأ، ومن الإنصاف والمحاباة، ومن محاباة الضرورة ومحاباة الاختيار، غرض لا يهمله مؤرخ الأدب في ناحية من نواحيه. •••
وعلى هذا الاعتبار نكتب هذه الدراسة عن الشاعر الإسباني «خيمنيز» صاحب جائزة نوبل لسنة 1956؛ فهو من هذه الزاوية يعرض للدراسة في هذه الصفحات.
ولقد دار البحث طويلا في موضوع الجائزة العالمية منذ سنوات، فخطر لبعض الباحثين أن تشمل الدراسة تقديرا مجملا لجميع الأدباء الذين استحقوا من لجنة التحكيم جوائزها منذ السنة الأولى إلى السنة الأخيرة عند تأليف الكتاب، وخطر لبعضهم أن تبتدئ الكتابة عنهم من السنة الأخيرة، ويختار من المتقدمين بعد ذلك من ترشحه المناسبة أو يرشحه التفضيل والتمييز بالقياس إلى قراء اللغة العربية.
ثم تردد الكلام عن «خيمنيز» لمناسبات شتى، وتردد كذلك عن «بسترناك» الشاعر الروسي الذي نال الجائزة بعده لمناسبات أخرى، فرجحت كفة الشاعر الإسباني وزاد في ترجيحه أنه اختتم حياته الأدبية وخلصت سيرته من لجاجة المآرب السياسية، وصلحت هذه السيرة صلاحها لتفصيل القول عن العلاقة بين الأدب القومي والأدب الإنساني، كما تتحراها الجوائز العالمية بموازينها المصطلح عليها.
وفي الصفحات التالية فصول كافية لبيان هذه الدراسة من زواياها المتعددة: عن الجائزة وصاحبها ونشأتها ودستورها من وثائقها الرسمية، وعن لجنة التحكيم وسنتها المتبعة في اختيار أدبائها، وعن الأدب القومي وآثار الآداب العالمية فيه، وعن بيئة الأدب الإسباني التي نشأ فيها الشاعر، ثم الجزء الأخير من الكتاب عن الشاعر وتقدير أدبه وشواهد هذا الأدب التي يستعان بها على تقديره. •••
ونحسب أن هذا الكتاب سيتأدى إلى قصده ويستوفي غايته، إذا خرج منه القارئ على علم برسالة الشاعر الإسباني قومية وإنسانية، وعلى علم بالمناسبة التي رشحته لجائزة العالمية.
ألفريد نوبل
لما طلب لدفيج نوبل من أخيه الفريد - صاحب الجوائز - أن يكتب تاريخ حياته، كتب إليه هذا ما معناه أن له نصف حياة في الواقع، وأن هذا النصف كان حقيقا أن يتولاه عند ولادته طبيب من محبي الخير يكتم أنفاسه ساعة بدرت منه صيحته الأولى على أبواب الدنيا.
وأراد - بسليقته الأدبية - أن يسطر ترجمته في صورة بطاقة من بطاقات الشخصية فسطرها على الصورة التالية:
ألفريد نوبل:
نصف إنسان
Demi-man
ضئيل، كان ينبغي أن يتاح له طبيب طيب يقضى عليه يوم قدم صارخا إلى دنياه.
مزاياه:
ينظف أظافره، ولا يحب أن يثقل على أحد.
نقائصه وأخطاؤه:
بغير أسرة، كئيب، سيئ الهضم.
أهم رغباته:
ورغبته الوحيدة ألا يدفن بقيد الحياة.
خطاياه:
لا يعبد إله «المأمون»!
حوادث حياته الهامة:
لا شيء!
وعلى ما يظهر من المسحة الساخرة في هذه «البطاقة الحزينة» لا يخطر لأحد من المطلعين على حياة الرجل من أهله وصحبه أنه كان مدعيا فيها للتواضع، أو متكلفا فيها للظهور بمظهر الترفع عن الشهرة وبعد الصيت؛ فإنه قضى حياته يشعر بالفراغ ويتشاغل بالعمل الدائب عن هذا الفراغ، ولا يحس بنفسه خلوا من شواغل العمل إلا ليحس في ضميره بخيبة الأمل، ويحس في جسده بالوهن والحاجة إلى السكينة والعزلة!
وإنما يسمع الناس هذا عن رجل يدوي اسمه في العالم مع دوي المفرقعات، ويدوي اسمه في العالم مرة على الأقل كل سنة مع أصحاب الشهرة العالمية في السياسة والعلم والأدب، فيعجبون كيف تخلو حياته من شيء هام يذكره في «بطاقته الشخصية»؟! وكيف تكون أمنيته الوحيدة في الحياة أن يدفن بعد الموت ولا يدفن بقيد الحياة؟! وحبذا لو لم يكن دخلها، ولم يعرف ما يتمناه فيها، وما يحذره منها منذ اللحظة الأولى.
والعجب من هذا حق ولكنه يزول كلما رجعنا إلى أنفسنا، ولمسنا الفارق في أعمالنا بين ما يهمنا وما يهم الناس منها؛ فقد تكون الجوهرة الغالية حلية يتنافس عليها الذين يشترونها والذين يلبسونها والذين ينظرون إليها، ولكنها عند الذي يصقلها ويعدها للتنافس عليها إنما هي تعب الليل والنهار وعمل من أعمال الحاجة والاضطرار، وقد يهز اللغم الذي صنعه مخترع المفرقعات مدينة عامرة بالألوف من السكان، ولكنه عند صاحبه «تركيبة من المعادلات والأرقام» لا يهمه أن يسمع صوتها إلا ليزيد عليها رقما هنا، أو ينقص منها رقما هناك.
وقد كان ألفريد نوبل يعيش حقا في فراغ أليم بينه وبين وجدانه، وبينه وبين أقرب الناس إليه، وكان هذا الفراغ الأليم هو «أهم شيء» في حياته، إن أردنا أن نعرف الباعث له إلى خلق الاهتمام، وإلى خلق الاهتمام في إبان الحياة، وهو خير عنده من الاهتمام بالذكريات وبالآثار بعد زوال الحياة. •••
فلما استقر رأيه على «العمل المهم» الذي ينفق فيه ماله، وراقه أن يكون هذا العمل المهم تقديرا لخدام الإنسانية وإحياء للإيمان بالمثل العليا، لم يخطر له أن يكون هذا التقدير تخليدا لذكرى العظماء الغابرين، أو تجديدا لآثارهم الباقية وآياتهم الموروثة من العصور الخالية، بل أحب أن يجعله تقديرا حاضرا يشعر به خادم الإنسانية في حياته، وقد وجدت بين أوراقه ألوف من رسائل الشكر والطلب، وتبين من بعضها أنه كان يرفض كل طلب يسأل فيه أن يشترك في ذكريات التمجيد والتخليد، ويجيب كل طلب يعين صاحبه على عمل ينفعه وينفع ذويه في حياته، وجاء في إحدى رسائله:
إنني أوثر العناية بمعدات الأحياء على العناية بذكريات الموتى.
وجاء في رسالة أخرى:
إن غيرتي على تكريم الموتى الذين لا يبالون أنصابنا المرمرية أضعف كثيرا من غيرتي على إعانة الأحياء الذين يشعرون بمضض الفاقة.
وكان سخطه على الواقع - ولا ريب - هو سر هذا التطلع الدائم إلى المثل العليا، وإغراء القادرين عليها بخدمتها والإيمان بها وبإمكان العمل لها في دنياهم، قبل أن يسلمهم الموت إلى عالم الذكرى، أو عالم «الأنصاب المرمرية» كما سماه.
وإن هذا الفراغ الذي أضجره من عيشته وأسخطه على الواقع الملموس في دنياه لعجيب عند من ينظرون إلى شهرة الرجل، ويسمعون بأعماله ومخترعاته، ويعرفون شيئا عن ثرائه ووفرة أرباحه من مصانعه التي انتشرت بين عواصم الغرب وهو في عنفوان شبابه، ولكنه فراغ لا يعجب له من يعلم أنه قضى عمره منذ طفولته دون العاشرة ولم يمتلئ فؤاده قط من شعور الوطن، ولا شعور السكن، ولا شعور الحب والثقة بإنسان من عشرائه وشركائه، ولا بمبدأ من المبادئ التي كانت تروج دعواها بين الناس في زمانه، وهو أعلم من سواه بحقائق هذه الدعوى وراء الستار.
فقد فارق وطنه في طفولته ليلحق بأبيه في عاصمة روسيا التي اختارها مركزا لتجربة مشروعاته ومخترعاته، ثم قضى سائر عمره إلى يوم وفاته متنقلا بين روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وعواصم الدول، أو ضواحي النزهة والاسشفاء، وأتقن في رحلاته هذه ثلاث لغات غير لغته الأصلية وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، واستطاع أن يتكلم بغير هذه اللغات الثلاث في محادثاته العاجلة أثناء العمل أو التردد على البلدان المختلفة، ولكنه كان في «حياته اللغوية» مثالا للغربة والانقطاع عن وشائج الفكر في أعماق النفس البشرية، وقد ظهر ذلك من إخفاقه في محاولاته الأدبية؛ لأنه لم يجمع بين قريحته وبين اللغة التي يبث فيها سرائر وجدانه سجية مطبوعة غير منقولة من عبارة الطبع إلى عبارة الترجمة والحكاية، فكان ينظم الشعر بالإنجليزية فيجيد غاية الإجادة التي يملكها الناظم الغريب عن اللسان والبيئة، ولكنها إجادة تقف به دون مرتبة الوحي المبتكر في لسانه الأصيل عفو البديهة، ثم يعود إلى لغة الأم - كما يقال أحيانا عن لغة الوطن - فإذا هو غريب عنها يحاول أن يودعها سرائر وجدانه، فكأنه ينقلها من لسان إلى لسان ومن بديهة إلى بديهة، وكأنه في هذه المحاولة يوسط أحدا بينه وبين نفسه قبل أن يوسط الترجمان بينه وبين القراء. •••
وشعر ألفريد نوبل - السري العالمي - بالحاجة إلى طمأنينة السكن، كما شعر بالحاجة إلى طمأنينة الوطن، وربما كان فقدانه الوطن الصغير الذي يأوي إليه أقسى على نفسه من فقدان الوطن الكبير؛ لأن العلاقات الوطنية لا تنقطع على بعد الديار، وليس بالعسير على مثله أن ينتمي إلى موطنه الفخور به حيث كان، ولا بالمتعذر عليه أن يؤدي لذلك الوطن حقه كلما سنحت له فرصة من فرص الحياة العامة أو مناسبة من مناسبات العلائق الدولية، ولكنه قد يملك ما شاء من الدور والقصور في رحاب الأرض، ولا يجد بينها «البيت» الذي يأوي إليه الأب والابن والقرين والقريب، ولا تفلح في بنائه الأموال والأمتعة إن لم تتوطد له أركانه بين حنايا الصدور.
وعاش السري العالمي بحاجة إلى هذا البيت في شبيبته الأولى، وربما استغنى عنه في ريعان شبابه، أو شغل عنه بشواغل العمل وشواغل اللهو التي تتسع لها أوقات الشباب، ولكن صاحب الأعمال الجسام الذي يلتقي كل يوم بأنداده من أرباب الأسر وملوك المال لا يستغني عن «المركز الاجتماعي» في مسكنه الجدير بمكانته العالمية، ولا بد له - مع مكتب العمل - من ملتقى تتصل فيه علاقاته بالناس في غير دواعي البيع والشراء وصفقات الصناعة والتجارة، وأحوج ما يكون الرجل إلى هذا «البيت» إذا أحوجته إليه متاعب الجسد المتوعك ومتاعب الفكر المشغول بمقلقات الدنيا على اتساعها، وهل من قلق في هذه الدنيا الواسعة أشد من قلق الصناعة التي عمل فيها ولم ينقطع عنها؟! هل من صناعة أقرب إلى القلق من صناعة «المتفجرات» في عصر الحروب وعصر الهدم والبناء؟
كان الرجل يتمنى أن يسلم هذا البيت إلى الفتاة التي يهواها ولكنه فقدها في إبان صباها، ثم أوفى على السن التي ينظر فيها الرجل إلى تقرير مصيره «البيتي» قبل فوات أوان التفكير في هذا المصير، وأوشك أن يجد «ربة البيت» التي توافقه في سنه وتوافقه في مزاجه وتوافقه في عمله، فعملت عنده النبيلة «برتا كنسكي» النمسوية كاتبة لرسائله ومديرة لبيته، وكانت في الثالثة والثلاثين، وهو في الثالثة والأربعين، فلما أحس ذات يوم أنه يحبها ويرتضيها قرينة لحياته لم يشأ أن يستغل حاجتها إليها، وأن يفاتحها بهواه قبل أن يتبين جوابها المنتظر لما سيعرضه عليها في غير حرج ولا اضطرار إلى المواربة، فسألها: أهي طليقة القلب؟ ولم يكن جوابها إلى اليأس ولا إلى الأمل؛ لأنه علم منها أنها أحبت فتى من نبلاء بلادها وأحبها الفتى، فنهاه أهله عن الاقتران بها لفقرها وتفاوت السن بينه وبينها، وأنها هجرت وطنها لتنسى، ولعلها وشيكة أن تنسى، ولكنه ذهب في رحلة من رحلاته، فكتبت إليه في غيبته تستودعه وتعتذر إليه من سفرها قبل عودته، ثم علم أنها استجابت لدعوة عاجلة من فتاها، وأنه تمرد على مشيئة أسرته، فتزوج بها وأرجأ إعلان الزواج إلى أن يقنع الأسرة بقبوله، وقضي على السري العالمي مرة أخرى أن يأوي إلى العالم كله، ولا يأوي إلى بيت!
وقد ربح ألفريد نوبل منذ شبابه ثروة عريضة من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروة أعرض منها وأوسع انتشارا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تعطه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلك الثقة التي كان يفتقر إليها ويود أن يطمئن إلى ركن من أركانها؛ لأنه كسب الثروة من صناعة «المتفجرات»، وهي يومئذ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسم بين أيدي العاملين فيها فضائح الرياء في دعوات المجد الوطني ودعوات الأخوة الإنسانية على السواء، فربما ارتفعت الصيحة إلى شراء السلاح باسم الحماية من خطر الأعداء، وهو يعلم من أسرارها أنها صفقة من صفقات السمسرة والرشوة، وربما قابلتها صيحة أخرى من صيحات الدعوة إلى السلام، وهي في باطنها وسيلة إلى إحباط تلك الخطة للنكاية أو للمساومة على السكوت، وبين هذا وذاك مكائد الجاسوسية والمنافسة التي لا بد منها في كل صناعة تقترن باستعداد الدول للدفاع والهجوم، وتقترن في الوقت نفسه بأسرار المخترعات ومنازعات البيوت التجارية على توريد الأسلحة والذخائر، وإبرام العقود واحتكار الأسواق الدولية.
فلا جرم يسوء ظن السري العالمي المطلع على أسرار هذه الدسائس والمناورات بجميع النظم السياسية التي قامت عليها حكومات عصره، وقد اختبر منها نظام القيصرية في روسيا، ونظام الجمهورية في فرنسا، ونظام الملكية الدستورية في إنجلترا، ونظام الملكية المتوسطة بين الإطلاق والتقييد في ألمانيا، فلم يحمد خبرته لنظام من هذه الأنظمة، ووجدت بين أوراقه فاتحة قصة شرع في تأليفها، وسمى بطلها باسم السيد أڤنير
Avenir ، ومعناها بالفرنسية «المستقبل»، فألقى على لسان هذا البطل بيانا مفصلا عن عيوب كل نظام منها بين عجز ولي الأمر عن العمل النافذ أو شطط القوة التي توكل إليه حين ترفع عنه قيود الرقابة والمراجعة، وإنما يتم التوسط بين العجز والشطط - في رأي السيد أڤنير - بتوزيع السلطة بين ولاة الأقاليم من جهة، وحصر السلطة العامة في الدولة كلها بين يدي واحد منهم يختارونه وتؤيده المجالس النيابية. وكانت ثقته بمؤتمرات السلم أقل من ثقته بالنظم السياسية في زمانه، فلم يشترك قط في دعوة من دعواتها، ولم ينتظر من ورائها نفعا قريبا لقضية السلام التي كان يعمل لها في سره وجهره، والتي أوصى لها بجائزة من جوائزه بعد وفاته، بل قال يوما للنبيلة برتاڤون ستنر
Suttner : «إن مصانعي ربما أبطلت الحروب قبل مؤتمراتكم؛ ففي اليوم الذي يستطاع فيه إبادة الجيشين المتقاتلين في لمحة عين، قد يرجى أن تتفق الأمم المتحضرة على اجتناب الحروب وتسريح الجيوش.»
ومن سخرية الحظ أن ثروة نوبل جلبت له شيئا مذكورا من ألقاب الدول التي جرى العرف على تسميتها بألقاب الثقة والتقدير، أو ألقاب الجدارة والاستحقاق، فزادته شكا ولم تزده ثقة، ونقل عنه أنه كان يقول إنه مدين لألقابه من حكومات الشمال لبراعة طباخه وللمعدات الأرستقراطية التي كانت تقدر براعة ذلك الطباخ، وإنه مدين بألقابه الفرنسية لصداقة أحد الوزراء، وبألقابه من أمريكا الجنوبية لزيارة هذا الرئيس، أو لولع ذلك الرئيس بتمثيل أدوار التشريف والإنعام.
وبقيت طمأنينة واحدة يعتصم بها في هذه الحيرة لو وجد سبيله إليها، وتلك هي طمأنينة الإيمان بعقيدة من العقائد الدينية.
فهذه أيضا حيل بينه وبينها في عصر المذاهب المادية والقلاقل الاجتماعية، وشكوك العلم والفلسفة واضطراب الأقوال عن إرادة الله وشعائر العبادة بين أحبار الدين الواحد - بل المذهب الديني الواحد - في القطرين المتجاورين، فحار كيف يطيع أوامر الله ويؤدي شعائر العبادة على سنة حبر من هؤلاء الأحبار، وقنع آخر الأمر بأن يهتدي إلى عقيدته الصالحة بوحي من ضميره، وأن يعلم كيف لا يخالف إرادة الله متى آمن بوجود الله، وإنه ليؤمن بوجوده ويؤمن يقينا أنه لا يخالفه في شيئين واجبين على كل ذي دين وكل ذي مروءة، وهما فعل الخير ونشدان الكمال الإنساني على هدى المثل العليا، وليس بها من خفاء. •••
إذا كانت لتراجم المشاهير صفحتان: ظاهرة وباطنة؛ فهذه هي الصفحة الباطنة التي تعنينا من سيرة ألفريد نوبل؛ لأنها هي السيرة التي نعرف منها صاحب الجوائز، ونعرف منها بواعث عمله الباقي الذي تناط به ذكراه، رجل يودع لطيف المزاج بحث عن الطمأنينة والثقة، فلم يجدهما في حياته، فتعزى بالعمل لتحقيق الطمأنينة والثقة بعد مماته، وحرص على تقدير العاملين لهما وشعورهم بهذا التقدير وهم بقيد الحياة، وما العمل لتحقيق الطمأنينة والثقة إلا العمل - بعبارة أخرى - لتحقيق السلام والإيمان بالمثل الأعلى، مناط الثقة التي لا يدركها المشغولون بالواقع المحدود، ويزيده كلفا بهذه الغاية أنه اخترع شيئا يصلح للتعمير في نطاقه الواسع، فلم يلبث أن رآه بين أيدي الناس سلاحا من أسلحة الحرب والدمار، فهو يرصد المال الذي ربحه من هذه الصناعة للتكفير عن سوء أثرها في أيدي ساسة الأمم وزبانية الحروب، وما كان له من باب للتكفير غير هذا الباب إلا إلغاء ما صنع ومحو ما اخترع، وليس ذلك بالنافع ولا بالمستطاع. •••
أما سيرته الظاهرة فقد أصاب حين قال إنها لا تشتمل على حدث ذي بال؛ فإن «المتفجرات» لها دويها الذي يزعج الأسماع، ولكنها عند من يخترعها لا تعدو أن تكون سلسلة من الأرقام والمعادلات وتجارب المحاولة والتنفيذ.
كان عمانويل نوبل - أبو ألفريد - يجهل أصله، ويعتقد أن اسم «نوبل» غريب عن اللغة السويدية، وربما كان اسم قس إنجليزي انتقل إلى بلاد السويد في عصر من عصور الاضطهاد الديني مع من هاجر من إنجلترا إلى الشمال في تلك العصور، ولم يكن لهذا الاعتقاد من أساس غير الظن؛ لأن هذا الاسم محرف من اسم بلدة نوبولوف السويدية
Nobbelov ، وقد تسمى به في القرن السابع عشر أول رجل من أسلافه تعلم في مدرسة عالية، واتخذ له اسما منسوبا على حسب النظام المتبع في تقييد أسماء الطلاب بالجامعات، ومما بقي من أخبار هذا السلف - بترس أولاڤي
Olavi - نعلم أن ميراث العبقرية فيه قد تخلف لأبنائه وحفدته إلى أعقابه المشهورين في التاريخ الأخير، وأشهرهم عمانويل وابنه ألفريد؛ فإن أولافي كان على نجاحه في دروس الجامعة موسيقيا مطبوعا على حب الفن، ونشأ سليله عمانويل فنانا مخترعا على قلة حظه في تعليم المدرسة فضلا عن الجامعة، وقد اضطرته أحوال الأسرة إلى العمل بإحدى السفن التي كانت مقلعة إلى البحر المتوسط وهو يقارب الرابعة عشرة، ثم تتلمذ في صناعة البناء على بعض البنائين، واستطاع أن يحضر دروس العمارة فترة قصيرة في العاصمة، ثم أصابه نحس الطالع فاحترق بيته الذي اقتناه، وصفرت يده من المال والصفقة، فاضطر إلى مغادرة ستوكلهم سنة 1837 بعد أربع سنوات قضاها بين البطالة والمحاولة المخفقة، ولجأ إلى العاصمة الروسية أملا في تأسيس عمل جديد تتسع له تلك البلاد التي لا تزال في أوائل حركتها الصناعية بحاجة إلى الخبراء من المهندسين والصناع، فأسس عمله وأفلح فيه وكثرت عليه طلبات الدولة بعد نشوب حرب القرم، فأسرع إلى توسيع مصنعه حتى تعذر عليه أن يستبقيه على اتساعه بعد انتهاء الحرب، ثم تكاثرت عليه الديون التي اقتضاها بقاء المصنع بنفقاته الأولى، فأعلن إفلاسه وعاد إلى وطنه لتجربة العمل فيه بمعونة بنيه.
وتعتبر هذه الهجرة الأولى بلاء مشتركا للأسرة، بما في البلاء من معنى المصاب ومعنى الاختبار والامتحان، بلاء عرفت منه الأسرة - كبارها وصغارها، ومقيمها وراحلها - خير ما عندها من استعداد للعمل المبتكر، والصبر على الشدة، والقدرة على مغالبة اليأس، وتجديد الأمل بين النجاح والإخفاق، وبين إقبال الحظ وإدباره، فالأب يرحل منفردا ليتصدى وحده لأعباء الغربة وعوارض التوفيق والخيبة، وربة الأسرة تبقى في أرض الوطن مع أطفالها الصغار - وهم ثلاثة أبناء - مضطلعة وحدها بتربية هؤلاء الأطفال وتدبير معيشتهم في غيبة أبيهم، وفي انتظار الفرج من تلك المغامرة في البلد المجهول، وقد تمخضت السنون الخمس التي انقضت بين هجرة أبيهم (سنة 1837) ولحاقه بهم (سنة 1842)، عن معدن الجد والهمة في هؤلاء الصغار الذين قضوا طفولتهم الأولى في حضانة أم تقوم لهم مقام الأب والأم، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، على أمل تارة، وعلى خوف من الحرمان تارات، فنشأوا - ثلاثتهم - أعلاما نابهين بين الأقطاب العالميين من رجال الصناعة والمال: روبرت الكبير مؤسس صناعة النفط في باكوم، ولدفيج الأوسط مؤسس مصانع الذخيرة والسلاح في بطرسبرج، وألفريد صاحب الجوائز الذي كان عمره أربع سنوات يوم رحل أبوه من السويد. أما ربة هذه الأسرة فهي تلك الأم - أو تلك الإنسانة الوحيدة - التي بقي لها ألفريد طوال حياته على عهد البر والعطف إلى أن فارقت الحياة وهو يقارب الستين. وقد جاء في سيرته أنه كان يترك أعماله وشواغله حيث كان ليخف إلى مقرها في عيد ميلادها، ويتلقى منها بركة الأم الراضية لولدها المرضي عنه، ويسألها عن هدايا رأس السنة التي تحب أن ترسلها باسمها إلى ربات البيوت من صديقات صباها في أيام الضنك والكفاف.
ووصل ألفريد إلى بطرسبرج وهو دون العاشرة لم يختلف قبلها إلى مدرسة من مدارس التعليم المنتظم غير بضعة شهور، فعوض هذا النقص بالدروس التي كان يتلقاها على أستاذه الخاص في داره، ثم قد انقطعت هذه الدروس أيضا وهو في السادسة عشرة، فتعلم باجتهاده وفطنته كل ما وعاه من تلك المعارف التي أعانته على الاختراع والإدارة وتحصيل ما حصل من ثقافة جعلته ندا مشهودا له بالفضل بين أصحابه وعشرائه من نخبة العظماء والرؤساء، ومنها ثقافة الرحلة إلى فرنسا وأمريكا وألمانيا للمشاهدة والاطلاع، وغشيان معاهد الصناعة والعلم، وإن لم تكن مما يزاوله في عمله المباشر أو يتصل بمصالحه ومصالح أبيه، وكأنما شاء القدر من ضروب التربية لهذه الأسرة أن يصاب آباؤها وأبناؤها كل منهم بحصته من ضربات الحوادث وخسائر الأنفس والأموال، فدمر الانفجار مصنع ألفريد باستكهولم (سنة 1864)، وقضي على أخيه الصغير إميل مع من قضي عليهم من الصناع والخبراء، وحطم البقية الباقية من عزم أبيه وأوشك أن يقضي على صوابه فلم يفق من جرائر هذه الفاجعة حتى قضى نحبه (سنة 1872)، ونهض ألفريد بالعبء كله في تجديد المصنع والإشراف على معاملاته ومعاملات أسرته بين الأقطار التي زارها، وتعرف إلى أقطاب الأعمال فيها أثناء رحلاته أيام الطلب والاستطلاع. ويتكشف معدن الرجل من قدرته على توسيع أعماله والنهوض من كبواته مع سوء ظنه بالناس عامة وبأقرب المقربين إليه بعد تجربتهم في أيام سعوده ونحوسه، ومفاجآت رواجه وكساده، وفي إحدى رسائله يقول لمن ذكر له أصدقاءه المرجوين:
صدقني حين أقول لك إننا لا نجد الأصدقاء في غير الكلاب التي نطعمها، أو الديدان التي تطعم نفسها من أجسادنا.
وأدل من ذلك على معدن هذه النفس القوية أنها احتفظت بقوتها بين متاعب القلب والجسد: متاعب القلب حرفا ومعنى؛ لأنه كان مصابا بالذبحة الصدرية، ومتاعب الجسد من فرط الجهد ومن سوء الغذاء، أو من قلة هذا الغذاء الصالح الذي كانت تسمح به معدته الواهية، بين أكداس الأموال التي تفي بشهوات ألوف المعدات من طعام وشراب. وإنما كان عزاؤه عن حرمانه أن يؤمن بالعلم ويؤمن بأنه كفيل غدا «بالمعيشة الحسنة؛ أعني معيشة الجماعات، ولا أعني ترف الآحاد من الموسرين.»
وحقق مبادئه - عملا - قبل أن يختتم حياته في أواخر القرن التاسع عشر (سنة 1896)، فلم يحفل بنصيب الآحاد من ميراثه كما حفل بنصيب الجماعات، ومنه نصيب خدامها في ميادين الصناعة والصحة والأخلاق.
الوصية
يقول ألفريد نوبل في وصيته بعد أسطر الافتتاح المألوفة في وثائق التوصية:
يكون التصرف في تركتي المحصلة على الوجه التالي:
يودع رأس المال بإشراف منفذي الوصية في ودائع مضمونة، ويكون منه مبلغ تنفق أرباحه سنويا على صورة جوائز توزع على الذين قاموا في السنة السابقة بأنفع الخدمات للإنسانية، وتقسم هذه الأرباح على خمس حصص متساوية توزع كما يلي: حصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو اختراع في مباحث العلم الطبيعي - الفزيقية - وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف أو تحسين في مباحث الكيمياء، وحصة للشخص الذي قام بأهم كشف في علم التشريح أو الطب، وحصة للشخص الذي أنتج في الآداب نتاجا هاما ذا وجهة مثالية، وحصة للشخص الذي قام بأكبر أو أفضل عمل لتحقيق الإخاء بين الأمم، ولإلغاء أو نقص عدد الجيوش القائمة، ولدعوة المؤتمرات العاملة للسلم أو نجاحها.
ويمنح مجمع العلوم السويدي جائزة الطبيعة والكيمياء، ويمنح معهد كارولين باستكهولم جائزة التشريح والطب، ويمنح مجمع استكهولم جائزة الآداب، وتقرر منح جائزة السلام نخبة مؤلفة من خمسة أعضاء ينتخبها مجلس النواب النرويجي. وإن رغبتي الصريحة في منح الجوائز ألا ينظر في ذلك إلى وطن المرشح؛ لينال الجائزة من هو أحق بها، سواء كان من الأمم السكندنافية أم لم يكن منها.
باريس في 27 من نوفمبر سنة 1895
وقد توفي ألفريد نوبل في سان ريمو بإيطاليا في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1896، وأعلنت وصيته بعد أيام، ولكنها لم توضع موضع التنفيذ إلا بعد انقضاء أربع سنوات، وكان هذا التأخير من الأمور المنتظرة منذ فتح الوصية والشروع في تنفيذها؛ لأن البدء في تنفيذ هذه الوصية بصيغتها المجملة التي نقلناها فيما تقدم لم يكن مستطاعا قبل الفراغ من إجراءات قانونية وعملية شتى يتبعها وكلاء التنفيذ بغير إرشاد من صاحب الوصية، ولا سابقة من وصية قبلها يهتدون بها ويعملون على مثالها.
فكان ابتداء العمل بالوصية موقوفا - أولا - على حصر التركة الموزعة بين أقطار متفرقة تختلف فيها قوانين التركات ومعاملات التبادل والاتفاق على قيم العملة والأعيان الثابتة والمنقولة بينها وبين الأقطار الأخرى.
وكان من الضروري بعد ذلك أن يرضى الورثة عن توزيع الثروة على الوجه الذي نصت عليه الوصية، وقد كان من هؤلاء الورثة من يطعن في الوصية من ناحية «الشكل القانوني» الذي أفرغت فيه، ومن ناحية التطبيق الذي يحتاج إلى تفصيلات كثيرة تتسع للخلاف والشك في مدلول الكلمات والموضوعات.
وكان التنفيذ يتوقف مع هذا كله على موافقة الهيئات واللجان التي نيط بها الحكم في الترشيحات، والنظر في تلك الترشيحات قبل اختيار صاحب الجائزة، ومن أعضاء تلك الهيئات واللجان من كان يرفض النظر في شأن من شئون الوصية قبل إقرارها واعتمادها في المراجع الرسمية.
وتعرضت الوصية لمنازعات السياسة والدعايات الاجتماعية بين المؤيدين لها والمعترضين عليها، ومن أصحاب هذه الدعايات من كان يحسب الوصية اختلاسا من حقوق الأمة السويدية، ومن يحسبها على خلاف ذلك كسبا أدبيا لهذه الأمة، ووسيلة كريمة لتعزيز مكانتها في ميادين الثقافة العالمية.
وأشفق كبار الساسة من عواقب التدخل في مشاكل الحكومات الأجنبية وعداوات الدول التي لا سبيل إلى اجتناب التحزب فيها والتحيز إلى أطرافها، كلما حان أوان النظر فيمن يستحق جائزة السلام ومن لا يستحقها من قادة العالم ودعاة السلم أو الحرب بين الوزراء والمفكرين.
ورفع الأمر إلى الملك، فاستدعى إليه عمانويل نوبل - ابن شقيق ألفريد - ونبهه إلى المحرجات التي تعترض تنفيذ الوصية على التعميم واختيار المرشح لجائزة السلم على التخصيص، واستحسن أن يوضع لتنفيذ الوصية نظام يلائم ضرورات السياسة، ويحقق أمنية صاحبها جهد المستطاع.
قال الملك: «إن عمك كان منقادا للمتهوسين من دعاة السلم ولا سيما النساء!»
قال عمانويل: «ربما كان صاحب الجلالة يوافق الجنرال مولتكي الذي كان يقول: إن السلام الأبدي حلم، وإنه لحلم - على هذا - غير جميل!»
قال الملك: «أقال ذلك؟! حلم! وحلم غير جميل!» وكررها مرتين.
وأضيفت صعوبة أخرى إلى صعوبات السياسة بعد اشتداد حركة الاستقلال والانفصال في النرويج، فإن ساستها لم يستريحوا إلى تكليف مجلسهم بمهمة تابعة لحكومة السويد يرجع التصرف في مصادرها المالية إلى صاحب حقوق الميراث وأصحاب الوكالة عليه. •••
وبعد مطاولة مضنية استنفدت حيل الأمناء الموكلين بإبرام الوصية، تمت تصفية التركة وسددت الرسوم المقررة عليها بحساب القوانين الوطنية والقوانين الأجنبية، وبقي منها رصيد يقابل ثلاثين مليون كرونر كانت موزعة بين تسعة أقطار: هي السويد، والنرويج، وألمانيا، والنمسا، وفرنسا، واسكوتلاندة، وإنجلترا، وإيطاليا، وروسيا. وقيمتها يومئذ تساوي نحو مليوني جنيه، وتساوي أكثر من عشرة أضعاف هذا الرقم إذا لوحظ فرق القيمة الشرائية بين زمن التصفية والزمن الحاضر.
وصدرت المراسيم بتنظيم هيئات التحكيم، وتعريف هذه الهيئات بالأسماء «الرسمية» المصطلح عليها.
فعهد الحكم في جوائز الطبيعة والكيمياء إلى مجمع العلوم الملكي باستكهولم، وعهد الحكم في جوائز الطب والتشريح إلى كلية الطب والجراحة الخاصة، وعهد الحكم في جوائز الأدب إلى المجمع السويدي الذي نص في مرسوم إنشائه على أنه «مؤسس للعمل على تنقية اللغة السويدية وترقيتها وتحقيق سلامة الذوق وتهذيبه».
وعهد الفصل في جائزة السلم إلى لجنة من خمسة أعضاء يختارها مجلس الأمة النرويجي لمدة ست سنوات.
وتقرر أن تخصص في كل هيئة من الهيئات الأخرى لجنة تتألف من ثلاثة إلى خمسة أعضاء، وتألفت لمساعدة اللجان في أعمال التحضير والتحرير مؤسسة عامة سميت بمؤسسة نوبل، وألحقت بها مكتبة خاصة لجمع الكتب والأسانيد الضرورية لمراجعاتها وبيان أسباب ترشيحاتها وأحكامها.
وتفاهمت اللجان من مبدأ الأمر على معاني بعض العبارات المطلقة التي وردت في الوصية، فاتفق الأعضاء على أن كلمة «الآداب» تشمل فنون الكتابة التاريخية والفلسفية، ولا تقصر على فنون المنظوم والمنثور التي جرى العرف في الغرب على تسميتها بالكلم الجميل.
واتفق الأعضاء على أن العناية الأولى في الترشيح للجائزة تتجه إلى العمل الذي ظهر في السنة السابقة لتاريخ منحها، ثم تضاف إليه العناية بسائر الأعمال السابقة فيما يوافق الاعتبارات العامة التي نصت عليها الوصية.
وقد أضيفت إلى المؤسسة - بعد إنشائها معامل ودواوين علمية أو إدارية لمعاونتها ، واستفادت اللجان من تجارب البحوث المتصلة منذ توزيع الجوائز لأول مرة سنة 1901 - فوائد عملية كان لها أثرها المتتابع في تنقيح دستورها وتعديل خطتها وتنظيم برنامجها، وبخاصة في مسائل الابتداء بالترشيح وانتخاب الأعضاء المحكمين.
وتقرر أن يحتفل بتوزيع الجوائز في اليوم العاشر من شهر ديسمبر تكريما لذكرى صاحب الجوائز الذي توفي في ذلك اليوم، ويجرى الاحتفال بتوزيع الجوائز جميعا بعاصمة السويد، ما عدا جائزة السلام؛ فإن الاحتفال بتسليمها يجرى في عاصمة النرويج.
وتقام الحفلة العامة بمعهد الموسيقى الأكبر في استكهولم، ويشهدها الملك وأعضاء الأسرة المالكة والوزراء بملابس الاحتفالات، ويدعى إليها أفراد أسرة نوبل، وسفراء الدول، وأعضاء الهيئات السياسية، وأعضاء مجلس الأمة، وكبار رؤساء الدواوين، وسراة البلاد، والمندوبون المختارون عن الجامعات والمجامع العلمية والفنية، وكل من منح الجوائز في السنوات السابقة، وربات الأسر من زوجات المدعوين وسيدات المجتمع ذوات الأثر المشهور في أعمال البر والخدمة الإنسانية.
وتعزف الفرقة الملكية نشيد التحية عند تقديم أصحاب الجوائز، مع إلقاء كلمة التعريف والتقدير، ثم تسلم الجائزة والشهادة والنوط الذهبي الذي رسمت عليه صورة ألفريد نوبل.
وتختم الحفلة بترتيل نشيد السويد، ثم يشهد المدعوون في المساء مأدبة تقيمها المؤسسة في أكبر فنادق العاصمة، تفتتح بنخب الملك، وتتلوه دعوة من الملك أو من ينوب عنه إلى تحية ذكرى ألفريد نوبل، ثم يدعى أصحاب الجوائز لإلقاء كلماتهم، وهي غير الكلمات المطولة التي يبسطون فيها آراءهم العلمية أو الأدبية، فإنها تلقى أحيانا في غير هذه المأدبة، ثم تنشر مع السجل السنوي الذي تصدره المؤسسة.
وتسلم الجائزة عادة إلى صاحبها، ومعها نوط نوبل الذهبي منقوشا عليه اسمه وتاريخ منحه الجائزة، فإن حيل بينه وبين حضور الحفلة سلمت الجائزة والنوط إلى سفير دولته أو المندوب الممثل لها عند الحكومة السويدية.
أما جائزة السلام فإن الاحتفال بها يقام بمجلس الأمة في (أوسلو) عاصمة النرويج، يفتتحه رئيس المجلس بخطاب رسمي، ويعقبه خطاب رئيس اللجنة المختارة من أعضاء المجلس، ثم جواب صاحب الجائزة في موضوع بعيد عن الخوض في المسائل الدولية، وسيأتي في الفصول التالية مزيد من الشروح والتعليقات على المبادئ والشروط التي تتحراها المؤسسة في تنفيذ دستورها أو تسوقها إليها لوازم العمل في ظروفها المختلفة.
أسباب المنح والمنع
يفهم من دستور الجوائز، ومن الموضوعات التي اشتهر بها مستحقوها في نظر اللجنة السويدية أن هذه اللجنة تتقيد بالاتجاه الذي يتحراه الأدباء، ولا تتقيد بالموضوعات التي يشملها عنوان الأدب على أوسع نطاق.
فلا بد من تحقيق الاتجاه إلى السلام والرخاء، أو السعي إلى المثل الأعلى والمقاصد المثالية، وهذا هو الشرط الذي لا محيد عنه ولا اختيار للجنة في قبوله أو اجتنابه.
أما الموضوعات فلا قيد لها، ولا ترجيح لموضوع منها على سواه ما دام من موضوعات الفنون الأدبية، وما دام له نصيبه من جمال الفن وجودة الأداء.
وقد أجيز الشعر الغنائي كما أجيز شعر الوصف الطبيعي، وأجيزت القصة كما أجيز التاريخ، وأجيز النقد كما أجيز الإنشاء والابتكار، وأجيزت المباحث الاجتماعية كما أجيزت الفلسفة، وكاد اختيار اللجنة يطرد على مقياس واحد قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنه تباين واختلف بعد ذلك فلم يطرد على وتيرة واحدة في جميع الأحوال؛ لأسباب تظهر من مراجعة الترشيحات بين ظروف الحرب والسلام.
بدأت اللجنة جوائزها الأدبية منذ السنة الأولى في القرن العشرين، ونشبت الحرب العالمية الأولى بعد أربع عشرة سنة، ونشبت الحرب العالمية الثانية بعد خمس وعشرين سنة، فمضى عليها جيل كامل في هذه الأثناء، تكشفت فيه طريق الحرب والسلام، وتبين فيها منهج اللجنة في التوفيق بين رعاية الشروط الفنية الأدبية ورعاية شروط الاتجاه إلى الوجهة المقصودة بإقامة المؤسسة كلها، وهي وجهة السلام والرخاء. •••
كان العالم الأوروبي عند مطلع القرن العشرين يتجاوب بأسماء الأعلام النابهين من أصحاب الشهرة العالمية في طبقة تلستوي وهاردي وزولا وإبسن، ومن يلحق بهم في شأوهم من كبار الأدباء في لغات الحضارة، ولكن اللجنة السويدية تجاوزتهم - لأسباب سيأتي ذكرها - إلى الشاعر المفكر الفيلسوف (رينيه سولي برودوم) عضو الأكاديمية الفرنسية، وصاحب جائزة ڤيتيت
Vitet
للشعر في فرنسا، وهو يزيد قليلا على الأربعين من عمره، وقالت إنها منحته الجائزة «تقديرا لتفوقه في الأدب، ولا سيما الشعر الذي يتسم بالروح المثالية السامية، والإتقان الفني والتوفيق النادر بين الضمير والعبقرية».
وكان صاحب الجائزة في السنة التالية مؤرخا ألمانيا فخم الأسلوب راجح الفكرة نافذ البصيرة هو تيودور مومسن مؤلف الأسفار المستفيضة في تاريخ الرومان «لأنه أعظم أساتذة المؤرخين الأحياء في زماننا مع التنويه بعمله في تاريخ رومة»، وكانت لهذا المؤرخ الكبير مشاركة قيمة في نظم الشعر وترجمته من اللغات الأخرى إلى الألمانية.
واختصت اللجنة السويدية بجائزتها للسنة الثالثة شاعر الأمم الشمالية بجورنسون
Bjornson
النرويجي، الذي كان يومئذ يجاوز السبعين من عمره، وقالت إنها تمنحه جائزتها «تقديرا لعمله الشعري العظيم النبيل في جوانبه المتعددة، مع امتيازه بالوحي المبتكر وصفاء الروح»، وقد كان جواب الشاعر على خطاب استقباله حملة صارمة على الذين يستبيحون - باسم الفن للفن - مخالفة الشاعر لمبادئ الخير والصلاح.
وعادت اللجنة إلى ميدان الشعر الفرنسي، فاختارت في السنة التالية - سنة 1904 - شاعرا من إقليم (برفنس) ينظم قصائده بلهجة الإقليم، ويتفرغ للنظم بعد تخرجه في دراسة القانون. هذا الشاعر هو فردري مسترال
Mistral
الذي منحته الأكاديمية الفرنسية جائزتها لسنة 1861، وهو يومئذ في الحادية والثلاثين من عمره، وقالت إنها تجيزه «لسلاسته الرائعة، وإجادته الفنية التي صور بها مناظر وطنه وحياة الريف فيه تصويرا صادقا، أضاف إليه عنايته بدراسة لغة الإقليم»، وقد أشركت معه شاعرا إسبانيا من شعراء المسرح وكتابه هو الأديب النائب السياسي جوزي إشيجاري
Echegaray «لبراعته وإحاطته واقتداره - في استقلال وإبداع - على إحياء تراث الدرامة الإسبانية».
ومنحت جائزة السنة التالية - سنة 1905 - لهنريك سينكفيش
Sienkiewicz
الروائي البولوني الأشهر، الذي أودع رواياته تاريخ وطنه وسيرة أبطاله، واستحق التقدير من جامعات الأمم السلاڨية، كما استحق من الجمهورية الفرنسية وسام «فرقة الشرف» تنويها بفضله وجهاده، وكان توجيه الجائزة إليه في تلك السنة التي ناهز فيها الستين «تقديرا لعظمته في تأليف الملاحم التاريخية».
وكان كردوتشي
Carducci
شاعر إيطاليا في القرن التاسع عشر صاحب الجائزة لسنة 1906، وقالت اللجنة: «إنها تمنحه الجائزة بصفة خاصة إجلالا لمثابرته وروعة أسلوبه، وملكته الغنائية التي بدت في آياته المنظومة، فضلا عن سعة معارفه ومباحثه النقدية.»
وفي سنة 1907 تنبهت اللجنة إلى شاعر إنجليزي وصفته بأنه «عالمي الشهرة»، وهو رديارد كبلنج الذي قدرت فيه «قوة الملاحظة، والتخيل المطبوع، والوعي المتيقظ، والتصوير الصادق».
وكان رودلف يوكن
Eucken
الألماني أول فيلسوف استحق الجائزة الأدبية في تقدير اللجنة السويدية؛ لأنه عرف «بالجد في البحث عن الحقيقة، وبالنظر الثاقب، والبصيرة الواسعة، والتصوير الذي يجمع بين الحرارة والقوة، واستخدم ذلك كله في جلاء العالم على الصورة المثالية».
وأول من منح الجائزة من أمة السويد شاعرتها وناظمة ملاحمها سلمى لاجرلوف
Selma Lagerlof ، التي أصبحت بعد ذلك أول عضو في الأكاديمية السويدية، وهي الهيئة المشرفة على توزيع الجوائز واختيار مستحقيها، وقد قال رئيس الأكاديمية وهو يوجه الجائزة إليها: «إن الساعة قد حانت لبروز السويد إلى الطليعة بين الأمم الكبرى المتنافسة في حلبة الأدب.» وإنها جديرة بالتكريم لأنها لمست أشرف شمائل (أمنا) السويد كما لمست أكرم الشمائل الإنسانية.
ونال الجائزة لسنة 1910 بول فون هيس
Heyse
الأديب الروائي الألماني، الذي ألف نحو مائة قصة بين تاريخية واجتماعية، وعني مع كتابة القصص بترجمة أشعار الأمم اللاتينية من الإيطالية والإسبانية، ونظم في لغة قوية نخبة من لطائف الشعر الغنائي تسلكه في أكبر شعراء اللغات الجرمانية في هذا الشعر، وقد نال الجائزة وترقى إلى مراتب النبلاء في سنة واحدة، وأطنبت لجنة نوبل في الثناء عليه فقالت إنها تقدر «فنه الممتاز بالجودة والروح المثالية، الذي توفر عليه في جهاد طويل قيم، وهو يدأب على نظم الشعر الغنائي وكتابة الدراما والرواية والنوادر القصار ذوات الشهرة العالمية».
وكانت الجائزة لسنة 1911 من نصيب إحدى الأمم الأوروبية الصغيرة، وهي الأمة البلجيكية، فنالها موريس مترلنك الذي ارتقى إلى رتبة «كونت» لمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وهو شاعر يكتب للمسرح «الفكري»، ويبحث في الأسرار الدينية، ويشتغل بدراسة النحل من الوجهة الاجتماعية، واستحق الجائزة من اللجنة «لخصب ملكاته الأدبية، وبخاصة مبتكراته المسرحية التي اتسمت بالتخيل الفني والروح المثالية الشاعرة التي تنم أحيانا في قالب الأسطورة المسرحية عن بصيرة عميقة تمس وجدان القارئ وأشواقه النفسية».
وأجيز الكاتب الألماني جرهارت هوبتمان في سنة 1912 لجهوده في فن المسرحية العصرية على التخصيص، مع التنويه بصدقه في تصوير الطبيعة، وبراعته في الوصف، وفي رسم المناظر والشخوص.
وأجيز «تاجور» في السنة التالية، وهو الشاعر الشرقي الوحيد الذي اختصته اللجنة بجائزتها «لنظمه العميق الرفيع الذي وفق في صيغته الإنجليزية لإحلاله بالمقام الكريم بين الآداب الغربية».
ونشبت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، فتوقفت فيها اللجنة عن إعلان جائزتها، ثم استأنفت عملها بعد عام، فوجهت الجائزة إلى بطل من أبطال السلام بين حملة الأقلام، أصابه العنت الشديد بين قومه من جراء دفاعه عن السلم واستنكاره للحرب، وحملته على ذوي المطامع من عباد المال والسلطان، وذلك هو الكاتب الفرنسي المجيد «رومان رولان» أكبر النقاد الفنيين في الموسيقى بين أبناء جيله، ومؤلف الروايات التي ارتفعت بالرواية من طبقة التسلية وتزجية الفراغ إلى طبقة الإلهام والإرشاد، وقد جاءته جائزة نوبل بعد تكريمه بالجائزة العليا من الأكاديمية الفرنسية بسنتين، وقالت اللجنة السويدية إنها تقدر في أدبه «الروح المثالي المجيد، والتصوير الزاخر الأمين للشخصيات الإنسانية الذي يدل على بعد الغور وعمق العاطفة».
وبلغ الشاعر الناقد السويدي فيرنر فون هيدنستام
Heidenstam
سنته الخامسة والسبعين حين آثرته اللجنة في إبان سنوات الحرب - سنة 1916 - بجائزة الأدب الفعال في خدمة السلام، وقالت في تحيتها له إنها تقدر «عظمة شأنه في الدعوة إلى عهد جديد في فنوننا الجميلة»؛ لأن هذا الشاعر قد اشتهر بمذهب في علم الجمال يبشر بالقيم العليا في الآداب والفنون، وينحى أشد الأنحاء على إسفاف الأدباء والفنانين إلى التبذل الرخيص باسم «الواقعية الطبيعية».
وكأنما شاءت اللجنة في سنوات الحرب أن تبتعد عن جوانب الدول الكبرى المشتركة فيها؛ فكانت جوائز السنوات (1917 و1918 و1920) من نصيب أدباء الأمم الصغيرة التي التزمت الحيدة خلالها.
فأجازت الدنمركي كارل جلروب
Giellerup
سنة 1917، وقالت إنها تقدر في هذا الشاعر المفكر «وفرة محصوله في فن القصة مع التنوع والنزعة المثالية»، وأشركت معه في جائزة السنة أديبا دنمركيا آخر هو الروائي الحكيم هنريك بنتوبدان
، الذي أسهب في بحث مشكلات الروح الإنسانية كما تمثلت له بين أبناء قومه، وقدرته اللجنة السويدية لما امتاز به من «الأوصاف القيمة للحياة الحاضرة في بلاده».
وأجازت في سنة 1919 الأديب السويسري كارل سيتلر
Spitteler ، صاحب الملاحم المطولة والمقالات الكثيرة في الوصف والنقد والملاحظات الاجتماعية.
وكان صاحب الجائزة في سنة 1920 نمطا فريدا بين مستحقيها من سنتها الأولى إلى هذه السنة في أعقاب الحرب العظمى، إذ وجهتها اللجنة إلى أديب من العصاميين في الأدب لم تتيسر له دراسة منتظمة بمعهد من معاهد التعليم، ولكنه قضى سنوات صباه يتكسب من صناعة الأحذية تارة، ومن العمل في السفن تارة أخرى، ويتنقل من بلد إلى بلد بين أوروبة وأمريكا، مشتغلا بكل ما تهيأ له من الأعمال في الترام أو القطارات أو المزارع أو مصائد الأسماك، ويطالع في أثناء ذلك ويجرب قلمه فيما يعنيه من شدائد العيش، حتى نشرت له قصة صغيرة في صحيفة دنمركية عنوانها «الجوع»، فتلقفها القراء في بلاد الشمال؛ لأنها صادفت «موضوع الساعة» بينهم وبين معظم الشعوب التي أوقعتها الحرب في جرائرها المتلاحقة من أزمات الفقر وثورات الطبقات المحرومة، وقد كان شعور الكاتب بمتاعب العيش منزها عن آفة النقمة والتهجم على قواعد الحياة الاجتماعية ومبادئ الأخلاق، فغلبت فيه عاطفته الإنسانية على رذائل الحسد والبغضاء، ولقيت صيحته حقها من الإصغاء والتلبية بين المنصفين في جميع الطبقات والآراء، ثم تتابعت قصصه وفصوله والتفت إلى المسرح كما التفت إلى الرواية المطولة والنادرة الصغيرة، وتابع الطواف بين بلاد المغرب والمشرق، مستفيدا من التجربة والرحلة مسجلا لثمرات هذه التجارب والرحلات في آثاره الأدبية على اختلاف موضوعاتها، ملزما في أسلوبه أصول الكتابة على منهج المحافظين من بلغاء السلف من رواد الثقافة والأدب؛ خلافا لنظرائه من العصاميين في ميادين الأدب واللغة.
ذلك هو الكاتب النرويجي العالمي كنوت هامسون
Hamsun
أو كنوت بدرسين كما كتب في شهادة الميلاد، وأشهر ما اشتهر به فيما عدا ذلك المحصول الضافي من الزوايات والملاحم والأقاصيص: نداؤه البليغ بعنوان «اللغة في خطر» تحذيرا لأبناء الشمال من فوضى الكتابة باسم التقدم والتجديد. •••
وقد اتسع مجال الاختيار بعد انعقاد الصلح وتبادل العلاقات السلمية بين الأمم المتقاتلة، فعادت اللجنة إلى الترشيح من جميع الأمم، وبدأت مرة أخرى بفرنسا فاختارت أناتول فرانس «لبراعته التي تتسم بالأسلوب الرفيع والإنسانية الكريمة وجمال الأداة، مطبوعا بطابع العبقرية الفرنسية الصحيحة».
واختارت (سنة 1922) الشاعر الروائي الإسباني جاسنتو بينافينتي
Jacinto Benavente
لاتفاق الناطقين باللغة الإسبانية في وطنها وفي أمريكا الجنوبية على اعتباره عنوانا لبلاغة هذه اللغة في فن الدراما.
واختارت (سنة 1923) الشاعر الأيرلندي وليام بتلر ياتس
Yeats
لشعره الملهم الذي يعبر بصورته الفنية عن روح أمته.
واختارت (سنة 1934) شاعرا بولونيا لمثل هذا السبب، وهو لاوسلو ريمونت
Reymont ، ولوحظ في اختيار الشاعرين الأخيرين - على ما يظهر - أنه كان بمثابة التحية الأدبية لأمتيهما في نهضة المطالبة بالحرية.
واختارت (سنة 1925) أشهر أدباء اللغة الإنجليزية يومئذ الكاتب الأيرلندي برنارد شو لجهوده الأدبية القائمة على أساس من الطموح المثالي والعاطفة الإنسانية، يقترن بالنقد الشامل الذي يمتزج أحيانا بنفحة شعرية خاصة بصاحبها. وقد تبرع الكاتب بقيمة الجائزة لتشجيع العلاقات الثقافية بين السويد والبلاد الإنجليزية.
واختارت (سنة 1926) الكاتبة الإيطالية جراتسيا بليدا
Beledda ؛ لأنها وصفت بأسلوبها الرفيع حياة أبناء وطنها في جزيرة سردينية، وتناولت شئون الإنسان جميعا بحرارة وحمية.
واختارت (سنة 1927) هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي «لأفكاره الواسعة المثمرة التي صاغها في قالبها الفني البارع».
واختارت (سنة 1928) الكاتبة النرويجية سيجريد أوندست
Undset
بصفة خاصة لاقتدارها على تصوير حياة الأمم السكندنافية خلال القرون الوسطى.
واختارت (سنة 1929) الكاتب الروائي توماس مان تقديرا على الخصوص، لقصته المطولة (آل بودنيروك) التي نالت من الإعجاب على توالي الأيام ما جعلها ملحمة كالملاحم السلفية في تصوير العصر الحاضر.
واختارت (سنة 1930) الكاتب الأمريكي سنكلر لويس، لفنه العظيم الحي الذي استخدمه في وصف الحياة وصفا يدل على ملكة مقتدرة على خلق النماذج البشرية تشملها الفكاهة الذكية.
واختارت (سنة 1931) إريك آكسل كارفيلد
Karlfeldt
السويدي عضو الأكاديمية السويدية، وعضو اللجنة الموكلة بالحكم في الترشيحات الأدبية، ولكن اختيارها له كان بعد وفاته؛ لأنه رفض الجائزة حين وجهت إليه قبل ذلك معتذرا بجهل قراء الأدب بمؤلفاته خارج البلاد السويدية، ثم قبلها لانتهاء مدته في وظيفته ، وابتدأت إجراءات الترشيح على هذه النية، ولكنه توفي قبل إعلان النتيجة في موعدها.
واختارت (سنة 1932) الكاتب الإنجليزي جون جالزورثي
Galzworthy ، وهو أول من نال الجائزة من صميم الإنجليز لوصفه الممتاز الذي بلغ الذروة في روايته المطولة عن الحياة العصرية.
واختارت (سنة 1933) الكاتب الروسي المنفي من وطنه (إيفان بونين)
Bunin «لملكاته الفنية الناطقة التي اقتدر بها على تصوير طبائع الأمة الروسية».
واختارت (سنة 1934) لويجي بيراندلو الإيطالي، لما اتصف به من «الشجاعة والإبداع في تجديد الدرامة وفن المسرح».
واختارت (سنة 1936) مؤلف المسرحيات الأمريكي يوجين أونيل
Eugen O’neill ، الذي نال جائزة بولتايزر الأمريكية ثلاث مرات، قبل أن ينال جائزة نوبل لاقتداره على تزويد المسرح الحديث بروائعه الناجحة، وقد جاء اختياره لجائزة العام بعد سنة لم تمنح فيها جائزة الأدب السويدية وهي (سنة 1935).
واختارت (سنة 1937) القصصي الفرنسي مارتن دي جارد الذي نال في تلك السنة جائزة مدينة باريس عقب إنشائها حديثا، ولم يكن أحد من وطنه قد رشحه للجائزة السويدية اكتفاء بترشيحه للجائزة الفرنسية على ما يظهر، ولكنه منح جائزة نوبل «لقدرته الفنية، وصدقه في وصف النقائض الإنسانية، وتصوير بعض السمات البارزة في حياة العصر الحاضر»، وهي السمات التي أراد بها أن يبين في أسلوب القصة كيف كانت أخلاق الناس ممهدة لوقوع الحرب العالمية لا محالة.
واختارت (سنة 1938) الكاتبة الأمريكية بيرل بك
Buck ، «لأوصافها ذات المسحة «الملحمية» الصادقة التي صورت بها في رواياتها حياة الريف في الصين»، مع تقدير آياتها في كتابة التراجم والسير.
واختارت (سنة 1939) أديبا فنلنديا على أثر الدفاع الذي صمدت له أمته في وجه الغارة الروسية على أرضها، فاختصت اللجنة أديبها فرانس أميل سلانبا
Sillana ، لجمال أسلوبه في تصوير الحياة الإنسانية والمناظر الطبيعية في وطنه.
ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، فصدر في السويد مرسوم ملكي بوقف توزيع الجوائز، مع مثابرة اللجنة على عملها إلى أن يتيسر لها تنفيذ برنامجها بغير حرج من مراسم العلاقات الدولية أثناء القتال.
ثم أعيد توزيع الجوائز منذ سنة 1944 فنالها من تلك السنة إلى نهاية سنة 1959 خمسة عشر مرشحا أشهرهم: أندريه جيد الفرنسي ، وإليوت وفولكنر الأمريكيان، وبرتراند رسل الإنجليزي، ومورياك الفرنسي، وشرشل الإنجليزي ، وهمنجواي الأمريكي، وخيمنيز الإسباني، وكامي الفرنسي، وبسترناك الروسي، وقد تنحى عن شهود الاحتفال بتسليمه الجائزة بعد قبوله إياها وشكر اللجنة على توجيهها إليه.
ولم تختلف شروط الإجازة الفنية بعد الحرب العالمية ولا بعد الحرب العالمية الثانية، فهي في مجموعها تتلخص في الإجادة واستقلال الملكة في كتابة نوع أو أكثر من أنواع الكتابة الأدبية.
وكذلك لم تختلف شروط الإجازة من حيث الوجهة التي يتجه إليها الأديب بحملة كتاباته؛ فهي على الدوام تتلخص في تحقيق السلام والرجاء.
ولكن الملاحظ في الحالتين أن التفاوت كبير بين مستحقي الجوائز، سواء في حالات السلم أو حالات الحرب، أو الحالات المنذرة بالخطر والشقاق.
فمن أصحاب الجوائز من يعد في طليعة الأقطاب العالميين أركان الأدب ورواد المدارس في موضوعاته المنوعة، ومنهم من يحسب من الأتباع المتفوقين في باب واحد محدود بموضوعه وشهرته بين قرائه.
وقد أجازت اللجنة أناسا لهم وجهتهم الواضحة في الطموح إلى المثل الأعلى والإيمان بمصير الإنسان، ثم أجازت معهم أناسا لا يزيد عملهم على المحاولة التي لا تصمد إلى غاية معروفة، بل لا تزيد على الحيرة بين المسالك المتعارضة، وغاية فضلهم أنهم لا يستسلمون لليأس، ولا يخلو التشاؤم عندهم من عطف وطيبة ضمير.
وصرحت اللجنة غير مرة بتقديرها لسيرة الأديب وكرامته الخلقية، ولكنها أغفلت هذا الجانب مرات، وأجازت آحادا من الأدباء بين حين وحين لا يبالون العرف والحياء في مسلكهم الاجتماعي، بل لا يكتمون في كتاباتهم أنهم مستخفون بالعرف والحياء.
ومما لا جدال فيه أن العالم لم يخل في أكثر السنوات من أديب أو أدباء أفضل من صاحب الجائزة في تقدير اللجنة، ولم يكن عذر اللجنة أنها تجهله، أو أن الاطلاع على كتابته لم يكن ميسورا لقراء اللغات الأوروبية.
ومن البديهي أن اللجنة ليست بالمعصومة من الخطأ، ولا من الأهواء النفسية، فمن هذا التفاوت ما يرجع - ولا ريب - إلى خطأ في مقاييسها الفنية، أو إلى هوى من أهواء السياسة وغواية الميول العارضة التي تشيع بين الأمم في إبانها، ولكن النظرة المنصفة ترينا - بعد المقابلة بين الترشيحات ودواعيها - أن ضرورات الظروف - قبل كل شيء - كافية لتفسير التفاوت الكبير بين أصحاب الجائزة في الأغلب الأعم من الحالات.
فلا يخفى أن اللجنة بدأت عملها والمقاييس العالمية على اتفاق أو على تقارب يشبه الاتفاق، وطريق السلام بادي المعالم للمفكرين، والقادة يعرفون فيه غرضا واحدا وهو اجتناب النزاع بين الأمم، واجتناب الفتن التي تناقض مبادئ الأخلاق ودعائم الاجتماع، وحدث فيما قبل الحرب العالمية الأولى أن تقدير الأديب من قبل اللجنة يوافقه تقدير دولته، أو تقدير هيئاتها العلمية، فيجمع بين المكافأة الأدبية وبين المكافأة «الرسمية»، أو المكافأة الشعبية بإجماع الآراء، أو بما يقرب من الإجماع، واستطاعت اللجنة أن تختار على سعة قبل الحرب العالمية الأولى، ثم اضطرت إلى حصر اختيارها أثناء الحرب في نطاق محدود من الأمم الصغيرة التي التزمت الحيدة بين الطرفين؛ لأن عمل اللجنة لم ينقطع أثناء الحرب، كما انقطع أثناء الحرب العالمية الثانية لاحتلال المقاتلين معظم بلاد الشمال.
فلما انحصر اختيار اللجنة في ذلك النطاق المحدود هبط الميزان من أفق المكانة العالمية إلى ما دونها بكثير، وتعذر في هذا النطاق المحدود أن تجتمع للأديب شروط الفن وشروط السلام والطموح إلى الأمثلة العليا، التي تتفق عليها مقاييس الأفكار والأخلاق.
ثم أسفرت نهاية الحرب العالمية الأولى عن وجهات شتى في ميدان السياسة الدولية، وميدان المذاهب الاجتماعية، وميدان التفكير، والنقد الفني على الإجمال؛ فظهرت مذاهب الشيوعية والفاشية والنازية، واندفع كل فريق من أتباع هذه المذاهب إلى التأهب بالدعاية وبالسلاح لاتقاء الخطر أو للثأر من الهزيمة، واقترنت خصومات السياسة والاجتماع بالخلاف على المشارب والعادات ومبادئ السلوك وضوابط الأخلاق بين المحافظة والإباحة وبين التزمت والانطلاق. فلم يكن يسيرا على اللجنة بين هذه المنازع المتعارضة أن توحد المقاييس بينها وبين الأشتات المتفرقة من حملة الأقلام المضطربين في هذا الخضم المريج من الدعايات والرد على الدعايات، وقنعت اللجنة بقسمتهم جميعا إلى قسمين: أحدهما يكثر في كلامه ترديد لهجة العداء والنقمة إلى الطرفين، والآخر - وهو أصغر القسمين - يقف عند حدود الحيدة، ولا يتورط في حملات الدفاع والهجوم بين المعسكرين، وقلما يتفق أن يكون هؤلاء المحايدون المنعزلون على القمة العالية من قمم النبوغ والمكانة العالمية.
ولا مناص للجنة بعد توزيع الجوائز سنوات متوالية أن تلاحظ نصيب الأمم الكبيرة وزيادة النسبة في بعضها أو نقصانها عن القدر الذي يبرئها من تهمة المحاباة والإجحاف، فإذا شعرت بالزيادة في نصيب أمة من الأمم، فقد يلجئها ذلك إلى قبول المرشح من أمة أخرى، ولو لم يكن له حق من الشروط الفنية أو الشروط الإنسانية كحق منافسيه.
وقد برزت مع الخصومات الدولية قضايا الحرية في بعض الأمم الصغيرة المغلوبة على أمرها، فلم يكن التفات اللجنة إليها هذه المرة كالتفاتها إليها خلال الحرب العالمية؛ إيثارا لها بجوائز السلام لوقوفها موقف الحيدة بين المتقاتلين، بل كان التفاتها إليها تحية لها في المطالبة بالحقوق الإنسانية، وسدا لباب من أبواب الحرب تفتحه مطامع الدول الكبار، وتدفعها إليه المغالبة على السيادة والسلطان، ومن هذا السبيل وصلت الجائزة إلى أدباء أيرلندة وبولونيا وفنلندة، ووصلت إلى أدباء بعض الأمم المستقلة التي طغى عليها المستبدون من أبنائها وأقاموا حكمهم فيها على مبادئ سياسية أو اجتماعية تناقض مبادئ العدالة والسلام.
وينبغي أن نذكر أن الأدباء المتأخرين في تاريخ نيل الجائزة لم تكن لهم هذه المكانة قبل ذلك بسنوات، فلا تفاوت في التقدير - مثلا - بين برنارد شو (سنة 1925) وهيس (سنة 1910)؛ لأن خمس عشرة سنة بين التاريخين تفسر هذا التفاوت، ولا ترجع به إلى اختلاف المقاييس.
ولا ننس أن اللجنة نفسها تتطور في نظراتها إلى الأدب وفي مقاييسها التي تقدر بها الأدباء، وأنها تتطور كذلك في حكمها على الأخلاق، وما تستوجبه منها في الأديب الذي تتوافر له أمانة الفكر ولا تتوافر له أمانة السلوك؛ فلا جرم يرجح لديها في منتصف القرن من لم يكن راجحا لديها عند مطلعه، ويتقبل الناس حكمها الأخير ولم يكن مقبولا لديهم قبل ذاك. •••
إلا أن هذه العوارض الضرورية قد تعطي حقها من الاعتبار، ولا تنفي الغرابة التي قوبل بها إهمال اللجنة تلك الفئة التي ارتفعت إلى قمة الذروة العالمية، قبل أن تبدأ اللجنة عملها في مطلع القرن العشرين، ونذكر منها أسماء تولستوي الروسي، وإبسن النرويجي، وزولا الفرنسي، وهاردي الإنجليزي. وقد قوبل بمثل هذه الغرابة إهمالها لفئة أخرى من الأعلام والأقطاب لم تزل تصعد درجات الشهرة خلال الربع الأول والربع الثاني من القرن العشرين، حتى استقرت قبل منتصفه على مثل تلك القمة من الشهرة العالمية، ومنهم كروشة الإيطالي، وإبانيز وأنامونو الإسبانيان.
وقد عم هذا الاستغراب أرجاء العالم الثقافي لأول وهلة بعد إعلان الجائزة الأولى، وكان مظهره في بلاد السويد أشد وأصرح من مظهره في البلاد الغربية التي كانت تترقب جميعا أن يكون الفائز الأول تولستوي دون برودوم الذي وجهت إليه على غير انتظار.
ولم يسع اللجنة أن تغفل هذا الاحتجاج العالمي، فاعتذرت له بأعذارها يومئذ، ثم توسعت في شرحه وشرح عوامل الترشيح والإجازة على العموم في أول كتاب أصدرته المؤسسة لمناسبة انتصاف القرن العشرين، وقد يزيل الاطلاع عليه بعض الغرابة، وينفع في إيضاح العوامل التي تحيط بمواقف الهيئات التي تتصدى لأمثال هذه المهمة العالمية، ومنه ما تشاؤه باختيارها، أو تنساق إليه ولا مشيئة لها فيه.
بعد إعلان الجائزة لأول مرة غضب أدباء السويد ومؤلفوها لتخطي اللجنة اسم تولستوي، فاجتمع اثنان وأربعون منهم وكتبوا تحيتهم إلى الكاتب الكبير احتجاجا على عمل اللجنة، واعتذارا عن الأمة السويدية، وأيدهم المثقفون من السويديين في هذه التحية وهذا الاعتذار.
أما اللجنة فقد تبين من أقوال المطلعين على أعمالها أنها استجابت في الترشيح الأول لتزكية متعددة من جانب أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وهي الهيئة التي تعتبر الأكاديمية السويدية وليدة لها وتقتدي بها في أعمالها، فلم يسعها - كما قالت - أن تعرض عن هذه التزكية، وتتخطى برودوم إلى كاتب آخر لم يرشحه أحد من المسئولين، ولم يكن في برنامج اللجنة يومئذ أن تستقل بالترشيح والتفضيل، كما تقرر بعد سنوات من التجربة تكررت فيها مخالفة اللجنة لآراء الهيئات الرسمية التي قصر عليها حق الترشيح.
واتجهت النية عند فريق من أعضاء اللجنة إلى استدراك هذا الإهمال في السنة التالية ، ورأى فريق آخر من أعضائها أن شروط الجائزة توافق أعمال تولستوي الأدبية، ولكنها لا توافق آراءه الاجتماعية التي ينادى فيها بتقويض معالم الحضارة، وإنكار الحكومة بأنواعها، وإسقاط حق الحكومات في معاقبة الجناة، وحق الساسة والقادة في تعليم الناس على أسس الثقافة العصرية؛ لأنها - في رأيه - قشور لا تنتهي إلى لباب.
وتوسط بين الفريقين طائفة من ذوي الرأي بدا لهم أن التوفيق بين الجانبين يسير، إذا نصت اللجنة على بيان أسباب الجائزة، ولم تذكر فيها آراءه الاجتماعية.
على أن المشادة حول هذه المسألة قد بلغت غايتها في هذه الأثناء، وكان على رأس اللجنة السويدية رجل مشهور بقوة الشكيمة، واستقلال الرأي إلى حد الإصرار والعناد، وهو الأستاذ كارل ويرسن
Wirson
الذي كان استقلاله هذا سببا لاختياره في مقام الحكم المنزه عن مؤثرات الضغط والإكراه حيث تضطرب الأغراض، ويكثر الرجاء والإلحاح من مختلف الجهات، وكان ويرسن يرى أول الأمر أن التوفيق بين الجانبين مستطاع على الوجه الذي انتهوا إليه، وهو استثناء آراء تولستوي الاجتماعية عند التنويه بمزاياه التي استحق بها جائزة الفن والسلام، ولكنهم فوجئوا جميعا بحديث من أحاديث تولستوي أنحى فيه على الجوائز المالية، وأنكر فيه أن يكون المال مكافأة لفكرة المفكر وأدب الأديب، فكتب ويرسن تقريره الأخير إلى اللجنة يشرح فيه الموقف بتفصيلاته، ويقترح فيه العدول عن تسمية تولستوي لجائزة تلك السنة؛ لأنه يخشى أن يرفضها لاستنكاره مبدأ الجوائز المالية، وأن يرفض التقدير الأدبي إذا قيدته اللجنة بأسبابها وصرحت في بيانها باعتراضها على فلسفة الكاتب الاجتماعية وأقواله عن نظام المجتمع والحكومة في ظل الحضارة. •••
وكان اسم هنريك إبسن أقرب الأسماء إلى الترشيح في اللجنة السويدية؛ لأنه من أبناء الشمال، ولم يكن أقل في الشهرة العالمية من تولستوي بين رواد المسرح وطلاب المباحث الاجتماعية، ولكن انتسابه إلى أمم الشمال أخره ولم يقدمه في تقدير اللجنة عند افتتاح عملها «العالمي الإنساني»، الذي يشترط فيه التسوية بين الأمم، واتقاء شبهات العصبية الجنسية، فأشفقت أن تفتتح عملها بما يلقي عليها شبهة التعصب لأبناء عنصرها، فلما زال الحرج من توجيه الجائزة إلى أحد من أدباء الأمم السكندنافية، بعد إجازة أديب من فرنسا وأديب من ألمانيا، كانت مشكلة الدعوى إلى الانفصال بين النرويج والسويد على أشدها وأعنفها، ولاح لبعض أعضاء اللجنة أن تأخير منح الجائزة لواحد من الأدباء السكندنافيين الكبار قد يعزى إلى سوء النية، ويحمل على محمل اللدد في الخصومة السياسية، على حين أن اختصاص أديب من أبناء النرويج بها يبرئ اللجنة من شبهة العصبية لوطنها، ويلطف كثيرا من توتر الخصومة بين القطرين الشقيقين، وكان في النرويج علمان من أعلام الأدب العالمي هما إبسن
Ibsen
وبجورنسون، أحدهما مشترك في الحركة السياسية، والآخر منعزل عنها أو قليل الاكتراث بها، أحدهما من أنصار النزعة المثالية، والآخر أقرب إلى الواقعية والترخص في القيم الأخلاقية، وأحدهما يتسنم أوج الشهرة، والآخر قد استنفد جذوته - كما قال فريق من أعضاء اللجنة - فرجحت كفة بجورنسون لأنه أوفى بالشروط المطلوبة، ولأنه إذا تخطضاه الاختيار لم يفهم من تخطيه إلا أنه عقوبة له على اشتراكه في الحركة الوطنية، ولجاجته في الخصومة التي تسعى اللجنة إلى تلطيفها وجبر كسورها، ثم مات إبسن بعد انفصال النرويج عن السويد، ولم يكن من الميسور منح الجائزة لأديب نرويجي سنتين متواليتين لو أريد ذلك، فأخطأته الجائزة وظهر في أمره كما ظهر في أمر تولستوي أن ظروف الحوادث عامل من العوامل التي تغلب المختار على اختياره في موازين الأدب العالمية، كلما اتصلت بالأمثلة العليا وأزمات السياسة. •••
أما توماس هاردي الشاعر القصاص، فقد كان موقف اللجنة منه سليما من الوجهة الحرفية ضعيفا من الوجهة النفسية، وقد أثبت هذا الموقف حقيقة واضحة عن تقديرات اللجنة لا تحب أن تثبت عنها؛ لأنها تغض من شأن موازينها، وتلك الحقيقة الواضحة هي أنها قد تحرم الأديب من تقديراتها سنة بعد سنة في أوجه شهرته، ثم لا يحط ذلك من قدره في موازين الأدب، ولا في موازين الإنسانية.
قال كارفلد أمين سر اللجنة عن هاردي: إنه يجل عمله، ويزكي اقتداره على تصوير مناظر الطبيعة في بلده، وخصائص الأخلاق بين قومه، ويشفق من سوء أثر إهماله في نفوس أبناء وطنه، ولا يرى غضاضة على الشاعر ياتس من إرجاء تقديره إلى سنة أخرى لصغر سنه.
وقال مؤلف القسم الأدبي من كتاب «نوبل: الرجل وجوائزه» إنه كان من المؤيدين لترشيح هاردي، ويرى وجوب الالتفات بصفة خاصة إلى شعره الأخير الذي يعد فتحا أدبيا جديدا من رجل في مثل سنه، ولكن الفكرة التي كانت شائعة بين الأكثرين من أعضاء اللجنة أنه شديد التشاؤم والاستسلام للقدر المقدور على نحو لا يلائم روح الجوائز ومنحاها. ولم تتغير هذه الفكرة - لسوء الحظ - مع ترداد الترشيح عاما بعد عام، حتى أصبح كبر سنه أخيرا أكبر العوائق دون توجيه الجائزة إليه، لما سيبدو في هذه الحالة من أنها قد جاءته بعد فوات أوانها وفقدت معناها.
والخطأ هنا أن تشاؤم هاردي لم يكن أسوأ من تشاؤم أناطول فرانس الذي أجازته اللجنة لجمال أسلوبه وجودة فنه، وأن الموازين الآلية في فهم التشاؤم عجز يقع فيه من لا يفرقون بين تشاؤم العطف والأسى على الإنسانية، وتشاؤم الفتور وقلة الاكتراث، أو تشاؤم النفور وجمود الوجدان؛ إذ لا يتساوى في التشاؤم كاتبان: أحدهما يرثى للإنسان عطفا عليه وأسفا لقصوره أو شقائه، والآخر ينعي عليه عيوبه كأنه يتقصاها ويستريح إليها، ولا يريد أن يهتدي إلى حسنة بينها تقدح في سوء ظنه بها وحرصه على تسجيلها وإثباتها، ونحن لا نسمي الأب متشائما إذا صدمته الخيبة في وليده، فصاح به أنه لم يفلح، ولا نخاله مفلحا في حياته، ولكننا نحسب من التشاؤم أن يقال ما هو أهون من ذلك عن الطفل الغريب أو القريب كراهة للخير، واستراحة إلى الشر، حيث يكون وحيث يعم في مواطن الأمل ومواطن اليأس على السواء، ولعل تشاؤم هاردي فيه من الحب للإنسانية والتشوق إلى إسعادها ما ليس في المرح الرخيص الذي يتغنى به جمهرة «المتفائلين»، وليس عندهم من التفاؤل إلا عفو الساعة من المتعة المبذولة والغفلة عن مصائبهم ومصائب الناس، وهي غفلة مريحة ولكنها لا تحمد ممن يريد الخير ويطلبه لبني الإنسان. •••
وكيفما كان حكم اللجنة على هؤلاء الأعلام الثلاثة - تولتسوي وإبسن وهاردي - لقد كان لهم فيها أنصار مؤيدون، وكان لمعارضيهم حجة تستند إلى نصوص دستور اللجنة أو إلى تفسير تلك النصوص، فلم تتجاهلهم اللجنة، ولم تعتبر إهمال أدبهم أمرا مفروغا منه غنيا عن المناقشة والتأويل.
فالغرابة في موقف اللجنة منهم أقل من غرابة موقفها من نظرائهم الذين بلغوا مبلغهم من الشهرة العالمية ووافقوا في كتابتهم شروط النزعة المثالية، بل تعرضوا في سبيل مبادئهم وآرائهم لمحنة الشدة والاضطهاد، فثبتوا عليها ولم يتزحزحوا عنها، وعرف لهم العالم - كما عرف لهم ذوو الرأي من أبناء وطنهم - حق الجهاد وفضل الثبات عليه إلى ختام حياتهم، ومنهم من صمد لمقاومة العدوان في أزمات الحربين العالميتين، ومن قضى نحبه بعد الحرب العالمية الأولى في منفاه.
أحد هؤلاء «إبانيز»
Ibanes
الكاتب الإسباني، داعية الإصلاح والتعمير على قواعد الاشتراكية العادلة قولا وعملا في وطنه وفي أمريكا الجنوبية، وقد ناهض الحرب العالمية الأولى، وعاش بعد انقضائها بضع سنوات ذاعت في خلالها كتبه ورواياته، وترجمت إلى اللغات الأوروبية، وعرضت على اللوحة البيضاء، ومات (سنة 1928)، وله من الشهرة العالمية غاية ما يبلغه الكاتب باللغة الإسبانية في العصر الحديث، وقد آثرت عليه اللجنة أحد مواطنيه وهو في أوج شهرته بعد الحرب العالمية (1922)، فكان أغرب ما في هذا التمييز أنه حدث دون أن يسمع معه صوت واحد يقابل بين الأديبين، ويذكر وجه التفضيل والرجحان لسبب من الأسباب، وقد يقال في تفسير ذلك إن إبانيز كان معدودا من «المهيجين» السياسيين في عرف حكومته وجماعة المحافظين من أبناء قومه، ولكنه على أية حال كان خليقا أن يرشح وأن يقال في الاعتراض على ترشيحه ما عسى أن يقال من هذا القبيل.
ولا ندري نحن علة لهذا الموقف الغريب، إلا أن يكون مرجعه إلى رأي إبانيز في حكم أبناء الشمال لوطنه وتصريحه عند المقارنة بينه وبين الحكم العربي بأنه قد خرب في سنوات كل ما بناه العرب في عدة قرون.
وتجاهلت اللجنة مواطن إبانيز الفيلسوف أنامونو
Unamuno
على هذا النحو من التجاهل الصامت، حتى قضى نحبه في معتقله (سنة 1936)، واسمه يتردد على الألسنة حيث تنطلق اللغة الإسبانية في العالمين القديم والحديث، وحيث تقرأ روائع الفلسفة والأدب البليغ في سائر اللغات، ولعله كان بين الفلاسفة المحدثين صاحب القلم الذي لا يجاريه كاتب مفكر في طلاوة اللفظ وبلاغة التعبير، بل لعله كان أوفى كتاب الفكر والفلسفة بشرط النزعة المثالثة المقدم على غيره من شروط الجائزة؛ إذ كان يبغض الاستنامة إلى عقيدة من العقائد والجمود عليها، دون أن ينبعث المعتقد بها مع أشواق التطلع والطموح إلى الآمال التي تفوقها والأسرار التي تكمن في أعماقها، وهو القائل في كتابه عن الجانب الفاجع من الحياة: «إن عملي - وأكاد أقول رسالتي - أن أزعزع عقيدة كل معتقد يثبت، وكل معتقد ينفي، وكل معتقد يتشكك، وكل معتقد يكف عن البحث والتفكير؛ وذاك لأنني أومن بالإيمان لذاته، وأعتقد العقيدة في جوهرها، وأناقض كل من يركن إلى مذهب من المذاهب في استسلام وتفويض سواء دان بالكثلكة، أم بالعقل، أم تردد على مذهب الشكوكيين.»
فهو ينكر الجمود حيث كان، ويريد المثالية عملا وسعيا، كما يريدها فكرا وشعورا، ما دام بقيد الحياة، ويجوز أن تكون هذه النزعة المثالية على خلاف شرط اللجنة فيما تفهمه من معنى النزعات المثالية، ولكن الذي نستغربه أن يكون هذا الرأي مسكوتا عنه مفروغا منه، وأن يتقرر الحكم فيه بغير بحث وبغير حجة من طرفي الخلاف.
وموقف اللجنة من أنامونو شبيه بموقفها من قرينه ومعاصره الفيلسوف الإيطالي «كروشه»، نصير الحرية وعدو الفاشية، الذي ثبت على مقاومتها طول حياته إلى أن توفي سنة 1952، وهو في السادسة والثمانين، ومذهبه في الفن وفي علم الجمال مذهب المقبل على الحياة والمؤمن بالواجب وبالقدرة على أدائه. ولم يكن إيمانه هذا مجرد عقيدة في أطواء الضمير، أو دعوة من فيلسوف يقول ولا يعمل، ويشرح النظريات ولا يعنيه ما تئول إليه في حيز الوقائع والعمليات، بل كان يدين بالواجب كما اعتقده ويؤديه على النحو الذي يرتئيه. وقد اعتزل منصبه في وزارة التعليم، ثم اعتزل الحياة العامة يوم حيل بينه وبين الجهر برأيه والعمل على منهجه، والتزم هذه العزلة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إذ كتب له أن يعيش حتى يشهد بعينيه مصداق نبوءاته عن عواقب الحروب والمنازعات في كتابه الذي سماه (التاريخ سياق الحرية)، ولم يبال أن ينشره بعد تمام تأليفه (سنة 1938)، ولم تستطع الفاشية أن تمنعه؛ لأنها لم تشأ أن تشهد على نفسها بمناقضة الحرية في الحال والمآل. •••
إن إهمال هؤلاء الأعلام وغيرهم من نظرائهم غير مفهوم، وأغرب منه أن يكون إهمالهم بغير مناقشة بين أصحاب الآراء المتباينة، وبغير حجة يستند إليها فريق، وينقضها فريق كما يحدث في أمثال هذه الترشيحات.
فليس في الأسباب الأدبية سبب يقف في تفسير ذلك الإهمال المسكوت عنه، ويخطر لنا إذن أن هذا الصمت المتفق عليه أشبه بصمت السياسة الذي يتم التفاهم عليه، ولا يجري التصريح به في كتابة أو مقال.
فلا يخفى أن جوائز نوبل ترتبط بمراسم الدولة، ويشترك رجالها المسئولون في حفلاتها، ويتبادلون الخطب والتصريحات حول موضوعها وأسباب منحها، فمن الجائز أن يتم التفاهم بين المسئولين من قبل اللجنة وقبل الحكومة على اجتناب الأمم التي تنقسم على نفسها، وتتولى الحكم فيها سلطة مستبدة يثور عليها بعض أهلها، ويؤيدها من يؤيدها على غير رضا من سائر رعاياها، وفي هذه الحالة تلتزم اللجنة خطة السكوت على تفاهم بينها وبين المسئولين من رؤساء الدولة، وتتحاشى أن يكون ترشيحها للأديب دخولا منها بين أحزاب الأمة، وتأييدا للثائرين على نظام الحكم فيها؛ فإن الحكومة السويدية تتصل على أية حال بجميع الحكومات وتبادلها التمثيل السياسي والعلاقات التجارية والاقتصادية، فلا يستغرب منها أن تتحرج من مناصرة الخارجين عليها، وبخاصة حين يدعو الأمر إلى بيان عمل الأديب ووجهته ومقاصد أدبه وتفكيره، وقد كان الأدباء الثلاثة - إبانيز وأنامونو وكروشة - على موقف صريح بالعداء للفاشية وللحكومة المطلقة في إيطاليا وإسبانيا، وكانت شهرتهم الأدبية مقارنة لاشتهارهم بالمعارضة أو الثورة وهم منفيون أو معتقلون.
وما من سبب أدبي أو سبب سياسي غير هذا السبب يغني في تفسير ذلك السكوت المتفق عليه. •••
بقي أمر الأدباء الشرقيين وهم يكتبون بلغات شتى، يبلغ عدد المتكلمين ببعضها خمسمائة مليون، ولا يقل عدد المتكلمين بأضيقها انتشارا عن عشرة ملايين، وهو قريب من عدد المتكلمين ببعض اللهجات من اللغات الأوروبية التي أجيزت مرات.
ومن هذه الأمم جميعا لم ينل جائزة نوبل الأدبية في ستين سنة غير أديب واحد وهو رابندرانات تاجور. ولما أجازته قالت في بيان مزاياه: إن أدبه قد أصبح جزءا من الآداب الغربية، حيث تقول: «إنه جعل أفكاره الشعرية كما عبر عنها بأسلوبه في اللغة الإنجليزية جزءا من الأدب الغربي.»
فهل يفهم من ذلك أن اللجنة لا تجيز أدبا غير الأدب الغربي، أو الأدب الشرقي الذي يصبح جزءا منه؟
إننا إذا لم نفهم هذا فهمنا أن ستين سنة في الشرق العريق بآدابه وفنونه لم تنجب من مئات الملايين مثل ما أنجبته أمة السويد على انفراد، وقد نالت الجائزة منها أديبة وثلاثة أدباء.
وقد شوهد أن اللجنة تبحث عن الأدباء المستحقين، ولا تنتظر اشتهارهم بشهادة الصحف أو دور النشر أو أقلام النقاد، ومن أمثلة ذلك أننا اطلعنا على صحف الأدب الإنجليزي التي أصدرت سجلاتها الدورية عند منتصف القرن العشرين لتاريخ الأدب الغربي خلال خمسين سنة، فلم نقرأ فيها اسم (لاكسنس) صاحب الجائزة (سنة 1955)، ولا اسم (خيمنيز) صاحب الجائزة سنة (1956)، ولا اسم (كواسيمدو) صاحب الجائزة سنة (1959). وقيل عقب إعلان الجائزتين الأخيرتين إن الإسبان والطليان أنفسهم فوجئوا بهذا الاختيار، وجاء في تعبيرات أحد النقاد أن اللجنة تحفر عن مرشحيها كأنهم من خبايا الأحافير!
وأيسر من هذا البحث كان خليقا أن يهدي اللجنة إلى شاعر من أبناء الهند معاصر لتاجور، ومؤمن مثله بطلب الكمال وبالنزعات المثالية، وهو الشاعر الصوفي الفيلسوف محمد إقبال.
نعم إن محمد إقبال شاعر متدين يمتزج الكثير من قصائده بالتسبيح الصوفي والابتهالات الإلهية، ولكن الشعر الوجداني غير قليل في منظوماته المطولة أو القصيرة، يتلوه من يشاء من المؤمنين بالأشواق الروحية على اختلاف الأديان والآراء، ومنهم برهميون وبوذيون ترنموا بشعره كما ترنم تاجور نفسه بشعر المتصوفة الأولين من المسلمين، وليس الاعتراض على «روحانياته» بحائل مع هذا بينه وبين الجائزة العالمية؛ لأن اعتراضا مثله وجه إلى روحانيات تاجور فلم تأخذ به اللجنة، وانتهت بعد النظر فيه إلى إقرار الترشيح.
ففي أثناء الموازنة بين المرشح الشرقي تاجور ومنافسيه الغربيين، كتب الأستاذ هرالد هجان رئيس اللجنة الجديد تقريره، فقال فيه إن شعر تاجور لا يتيسر التفريق فيه بين ما هو من وحي عبقريته وما هو من وحي العبقرية السلفية الموروثة، وهي حافلة بالتراث الديني في الأمة الهندية من أقدم عهودها «ولا بد من زمن يمضي لتمييز هذه الوشائج التاريخية للاستعانة بذلك على صحة التقدير واستقلاله، والعلم بما هو مطبوع من كلام تاجور، وما هو من تلقين الصوفية الدينية والشعر القديم ...»
ونظرت اللجنة في هذا الاعتراض من رئيسها، فرجحت جانب الإقرار على جانب الرفض؛ لأنها لم تشأ أن تضيع المناسبة التي وضعت بين يديها اسما شرقيا لا يرد عليها نظيره في كل مناسبة.
ولسنا نذكر الحرج السياسي في أمر إقبال؛ فإن ظروف إقبال لا تختلف من ظروف تاجور في اعتبارات السياسة التي تنظر إليها الدولة السويدية، فقد منح كلاهما مرتبة الفروسية، ولقب (سير) عرفانا بمكانته الأدبية، وقد يكون هذا التقدير السياسي للمكانة الأدبية منبها للجنة إلى البحث في هذا الجانب دفعا لشبهة التفرقة بين أديبين - أو بين أدبين - لا موجب للتفرقة بينهما. •••
هذه البواعث التي تحيط بأسباب منح الجائزة ومنعها قد تصلح لتعميم الحكم على منهاج هذه الجوائز جميعا أيا كان الدستور الذي تتقيد به لجان الجوائز العالمية في شروطها؛ فإن البواعث العملية تجري على وتيرة واحدة بحكم الضرورة التي لا اختيار فيها لواضعي الشروط الأدبية أو منفذيها.
فكل لجنة من لجان الجوائز العالمية على غرار اللجنة السويدية عرضة للتفاوت في تقريرها عامدة أو غير عامدة، وقد تكون اللجنة السويدية في طليعة اللجان الموثوق بسداد رأيها وسلامة عملها، جهد الثقة من الإنسان بعمل الإنسان.
فمن الطبيعي أن يتفاوت الاهتمام بين القريب والبعيد، وبين اللغات المتداولة في بيئة المحكمين واللغات التي تنقل إليهم أو يفهمونها على السماع والرواية، وبخاصة حين تتباعد الأقطار، وتتباين الأمزجة، وتمتزج الفوارق الفكرية بالفوارق التاريخية، أو فوارق العنصر والسلالة.
ومن الطبيعي أن يتفاوت التقدير، حيث يتسع مجال النظر بين عشرات الأمم على اختلاف ثقافتها، واختلاف تقاليد الثقافة فيها حسب ما يعرض لها من الأطوار الاجتماعية.
ومن الطبيعي أن يتفاوت التقدير بين أدباء الأجيال المتعاقبة، وأن يحدث هذا التفاوت طفرة كما يحدث تدريجا، وأن يحدث في موضوع واحد من موضوعات الكتابة، كما يحدث في جملة هذه الموضوعات.
ومن الطبيعي أن يتفاوت ميزان النقد بين المحكمين أنفسهم، ولو لم يتغيروا في الجيل أو الجيلين، فإن تغيروا فالتفاوت مرتقب غير مستغرب، ولو كان من قبيل التفاوت في تطبيق القاعدة الواحدة والمقياس الواحد حسب اختلاف الوسائل والأساليب في التطبيق والتعقيب.
ولا مناص من التفاوت مع التزام شرط غير الشروط الأدبية وغير شروط الإجادة والإتقان في الكتابة؛ إذ يضطر المحكمون في هذه الأحوال إلى تفضيل الوسط الذي تجتمع له شروط الفن، وشروط الأخلاق والمطالب الإنسانية على الراجح الممتاز الذي تعلو به كفة وتهبط به أخرى في الميزان المشترك بين الفنون والأخلاق.
بل لا مناص من التفاوت مع توافر الشروط الفنية والإنسانية، إذا وجب في حساب المحكمين سنة من السنين أن ترعى جانب أمة طال إهمالهم إياها، ثم أتيحت لها الفرصة النادرة لتقديم من ترشحه في تلك السنة، ولا يتاح تكرار هذا الترشيح بعد فوات الأوان؛ فإن أديب هذه الأمة قد يقدم على سواه لهذا الاعتبار، وإن لم يكن مقدما عليه بجودة الفن وسمو الغاية.
وخير ما ينتظر من لجان الجوائز العالمية بين هذه الاعتبارات أن تضمن الحسن، ولا تدعي أنه الأحسن في جميع الموازين، وحسبها من رضا الناس بحكمها أن يقال إنه هو الأحسن على قدر الإمكان.
الجوائز والأمم
كتب الأسقف جوتفريد بلنج تقريرا إلى رئيس لجنة المحكمين قبل منح الجائزة للسنة الثانية، قال فيه: «إن الجائزة ينبغي حقا ألا تتخذ صبغة العمل السياسي، ولكنه من الحق الذي لا نزاع فيه أيضا، ولا سبيل إلى اتقائه أنها قد نظر إليها فعلا، وسينظر إليها كأنها ذات صبغة سياسية، وهذه نتيجة لا محيد عنها في عمل له هذه الصلات الدولية - العالمية - ومهما تحاول اللجنة أن تبتعد عن صبغة العلاقات الدولية، فلا مناص من التعقيبات التي تخوض فيها الصحافة من جميع الجوانب غير مستثنى منها الجوانب القومية.»
وقد أصاب الأسقف الحكيم، ووقع ما توقع منذ السنوات الأولى لتوزيع الجائزة إلى هذه السنوات الأخيرة بعد زهاء ستين سنة من بداءة عملها، فنحن اليوم نراجع أسماء الفائزين بالجوائز في أكثر المراجع التي تعنى بتدوين أخبارها وأخبار أمثالها، فنعلم من النظرة العابرة كم نالها من أدباء هذه الأمة أو تلك بين الأمم الأوروبية والأمريكية، ونعلم من بعض الموسوعات القومية نسبة الفائزين من بعض الأقوام إلى جملة الفائزين منهم جميعا دون أن نقصد من ذلك تلميحا إلى شبهة المحاباة أو الإجحاف.
ولا يفوت القارئ أن يلحظ أن الأمم الإسكندنافية فاز منها عشرة أدباء، ولم تفز بمثل هذه النسبة أمة من الأمم، سواء نظرنا إلى اللغة أو تعداد الأدباء والسكان، ولا يفوت القارئ أن يلحظ أن ملة من الملل بلغت نسبتها أربعة أضعاف المعدل المفروض لها عند المقابلة بينها وبين غيرها، وقد يحسن القارئ ظنه بنية اللجنة، فيعزو ذلك إلى المصادفة أو إلى حكم الظروف العارضة، ولكن المسألة الباقية على اختلاف الظنون أن الجوائز العالمية كلها - من حيث المبدأ - موضع نظر كثير ومناقشة طويلة، يمتد البحث فيها من إنكار كل فائدة للجوائز العالمية إلى القول بقلة فائدتها وإمكان الاستغناء عنها، إلى الجزم بضررها وسوء عقباها في الأعمال الفنية وفي العلاقات الدولية أو الإنسانية.
وسبيل الوصول إلى الرأي الراجح في هذه المناقشات أن نسأل عن الفائدة التي يعنيها طلابها، ويحق لهم أن ينتظروها منها ومن كل عمل يماثلها؟ فما هي هذه الفائدة؟ وكيف يستطاع تحقيقها إن لم تحققها الجوائز العالمية؟!
هل هي الإنصاف الذي تتفق عليه الآراء وتصطلح عليه جميع الموازين؟
إن كان هناك خطأ فهو خطأ الناقد الذي ينتظر هذا الإنصاف من عمل حكم في الأدب والفن يتولاه فرد واحد أو يتولاه جملة أفراد.
فليس هذا الإنصاف في استطاعة أحد، ولا هو من الأحكام التي يريدها من يشاء باختياره على أحسن ما تكون النية، وأحسن ما يكون وزن المحاسن والعيوب، ويجوز أن يوكل كل هذا الإنصاف إلى التاريخ يصححه ويعيد تصحيحه حتى ينتهي به إلى قراره الأخير، ولكنه بعد انتهائه إلى هذا القرار يعرض له اختلاف الفهم واختلاف أسباب الثناء والانتقاد.
وإذا كنا نخطئ في انتظار الإنصاف المطلق من لجان التحكيم، فما هي الفائدة التي يجوز لنا أن ننتظرها غير مخطئين؟! هل يجوز لنا أن ننتظر منها خلق الأعلام الموهوبين الذين يستحقون الإجازة ويبلغون فيها مبلغ التقدير؟
من البديهي أن الذين استحقوا الجوائز إنما استحقوها بعد أن بلغوا نهاية الطريق، ومنهم من خطا وتقدم في خطوه مرحلة بعيدة إلى الشهرة العالمية قبل أن توجد الجائزة بأعوام، وإنما كانت الجائزة بالنسبة إليهم علامة انتهاء، ولم تكن قط علامة ابتداء أو حض على الابتداء، فإذا أفادت هذه الجائزة في خلق عبقرية أدبية فإنما تخلقها لأنها تستحثها على القدرة، وتدفعها إلى النبوغ بدافع الأمل في مثل ذلك الجزاء. وقد تكون هذه الفائدة من الفوائد المرجوة التي لا تبلغ مبلغ الاستحالة في المعهود من شئون الناس بين طلاب الأدب وطلاب النبوغ ونباهة الشأن في شتى المساعي والأغراض. ولكننا نخطئ كذلك إذا انتظرنا منها أن تعطي الأمل وتعطي القدرة على تحقيقه في وقت واحد، بل نخطئ إذا انتظرنا منها أن تعطي الأمل على ثقة وبغير قيد ولا شرط كما يقال؛ فإن الجائزة نفسها مشروطة بشروطها التي لا يرضاها كل أديب ولو قدر عليها، فغاية ما يستفيده الأديب إذا أحس القدرة على إتقان فنه أن يبتدئ على شيء من الأمل لا يلقي عليه كل تعويله، ولا يستمد منه كل كفايته وصفوة ملكاته، وإنه لمبتدئ في طريقه - لا محالة - بما في سليقته من البواعث التي لا تنتظر تحقيق الآمال.
هذه فائدة تذكر للجوائز على عمومها ، ولكنها إذا انحصرت فيها جدوى الجوائز لم تكد تكون أهلا لما يبذل فيها من الجهد وما يدور حولها من الريب والشكوك، وما ينفق فيها من أوقات المحكمين والنقاد والمعلقين.
فجوائز الأدب والفن في الأمم الأوروبية والأمريكية أكثر من أن يحيط بها الإحصاء، توزعها الأكاديميات والجماعات الأدبية أو أصحاب الوصايا والتبرعات، ومنها ما يخصص للشعر، وما يخصص للرواية والمسرح، وما يخصص للمقالات والدراسات، وقد تبلغ مئات الجنيهات بحساب الجنيه قبل هبوط العملة في الزمن الأخير، وكل هذه الجوائز معروفة التاريخ يندر منها ما يرجع إلى ما قبل القرن التاسع عشر الذي عرفت فيه أوقات ظهور الكتب ونشأة الكتاب، فدلت المقارنة بين أعمال الفائزين بالجوائز قبل وجودها وبعد وجودها على أن الفرق بينها غير محسوس أو غير ذي بال، ولم يثبت أن أديبا أفادته الجائزة فائدة لم تكن ميسورة له بغيرها، بل لم يثبت أنها شملت بالموازنة والتشجيع طائفة الأدباء أجمعين؛ إذ كان الأكثرون منهم يحجمون عن التقدم إلى المحكمين حذرا من التفضيل والاعتراف بقضائهم بعد الاحتكام إليهم، ومن اعترف بهذا القضاء عاد فتمرد عليه، وجعل الخيبة بديلا من النجاح، يعلنه كأنه مفخرة من مفاخر التنويه المعكوس، ولا ينسى القراء فكاهة الحرد والنقمة التي أعلن بها الفيلوسف شوبنهور فخره بها والخيبة بعد تجربتها أيام الشباب؛ فإنه نشر رسالة في الأخلاق وكتب على غلافها (إنها لم تصادف قبولا من الجامعة) التي سماها، وكانت في الحق شهادة له على المحكمين وعلى الجائزة سقطت بها قيمتها وصرفت عنها المتنافسين عليها.
فلا نزاع في عجز هذه الجوائز عامة عن خلق العبقريات، وليس هناك كبير نزاع في قلة جدواها على العبقري الذي يقنع منها بشحذ الهمة واختصار الطريق.
أما الفائدة التي ثبتت لهذه الجوائز بغير نزاع، فهي فائدة الترويج ولفت الأنظار إلى الأثر الذي تأتيه الشهادة من الهيئات العالمية، وهي ولا ريب خليقة أن تشهد لما يستحق الشهادة بحسنة من الحسنات إن لم يكن مستحقا لها بأفضل الحسنات، وقد يكون في جملة شهاداتها المتعاقبة دليل على معالم الطريق في تطور الآداب من حقبة إلى حقبة، ومن ميدان إلى ميدان، وقد تبينت هذه الفائدة المحققة - فائدة الترويج ولفت الأنظار - في أعمال المغمورين أو أصحاب الشهرة المحدودة، كما تبينت في أعمال المشهورين أصحاب الصيت الذائع بين جوانب العالم المعمور. ومنهم من ظهرت لمؤلفاته طبعات منسوقة على نسق جديد بعد الإعراض عنها واستنفاد الثناء عليها لكثرة الترداد وآفة السآمة مما يتواتر الثناء عليه.
وأحسن ما في هذه الجوائز العالمية - بعد - أن اتصالها بالدولة في أية أمة، وعلى أي نوع من أنواع الحكم لا يخولها السيطرة على أقلام الأدباء فيما وراء بلادها، وقد يجعلها أحيانا تابعة لاتجاه الرأي العام إذا سمح لها أن تقف منه موقف التوجيه البعيد بين آونة وأخرى، ولا خطر منها على أية حال كالخطر الذي يخشى من جائزة تتحكم فيها سيطرة الحاكم المستبد؛ فإنها في هذه الحالة تضيف قيود الإغراء إلى قيود الطغيان، وتموه بطلاء الذهب سلاسل الحديد.
الإسبان المختارون
يقول الأستاذ آندرز أوسترلنج
Anders Osterling
أحد أعضاء اللجنة في الفصل الذي كتبه عن جوائز الأدب من كتاب (نوبل - الرجل وجوائزه):
لو أن أحدا أراد بعد النظر في أسماء المختارين للجائزة أن يتتبع نموذجا للتطور في الأدب العالمي خلال نصف القرن الماضي؛ لكان من العسير أن يجد أمامه نسقا مطردا للحركات الأدبية، وهو أمر لا يعود إلى غياب الأقطاب البارزين من أعلام الأدب وحسب، بل يعود كذلك إلى فقدان هذا النسق في الحركات الأدبية على المثال الذي تتبعه في آثار البحوث العلمية.
وهذا صحيح فيما يقال عن الآداب العالمية على إطلاقها؛ فليس هناك اطراد على نسق واحد في آداب الأمم، ولا في الخطة التي اتبعتها لجنة الجوائز عاما بعد عام لاختيار الموضوعات أو اختيار الممتازين في كتابة تلك الموضوعات، ولكننا ننتقل من الآفاق الواسعة التي تحيط بالآداب العالمية إلى آداب الأمم التي تكرر اختيار الممتازين من أدبائها، فلا يعسر علينا أن نرى هنالك معالم النسق المطرد الذي نبحث عنه في آفاق الآداب العالمية فلا نراه؛ إذ يكفي أن نسرد أسماء الفئة التي أصابها الاختيار من أدباء فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو أمريكا أو إسبانيا لنعلم على الأثر أن «تصنيف» أولئك الأدباء من كل أمة لم يكن من باب المصادفة، ولم يأت عفوا بغير نظر إلى جوانب الثقافة ومظاهر تمثيلها في تلك الأمة. وحسبنا على سبيل المثال أن نلم بالنماذج الأربعة التي تم اختيارها من أدباء اللغة الإسبانية - لغة خيمنيز موضوع هذا الكتاب - لنرى في الحق أنها نماذج ممثلة لجوانب أدبها في جوهره، وليست مجرد حالات فردية متفرقة لم يفكر من جمع بعضها إلى بعض على هذه الصورة في المقابلة بينها والنظر إلى فوارقها ومتشابهاتها، وإلى الصورة التامة التي تؤلفها في جملتها.
فقد اختارت اللجنة أربعة من الإسبان بين سنة 1904 وسنة 1956، كأنها اختارتهم في أربع سنوات متوالية لا تفرق بينها فجوة من السنين تزيد في مجموعها على الخمسين.
اختارت في سنة 1904 جوزي أشيجاري، ثم اختارت بعد نحو عشرين سنة نظيره ونقيضه (جاسنتو بينافنتي)، وهما إسبانيان من الأمة الأصيلة بالقارة الأوروبية، ثم نظرت بعد أكثر من عشرين سنة إلى الضفة الأخرى من عالم اللغة الإسبانية، فاختارت أديبة من أمريكا الجنوبية هي جابرييلا مسترال، وعادت بعد إحدى عشرة سنة، فاختارت الشاعر خيمنيز المولود في إسبانيا والمقيم بجزيرة (بويرتريكو) في بحار أمريكا الوسطى، وكل من هؤلاء الأربعة يمثل جانبا من جوانب العبقرية الإسبانية لا يمثله سائرهم، وهم جميعا يبرزون هذه العبقرية على أتمها، ولا ننسى منها نهضتها النسوية.
إن روح العبقرية الإسبانية لم تتجل قديما وحديثا في فن من فنون الأدب كما تجلت في المسرح والأغنية؛ فقد كان المسرح مرآتها التي تنظر فيها إلى أركان قوامها الاجتماعي من الكنيسة والقلعة والضيعة، أو مروج الريف بين غناه وفقره واتساعه وضيقه، فعلى جذور الدين تفرعت موسيقاها وتراتيلها وأنباء قديسيها وأبطالها، وما تداولته من كرامات الأولياء والشهداء، أو مفاخر الأبطال والعظماء، وتألف منه ذلك النسيج الديني والدنيوي الذي يتقارب فيه الفارس المجاهد والقديس المتبتل، ويؤمن به الصالحون ولا يكفر به العصاة، ولو جرت على ألسنتهم فلتات النقمة والتجديف.
وفي الأغنية يودع الشاعر ابتهاله إلى عالم الغيب والإيمان، وابتهاله إلى عالم الحس والعاطفة: قريب من قريب في لغة الفن وفي لغة الحياة، وقريب من قريب في هيام المؤمن بالمعبود، أو هيام العاشق بالمحبوب.
وقد بلغ ارتقاء الفنين أوجه في القرون الوسطى من أثر الثقافة العربية وأثر اليقظة القومية، وتمثلت عبقرية القصة والمسرح في أكبر أعلامها الخالدين أمثال: سرفانيتز، ولوب دي ڨيجا، وكلدرون. فتدفقوا بالفيض الزاخر من ألوان الرواية والملحمة كأنهم الظواهر الطبيعية التي تعطي من أعماق ينابيعها عطاء السيل الأتي والبحر المائج، ولا تتأتى به مع قيود الفن أناة الحوض والساقية، وتشابهت ملكات هؤلاء الأفذاذ وظواهر الطبيعة في نضجها وخشونتها، فلم يعوزها نضج الخامات الصالحة للبناء والتعمير، ولم تفارقها كذلك خشونتها التي تنتظر الصقل ولا بساطتها التي تنتظر التسوية والتنسيق.
أما الأغنية فهي الفن الشائع الذي لا تنفد ذخيرته بين سواد الأمة ولا بين الملأ من العلية والسادة، إذ يكاد كل فتى أن يشعر بفريضة العرف على فتوته وصباه، وأولها الغناء تحت نافذة الحبيبة والترتيل في مجامع الصلاة، ولا يخلو عصر متقدم أو متأخر من غناء يستطيبه أبناؤه وبناته، ولكنهم قد يرتضون الشائع المحفوظ في عصور النكسة والجمود، ويتطلعون إلى المبتكر المتجدد في عصور النهضة والطموح.
وبعد ثلاثة قرون غبرت على الأمة الإسبانية في سبات القرون الوسطى، تنبهت شيئا فشيئا على أصداء العالمين القديم والحديث بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، فلاحت فيها تباشير البعث والإحياء قبيل ختام القرن التاسع عشر، وأدركت ركب الحضارة بعد ذلك في إبان الحركة الجياشة التي شغلت أمم الغرب بين مقدمات الحرب العالمية الأولى ومعقباتها التي تلاحقت إلى أيام الحرب العالمية الثانية، وحدثت في هذه الأثناء ثورتها الأهلية التي تمثل في جانبيها المتنازعين كلا المعسكرين المتقابلين في العالم الإنساني: معسكر الديمقراطية الحرة، ومعسكر الحكم المطلق بصورته الإسبانية. وقلما أخذ الإسبان في تاريخهم العريق صورة من صور الحكم، فلم تصطبغ عندهم بصبغتها القومية التي تميزها من جاراتها في القارتين.
في إبان عصر البعث والإحياء نبغ المهندس الرياضي الشاعر الأديب (جوزي أشيجاري)، فتحول إلى الأدب بمفاجأة من تلك المفاجآت العجيبة التي تلازم أطوار النوابغ ذوي الشخصيات النادرة في أعقاب القرون الوسطى، وألف للمسرح وهو يناهز الأربعين، فتدفقت الدرامات من قلمه على تلك الوتيرة التقليدية التي عرف بها أسلافه سرفانتيز ودي ڨيجا وكلدرون، وامتلأت دراماته بالعجيج الصاخب والحركة المتداركة على غير مهل، وعجز المسرح عن ملاحقة التأليف بالتمثيل، فاكتفى منها بما تيسر له إبرازه وإخراجه وهو في طبقة المنسي المغمور.
كان مسرح أشيجاري هو مسرح كلدرون يعود إلى الحياة في أزياء القرن التاسع عشر، فلما استوفى حظه من الذكرى ومن البعث الجديد، جاء بعد أشيجاري نده الذي يضارعه في قوام المردة، ودفعة العمل، وغزارة المحصول. واستطاع هذا الند الحديث - جاسنتو بينافنتي - أن يملأ الفراغ الذي تركه سلفه القريب، ولما يكد يتوارى وراء الستار، ولكنه ملأه بمحصول غير ذلك المحصول، وعلى أسلوب غير ذلك الأسلوب. •••
كان فن أشيجاري كافيا لإحياء التراث الغابر، وإشباع رواد المسرح قبل انتقال المشكلات العصرية إلى ساحة المجتمع الإسباني مع طوارئ الحرب العظمى وأزمات المصنع والمزرعة ومضانك التموين والتمويل، فلما انتقلت إليها تلك المشكلات من وراء حدودها غلبت على مسرح الفن كما غلبت على مسرح الحياة، ولم يفتقد طلاب الفن ضجة الفروسية وصخب المفاجآت التي تخلقها «الملودرامة» من نسج الخيال وافتعال الحوادث؛ لأن مشكلات الصناعة والعمل، وكفاح الطبقات ونوبات النفوس المشدودة بين بقايا الماضي وبوادر الحاضر، قد شغلت الأذهان بما هو أملأ لها من القوارع المولية والشواغل المدبرة على مثال قوارع المسرح وشواغله أيام كلدرون، وأيام أشيجاري خليفته في ثوبه الحديث!
وإلى هذا العهد - عهد «الملودرامة» والأغنية التي تعيش إلى جانبها - كان العرف المسلم به بين قادة الفكر، والذوق أن (خط نصف النهار) في عالم اللغة الإسبانية يمر بمدريد، ولا يتحول عنها مع الذين تحولوا عن أرض الوطن الأصيل إلى أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية. فلما نهضت تلك الجاليات الأمريكية بأعبائها في العالم الجديد نبتت لها مشاكلها، وجاشت معها بواعثها، وظهرت فيها مدارس الأدب المستقلة جنبا إلى جنب مع مدارس التقليد والمحافظة على التراث الموروث، وأبى الإسباني النازح إلى عالمه الجديد أن يسلم لقرينه في الوطن بأصالة أصدق من أصالته، وغيرة أعمق من غيرته، وقدرة أوثق من قدرته على النهوض بأمانته القومية ورسالته الفنية، بل كاد الإسبان المقيمون أن يستروحوا أنفاس الحياة الجديدة في لغتهم، وأنفاس الحرية في دعوتهم الاجتماعية من ناحية إخوتهم الذاهبين مع الشمس وراء البحر الأطلسي، فاستمعوا لغنائهم واستجابوا لهتافهم. ولو قام في الغرب الإسباني مسرحه الذي يقابل مسرح كلدرون وأشيجاري لا تنقل إليه «خط الزوال» الذي علقه أبناء الوطن الأصيل بمدريد، ولكن المسرح الإسباني على ما يظهر نبات تسري جذوره في أرض الوطن ولا تهجره مع المهاجرين من أبنائه، فراحت الأغنية وحدها تسري بين الوطن القديم والوطن الجديد سريان الطير المهاجر بين العدوتين، وانتقل المغني والأغنية معا في طريق هذه الهجرة بعد الحرب الأهلية، فطاب هذا الاغتراب لأكثر من شاعر لا يطيق الوطن الأصيل، أو لا يطاق فيه.
وفي أمريكا الإسبانية ترددت الأغنية التي تعبر عن العبقرية الإسبانية في هذا الجو العالمي الفسيح، الذي لا يستوعبه التراث القديم، ولا يأبى الانطلاق مع دواعي الاستقلال، والمباراة في المجال العالمي حيثما اتصل بالغرب والشرق في الأمريكتين أو في القارة الأوروبية، وربما ترامت به الصلات العالمية إلى أطراف الصين وجزر البحار الشرقية حيث بقيت للغة الإسبانية بقية حية من عهود الكشف والاستعمار.
وأبلغ ما يكون الشعر تمثيلا لهذه الطلاقة العالمية؛ إذ تنشده امرأة باللغة التي لم يتعود أبناؤها أن يستمعوا صوتا للمرأة من صفحات كتاب. فلم يكن عجبا أن يشتهر النساء الشاعرات، ويبلغن من الشهرة ما لم يبلغه أندادهن الشاعرون، ولم يمض غير قليل على ظهور الباكورة الأولى من الشواعر الإسبانيات في أمريكا الجنوبية، حتى كانت أكبرهن وأنبغهن - جابرييلا مسترال - أشهر أعلام الأدب وأحبهن غناء إلى قراء لغتها، وقد نشأت في «شيلي» ولكنها لم تلبث بعد ذيوع ديوانها الأول أن نسبتها قرابة الأدب واللسان إلى كل أمة من أمم أمريكا اللاتينية، فدعاها المكسيكيون إلى زيارة بلادهم، ودعتها جامعة (بويرتريكو) للمحاضرة فيها وإلقاء أناشيدها على أسماع طلابها وطالباتها، وأتاحت لها الرحلة الطويلة خارج بلادها أن تمثل عبقرية قومها في أوسع آفاقها، وأن تحس ما حولها من مشكلات العصر الحديث في كل مجتمع تعيش فيه أو تسمع أخباره، فأصبحت بحق لسانا ناطقا بلواعج النفس الإسبانية كما ينبغي أن يهتف بها هاتف الشعر في القرن العشرين. وقد كانت جابرييلا - واسمها الأصيل لوسيلا - تقارب الستين حين خصتها لجنة نوبل بجائزتها عند نهاية الحرب العالمية الثانية (سنة 1945)، وكان اسمها وأغانيها يومئذ على كل لسان يترنم بلغة الإسبان.
وفي (بويرتريكو) التي نضجت فيها عبقرية الشاعرة بعد الأربعين ثبت (خط نصف النهار) حتى استمع العالم الإسباني منها إلى صوت شاعره الجديد، الذي كتب له أن يمثل العبقرية الإسبانية بعد غاشية الثورة السياسية والحرب الأهلية؛ إذ كان لا بد لها أن تثوب - ولو في جانب من جوانبها - إلى فترة من فترات العبرة والتأمل أو من فترات التعب والسكون، وفي أمثال هذه الفترات تحن النفوس حنين السآمة والانقباض من معارك الصراع ودوافع اللجاجة والنزاع، فينجم بينها من هنا وهناك من يهيب بها تارة أن ترجع إلى الله، أو ترجع إلى أحضان الطبيعة، أو ترجع إلى بساطة الفطرة وسلامة الطفولة، وكذلك حدث في المغرب يوم سئم الناس قوارع الحروب والغارات بعد القرون الوسطى فتنادوا بالعودة إلى الدين، ويوم سئموا قوارع الثورات الصناعية فتنادوا بالعودة إلى الطبيعية، ويوم سئموا أخيرا هذه النوازع المذهبية، وهذه الضلالة وراء الأهداف الكاذبة، فراحوا يتنادون ما استطاعوا إلى تقشف الزهد أو وداعة الطفولة أو براءة الأمن والسلام في ظلال الريف.
فقد اختلطت في العالم الإسباني مذاهب الأدب ومذاهب الدعوات الثورية بين الحربين العالميتين وتباعدت الشقة بين أطراف المذاهب، كما يحدث دائما لكل مجتمع محافظ عريق التقاليد والموروثات يصطدم فجاءة بقضايا العصر الجديد على نطاق واسع يمتد بين قارات العالمين القديم والجديد، فبرزت في اللغة الإسبانية دعوات المحافظين الذين لا يترخصون في نزع حجر واحد من بنائهم التالد المجلل بقداسة الدين والتاريخ، وقابلت فيه دعوات الهدم التي لا تريد أن تبقي على حجر واحد من ذلك البناء ولا من سواه. ومضت فترة ما بين الحربين في تجربة الثورات من كل طرف وتجربة الخيبة بعد كل ثورة، فرانت على النفوس فترة من الملل والحيرة توحي الشك في كل دعوة وفي كل داع وتزعزع الثقة بالنيات، كما تزعزع الثقة بالأعمال والأقوال، وغلب على أصحاب المزاج الوادع الطيب من الفنانين والشعراء حب النجاة من غوائل هذه الفتن إلى الملاذ الأمين من حياة البساطة، حيث تكون بساطة الإنسان الفطري، وبساطة الطفل البريء، وبساطة المحبة الصافية التي تشع بها أغاني الرعاة ونجوى الريفيين والريفيات. ولم يبرز هذا الملاذ الأمين صوتا أعذب ولا أصدق ولا أقرب إلى الرضا بالأمل والغبطة بالحنين من صوت خيمنيز شاعر اللغة الإسبانية الذي ولد في أرض الوطن، وهاجر إلى الغرب فاستقر زمنا، حيث يتوسط العالم الإسباني، وحيث أوشك «نصف النهار» في ذلك العالم أن ينقل خطه الأخير إلى هناك، متصلا بين أدب المرأة الإسبانية والأدب الريفي المشوق إلى ظلال الريف.
وفي هذه الفترة ينظر نقاد السويد الباحثون عن ضالتهم «الإنسانية» بين مشتجر المذاهب والدعوات، فلا يجدون لها مثالا أوفى بالشرط المطلوب من هذا المثال؛ لأنه أقربها جميعا إلى حظيرة السلام والأمل، ولأنه الجهة الرابعة في هيكل العبقرية الإسبانية قد تمت عندها جهاته الأربع: جهة المسرح الموروث، وجهة المسرح المتجدد، وهاتان - بعد - جهة الغناء من صميم المجتمع، وجهة الغناء من صميم الريف.
إن خيمنيز يتقن الفن وهو يدعو إلى الطبيعة، وينتمي إلى الوطن الأصيل وهو ينتقل إلى وطن الهجرة، ويتصل بالحاضر وهو لا ينقطع عن التاريخ، فهو عنوان لا يتخطاه القارئ الذي يعرض أمامه أدب قومه، ولن يعرضه أمامه إلا رأى مكانه ثمة خاليا بعد أشيجاري وبينافنتي وجابرييلا مسترال.
ونحسب أن الناقد الأدبي كيفما كان لا يملك أن يغفل عن جوانب النظر في أدب الأمة الواحدة ليستوفي تمثيلها وإنصاف ممثليها كلما التفت إليها، فإذا كانت اللجنة السويدية لا تملك أن تستوفي هذا التمثيل في أدب العالم الإسباني كله، فهي مسوقة إلى استيفاء تمثيل الأدب في كل أمة على حدة حين تراجع السابقين واللاحقين من مرشحيها للجائزة، فلا تكرر نفسها في تزكية مذهب واحد، ثم تهمل غيره، وهو معروض لها موافق لشرطها، ونحسب أن شأن الآداب السكسونية عندها كشأن الأدب اللاتيني في هذه الخصلة؛ فإن قائمتها الإنجليزية - مثلا - تشمل: الشاعر، والفيلسوف، والقصاص، وشاعر الدولة، وشاعر الجزيرة المستقلة، وناظم الشخوص الاجتماعية، وناظم الشخوص الفنية. وقائمتها الأمريكية تشمل: أديب الشمال، وأديب الجنوب، وأديب المسرح والدرام، وأديب القصة والمقال، كما تشمل الكاتب والكاتبة، ومن يختار بيئته في دياره، ومن يختارها من ديار المشرق الأقصى في اليابان والصين، ويقال مثل هذا عن أدباء الألمان والسكندنافيين، كما يقال عن أدباء الفرنسيين والطليان، وهكذا تئول الشروط العالمية في منح الجوائز إلى تمييز «القوميات» بأجزائها وجوانبها على قصد لا مناص منه، ولعلها لا تحقق صفة «العالمية» في تقديرها إلا بما تحاوله من الموازنة العامة بين القوميات التي تعنيها، حسبما تراءى لها من أسباب العناية.
الأدب الإسباني في وطنين
عرفت أسبانيا ظاهرتين كبيرتين من ظواهر الأدب في وطنه الأصيل وفي وطن الهجرة، وهو أمر نادر في تواريخ الآداب لعله لم يعرف على هذا النحو في غير البلاد الإسبانية.
إحدى هاتين الظاهرتين نعرفها نحن أبناء اللغة العربية لأنها تشمل آداب هذه اللغة في المغرب، ويحسبها بعض النقاد والمؤرخين شطرا من شطرين متعادلين يسمى أحدهما أدب المغرب، ويسمى الآخر أدب المشرق، وقد يقصدون بذلك إلى المقابلة بينهما في القيمة والغزارة، ولا يقصرون على تقسيم الموقع والمدة الزمنية.
أما الظاهرة الأخرى فهي هذه الظاهرة الحديثة، التي أصبحت أسبانيا فيها موطن الأدب الأصيل بعد انتقال المهاجرين منها إلى أوطانهم المختارة في أقطار أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية.
والمقابلة بين الظاهرتين تسفر عن تشابه قريب بين آثار الهجرة في الأدب العربي المنتقل إلى الأندلس، وآثار الهجرة في الأدب الأندلسي المنتقل إلى البلاد الأمريكية.
فالشعور بالانفصال من أصل عريق يحدث في نفوس الجاليات المنتقلة منه أثرين متلازمين يخيل إلينا عند النظرة الأولى أنهما متناقضان أو متعارضان، وإنما هما شيء واحد يستقبله النظر من ناحيتين.
إن أثر الشعور بالانفصال أن تختلف عوامل البيئة حتما واضطرارا، سواء أراد المنفصلون ذلك الاختلاف أم لم يريدوا، ولكنهم كلما اختلفوا زاد بهم الحنين إلى موطنهم الأصيل، والاعتزاز بماضيهم البعيد، وقد يبالغون في ذلك مبالغة المشفق من الضياع بين مصير الأدعياء الذين يقال عنهم إنهم تركوا أصولهم وتركتهم، ومصير اللصقاء الذين ينزلون بين قوم يرفضونهم ولا يرحبون بانتسابهم إليهم.
فالجاليات تنطلق من قيود العادات والتقاليد التي فارقتها، ولا تلبث أن ترى أنها تغيرت باختيارها، وعلى الرغم منها وأنها تستريح إلى هذا التغير أحيانا وتتبرم به أحيانا أخرى، ولكنها لا تنسى أصولها، ولا تزال تناظرها من بعيد مناظرة الند للند، والشريك للشريك، وتود لو أنها سبقتها في صيانة النسب، وزادت عليها بالنسب المكتسب، فلا يقال عنها إنها فرع منقطع عن أرومتها، بل يقال عنها إنها جذور الشجرة نبتت في التربة الجديدة، فجادت بالثمرة التي لا تجود بها في تربتها. •••
والذي حدث بعد انتقال الأدب العربي إلى وطن الهجرة في الأندلس أنه تأثر وأثر، وأن أثر الانتقال إلى أحوال المعيشة في الوطن الجديد ملحوظ في شعره ونثره وفي مبناه ومعناه.
فالأسلوب العربي - الأندلسي - أسهل وأبسط وأقرب إلى الترخص والسلاسة، كأنه وسط بين اللغة الفصيحة ولغة المعيشة اليومية؛ فإن الناطق بالعربية تعود بين المتكلمين بها من الغرباء عنها أن يقيس لغته إلى لغتهم، فلا يحس بالإسفاف والخطأ بالقياس إليهم، ولا يزال يرى في لهجته الشائعة أنها أفصح وأقوم من لهجاتهم، وأن لهجته الشائعة على إسفافها لا تزال مطلبا رفيعا فيما يحاوله الأعاجم من حكايتها وفهمها.
وقد سرت السهولة إلى أنماط البلاغة ومعانيها، فأصبح العربي والأندلسي أقرب إلى التصرف وإلى مجاراة أحوال المعيشة في وطن الهجرة، ولعل المسألة هنا مسألة استطاعة، لا مسألة روية ومشيئة؛ فإن المنقطع عن وطنه القديم لا يستطيع أن يحافظ على أحواله وأطوار معيشته، كما يستطيع ذلك أهلوه الذين يصبحون ويمسون بين تلك الأحوال والأطوار ، ولا يتكلفون جهدا ولا حركة في المحافظة عليها.
وقد ظهر أثر البيئة الطبيعية وأثر الحياة الاجتماعية معا في أعز الفنون على السليقة العربية وهو الشعر؛ فكثر فيه وصف البساتين والرياض وذكر الجداول والأنهار، وتوسع الشعراء في تعديد القوافي الذي بدأ في المشرق بالتسميط والازدواج، ولم يتوسع المشرقيون فيه لقلة الحاجة بينهم إلى الغناء المشترك والإيقاع على حركات الرقص في الحلقات الجامعة التي يشترك فيها المنشدون والمنشدات، فلم يترك الشاعر العربي الأندلسي قافيته التي انفردت بها القصيدة العربية، بل احتال على التوفيق بينها وبين تنويع الأدوار للمنشدين والمنشدات بالإكثار من مواضع القافية وتوزيعها على حسب مواضع الإعادة والترديد.
ووضح الفرق بين المحافظة ومجاراة البيئة والوقت في موضوعات الفكر والعلم، كما وضح في موضوعات الفن والأدب، فلم يعتصم ابن رشد - فيلسوف الأندلس الأكبر - باستقلال المحافظة أمام الحكمة اليونانية، ولم يحاول أن يلحقها على وجه من الوجوه بالحكمة المشرقية، بل كاد يكون في شرحه لفلسفة أرسطو ودفاعه عنها أشد حرصا على آراء الفيلسوف من الأوروبيين ورثة الثقافة اليونانية، ولعله كان حريا أن يعتدل في الدفاع عنها لو أنه أخذها من الغرب وتلقاها من مصادرها الأوروبية، ولكنه دافع عنها دفاع من يعلم أنها بضاعته جاء بها إلى الغرب، كما جاء إليه بثقافته العربية، فلم يشعر قبلها بعصبية الغربة والغرابة، التي تنبه في الذهن نزعة المقاومة والاعتراض، بل رأى المقاومة لها والاعتراض عليها من الغرب نفسه قبل أن يراهما من أبناء قومه، فلم يقف منها موقف زملائه المشرقيين، ولم يقابلها بالمحافظة أو بالنفور.
أما الأصول المقدسة في الوطن المهاجر فهي السند الدائم الذي يركن إليه النازحون من ديارهم إلى ديار الهجرة، وهي الذخيرة المضنون بها على التفريط والنسيان؛ لأن التفريط فيها أو نسيانها يسلك المهاجر الغريب مسلك الطريد المنبوذ من منبته، ولا يبلغ به أن يعد من الأصلاء المعرقين في بلاد الغربة التي استقر فيها، وقصاراه أن يكون في هذه البلاد دخيلا غاصبا يحتمي بالقوة أو ينطوي في غمار مجهول.
وآية الآيات على أن الملاذ الروحي هو وطن الأمة قبل الإقليم الجغرافي والتربة الأرضية أن حرص المهاجر على الأصول يتلخص في تراث الروح والعاطفة، ويشتد غاية اشتداده في هذه الأمور، ولا يبلغ مثل هذه الشدة يوما في الشئون المحلية وما يمكن أن يسمى بشئون الإقليم والمناخ.
وتلك هي الأصول التي صينت من الضياع في دار الهجرة العربية الأندلسية، فلم يكن وطن من الأوطان الشرقية أشد حرصا على عقائد الدين وأقوى غيرة على التراث الروحي من العرب الأندلسيين.
ولا يتبين ذلك من عمل الفرد، ولا من تشدده أو تسامحه في مسائل التحريم والتحليل، فربما كان الفرد الأندلسي أطوع لهواه وأسلس لغواية المتعة والطرب من أخيه في الموطن الأصيل، وإنما تتبين صيانة الأصول في العرف الاجتماعي، وفي الآداب العامة التي يتمثل بها قوام «الروح الوطنية»، وتتراءى فيها ملكة المحافظة على البقاء.
وأظهر علامات هذه المحافظة أن الأندلس لم تنتشر فيها بدعة من بدع المذاهب المتطرفة أو المنحرفة التي شاعت في بلاد المشرق وفي صميم البلاد العربية، فلم يزد عدد القائلين بهذه المذاهب على أفراد متفرقين يفهمونها لأنفسهم ولا يشيعونها بين جيرانهم، ولم تتجمع من أتباعها والقائلين بها طوائف كثيرة أو قليلة تحسب في عداد الفرق التي جاوزت السبعين فيما يقال بين أبناء البلاد الشرقية، وإنما تجمعت في المغرب من الأندلس إلى أفريقية الشمالية طوائف الموحدين والمرابطين ومن إليهم من الغلاة المتنطسين الذين استكثروا حرية الغزالي الفكرية، وهو في المشرق حرب على أدعياء الحرية في الدين.
وأصيب فلاسفة المغرب بما لم يصب به غير القليل من زملائهم المشرقيين، وكان للسياسة عملها فيما أصاب هؤلاء وهؤلاء، كما يحدث لكل حركة فكرية على اختلاف الأمم والأديان، ولكن أعداء الفلاسفة بين أمراء المغرب لم تعوزهم الذرائع التي يسوغون بها اضطهادهم ومصادرتهم، كما أعوزت الكثيرين من أمراء المشرق في حملاتهم على أصحاب المذاهب والبدع من الفقهاء، أو من المعتزلة والمتصوفة والمتكلمين وأبناء الطريق، فما كان في وسع هؤلاء الأمراء المشرقيين أن يخلقوا ذرائعهم لاضطهاد مخالفيهم في كل يوم، ولا في كل مناسبة ، وإنما كانت مناسبتهم الغالبة لتسويغ تلك الحملات فرصة من فرص الفتنة السياسية أو فرص التمرد والانقلاب، ويصعب عليهم فيما عدا ذلك أن يخلقوا ذرائع الاضطهاد لكثرة المذاهب والفرق، وصعوبة جمعها في زمرة دينية تجيز لولي الأمر أن يعاملها معاملة الخارجين على الدين.
ومما يلاحظ على مذاهب التصوف التي نشأت بالأندلس أنها لم تنشر كتابا واحدا من مراجعها الكبيرة في ربوع المغرب، وأن الصوفي الأكبر من أبناء المغرب - محيي الدين بن عربي - هجر المغرب إلى المشرق، وعلم أكثر تلاميذه بين الحواضر الشرقية، ولم ينتشر له في غير هذه الحواضر أتباع أو مفسرون.
وأحق من ذلك بالملاحظة في هذا الباب أن مذاهب أهل السنة أنفسهم لم تنتشر بين مسلمي المغرب كانتشارها بين مسلمي المشرق من تخوم الهند إلى تخوم وادي النيل، ولما اختار المغاربة مذهبهم بين مذاهب السنة الأربعة وقع اختيارهم الأول على مذهب أهل المدينة - مدينة الرسول - كما سمي المذهب المالكي عند قيام الإمام مالك بن أنس بتدريسه إلى جوار قبر الرسول، وكان من فضائل هذا المذهب عندهم أنه أقرب المذاهب مأخذا من السلف، وأكثرهم رواية عن بقية الصحابة في مدينة الرسول. وقد تمذهب به الخليفة عبد الرحمن الثاني على يد يحيى بن يحيى الملقب بحكيم الأندلس، وهو على مثال أستاذه الإمام مالك في المحافظة على سنن السلف والاعتماد على الكتاب والحديث، وقد قيل إن العصبية الأموية كان لها أثرها في الإعراض عن مذاهب الشيعة في المغرب، إلا من كان من المغاربة ثائرا على الأمويين، فإنه أقبل على الدعوة الفاطمية، وناصر خلفاءها وخرج باختياره على سلطان الأمويين، ولكن انتشار المذهب المالكي في المغرب لا يفسر بسبب آخر غير حب المحافظة على سنن السلف، وحب التبرك بالأثر المنقول عن مدينة الرسول؛ فقد كان الإمام مالك مواليا لآل علي، ولم يكن له ولاء معروف للدولة العباسية في المشرق، ولا للدولة الأموية في المغرب. وقد تتلمذ له - مع هذا - خليفتان عباسيان وهما : الأمين والمأمون، ودخل في مذهبه خلفاء بني أمية المحاربين للعلويين.
وقد ظهر في المغرب مذهب من مذاهب السنة كان له دعاته السابقون في المشرق، وهو المذهب الظاهري الذي تولى إمامته بالمغرب الفقيه الحكيم ابن حزم صاحب الدراسات الواسعة في الملل والنحل، ومذاهب السنة والشيعة، وسائر المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، ولكنه لما اختار له مذهبا يعلمه ويدافع عنه لم يرتض له سندا يقيم عليه مذهبه غير الأخذ بظاهر النصوص من آيات القرآن وأحاديث النبي عليه السلام، ولم يشأ أن «يتفلسف» في أمور الدين، وهو أعرف أبناء عصره بأقوال الفلاسفة والفقهاء. •••
ويلي العقائد والشعائر في حرماتها المقدسة عند النازلين بديار الهجرة حرمة اللغة وحرمة الأدب، الذي يحسب الفخر به فخرا بلغة الضاد والناطقين بالضاد، بين من لا ينطقون بها من أبناء اللغات.
وتكاد نزعات المحافظة جميعا تبدو للناظر في كتب الأندلس من صفحاتها الأولى؛ إذ لا تخلو هذه الصفحات من اسم المؤلف منسوبا إلى قبيلته وإلى بلده وإلى مذهبه، يتلوه التقديم الذي يوشك أن يكون وثيقة نسب وتعريفا بمصادر الأدب الذي تلقاه، وأسانيد الرواية التي عول عليها.
وليس في موسوعات الأدب المغربي من مرجع متداول في البلاد العربية اليوم أهم وأنفس من هذه الكتب الثلاثة: العقد الفريد لابن عبد ربه، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام، ونفح الطيب للمقري، وكلها مثل في المحافظة على صلة المغرب بالمشرق، أو مثل في المناظرة التي لا تخفي دلائل الفخر بالمحاكاة والمقابلة، ولسان حالها المفهوم من ثنايا السطور: إننا لمشرقيون هنا مثلكم أيها المشرقيون.
فكتاب ابن عبد ربه يروي تواريخ العربية وآدابها من عصر الجاهلية إلى العصر الذي عاش فيه، ويقتبس المؤلف أكثر ما رواه من أستاذيه: ابن مخلد، وابن عبد السلام القرطبيين، وكلاهما رحل إلى المشرق ولم يقنع بما وصل إليه من أدبه في مكتبات قرطبة، وهو كثير.
وقد وصلت نسخة من الكتاب إلى الصاحب بن عباد، فتصفحها ليطلع منها على أخبار المغرب، فطواها وهو يقول: «هذه بضاعتنا ردت إلينا.» لأنه وجد بين يديه كتابا قلما يذكر المغرب، إن ذكره، إلا كمن يذكره على السماع.
وكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» عرض لنوابغ الأدب من أبناء المغرب الذين يذكرون مع أندادهم ونظرائهم من المشرقيين، ولسان حاله - كما أسلفنا - أن للجزيرة الأندلسية نصيبا من فخر العربية جديرا بما سبق من فخر الجزيرتين: جزيرة العرب وجزيرة ما بين النهرين.
وكتاب «نفح الطيب» رحلة إلى البلاد الشرقية، تروي أخبار المغاربة الذين رحلوا مثل هذه الرحلة إلى مكة، أو القاهرة، أو دمشق، أو بغداد، أو حواضر الأدب العربي، حيث كانت من رقعة البلاد الإسلامية، ويكاد الأديب لا يذكر في هذه الموسوعة الكبيرة إلا لما ينتسب به إلى حاضرة من تلك الحواضر، وما قام به من حجة دينية، وحجة «أدبية لغوية» قلما تفترقان.
وكان من ديدن النقاد في المغرب أن يشبهوا كل شاعر من فحول شعرائهم بنظير له بين شعراء المشرق، فكان عندهم متنبي الأندلس، وبحتري الأندلس، ونواسي الأندلس. وكانوا يفخرون بالشاعر إذا بلغ من شهرته أن تروى له أبيات فيما وراء البحر من بلاد الناطقين بالضاد، كأنه قد أبرأ الذمة، وأقام حجة النجابة للبنين في موطن السلف الغابرين.
وإننا لندرك الشيء الكثير من بواعث الحركات الأدبية في الأمم ذات الوطنين، إذا رجعنا بها إلى مناط الفخر بالأصول عند المقيمين والمهاجرين بين عرب الشرق وعرب الأندلس والمغرب على العموم.
فليس مناط الفخر هنا بالمكان ولا بالسكان ولا بشيء مما يقع عليه العيان؛ فإن الفخر بمكان من الأمكنة لذاته أبعد ما يكون عن أمة نشأت على الرحلة بادية وحاضرة، في طلب المرعى أو في طلب الكسب والتجارة، وأمرها كتابها أن تسيح في الأرض، وعلمتها تجارب الفتوح والنقلة أن سعة المضطرب في ملك الله امتداد للوطن، وليست عقوقا له ولا خروجا منه إلى سواه.
والفخر بالسكان المقيمين في بلادهم أبعد شيء عن خواطر إخوانهم المهاجرين الذين ينتسبون مثلهم إلى أعراقهم وأصولهم، ويستمدون شرف النسبة كما يستمدها كل منتسب إلى تلك الأصول والأعراق.
فليس العربي الأندلسي مفاخرا بمكان تركه في المشرق، ولا بسكان تركهم فيه يعيشون معه في زمانه وينتمون إلى الشرف الذي ينتمي إليه، ولكنما الفخر عندهم جميعا «بوطن روحي» واحد ينتمي إليه بنوه بالضمير والفكر وبما يشرف الإنسان من وجدان ولسان، فإذا هم أعطوه حقه من القداسة والصيانة فلا جناح عليهم بعد ذلك أن يتنافسوا ويتناظروا، بل لا جناح عليهم أن يتنازعوا ويتنافروا، ويذهب كل منهم مع حاضر زمنه ومآلف سكنه، حيث طاب له الذهاب في أبعد مطاف وأوسع رحاب.
وكذلك صنع الأندلسيون في دواعي الجد واللهو من مطالب المعيشة اليومية، فتصرفوا بفنون النظم والغناء، وطوعوا الموشحة الفصيحة والزجل العامي على هوى المجلس والسامر الذي ألفوه في رحاب الوطن الجديد، واستطاعوا أن يبدعوا لتلك السوامر الراقصة وفاقها من المعاني الشعرية والأوزان المستحدثة، وتمموا المقابلة بينهم وبين أبناء الجزيرة في المشرق إلى أبعد غاياتها المعروفة عند ازدواج الفنون العربية والفنون الفارسية حول الحيرة وبلاد النهرين؛ فقد أخذ العرب من الفرس معازفهم وآلات موسيقاهم، ولكنهم لم يأخذوا منهم شعرهم ولا عروضهم، بل أعطوهم على نقيض ذلك أوزانا عربية، وبحورا من العروض العربي ينظمون فيها أشعارهم الفارسية ويقيسون عليها أغانيهم التي توقع على المعازف وأناشيدهم التي تنظم للتلاوة والإلقاء.
ومثل هذا قد حدث في الأندلس كلها وما جاورها بعد امتزاج الشعر العربي بفنون الرقص والموسيقى الإسبانية؛ فإن الأمة الوافدة أخذت من الأمة المقيمة مجالسها ومعازفها وعادات إنشادها ورقصها في الجماعة المشتركة من الجنسين، ولكنها أعطتها الأوزان والأعاريض، ويسرت لمن ينظم فيها بلغات الغرب ما لم يكن يسيرا أن ينظم في الكلام الموزون قبل ذاك.
ولم يكن فتح العرب للأندلس فاتحة مرحلة كبيرة في تاريخ الآداب العربية بالمغرب وحدها، بل كان على صورة أوضح من ذلك فاتحة المرحلة الأولى في آداب القومية الإسبانية منذ أقدم عهودها؛ فإنه لمما لا شك فيه أن هذا الفتح كان حدا واضح المعالم بين عهدين في حياة الإسبان الثقافية: أولهما سابق لفترة الفتح، ولم يكن فيه للأمة الإسبانية شيء يصح أن يطلق عليه اسم «الآداب الإسبانية» ولا سيما الآداب المقروءة أو الآداب التي أطلق عليها بعد ذلك اسم الفنون المهذبة
، والآخر لاحق بالدولة العربية تنسب إليه آثار النظم والنثر والرواية المسرحية والكتابة المهذبة، ويعتبر - على ما تقدم - أول مرحلة في تاريخ أمة موحدة تسمى بالأمة الإسبانية، فلم يكن لهذه الأمة قبل فتح العرب لغة عامة تتسع للتأليف والدراسة والآثار الفنية، وكانت لغة الكلام فيها موزعة بين لهجة قسطيل ولهجة الباسك ولهجات الأقاليم المتفرقة التي لم تبلغ قط أن تكون أداة ثقافة قومية. وقد دخلت اللاتينية إلى بلاد الإسبان بعد فتح الرومان، فتعلمها الخاصة ورجال الحكم، وسرت من ألسنة الجنود بلهجاتهم الدارجة إلى زوجاتهم وأولادهم، فامتزجت بتعبيرات العامة في كل لهجة من لهجات البلاد، وتولدت منها لغة هجينة لا هي باللاتينية ولا بالإسبانية، وظل الإسبان المتعلمون يرتضخون من اللاتينية الفصحى أسلوبا يتميزون به بين كتابها والناطقين بها يتندر به فصحاء اللاتين، فيصفه شيشرون باللوثة أو الجلافة
Aliquid
، ويسخرون منه كما يسخر أهل الحاضرة اليوم بمن يحاكيهم من أبناء الريف.
وجاء الفتح العربي في إبان الدور الذي بدأ فيه تطور اللغة الإسبانية، ووجدت فيه الثقافة التي يمكن أن تودع اللغة المكتوبة، وتنقل إليها المؤلفات التي كانت مقصورة على اللاتينية، وكلها من كتب الدين وما إليها، وقد تم هذا التطور كله بعد شيوع الثقافة العربية وسريان البحث فيها والاطلاع عليها بين طبقة المتعلمين وصفوة العلية من المرشحين لمناصب الحكم والرياسة. وليس أدل على مدى هذا الشيوع من أقوال الراضين عنه والمتبرمين به على السواء، ويكفي في مقامنا هذا أن ننقل منه رسالة الكاتب الإسباني الفارو التي أوردها (دوزي) في كتابه عن الإسلام الأندلسي حيث يقول: «إن أرباب الفطنة والذوق سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللاتينية وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها، وساء ذلك معاصرا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه، فأسف لذلك مر الأسف، وكتب يقول: إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم، ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرد عليها بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح، فأين اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم من يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ وا أسفاه! إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وأنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان، ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية، في حين يسمعون بالكتب المسيحية، فيأنفون من الإصغاء إليها محتجين بأنها شيء لا يستحق منهم مؤنة الالتفات، فيا للأسى! إن المسيحيين قد نسوا لغتهم، فلن تجد فيهم اليوم واحدا في كل ألف يكتب بها خطابا إلى صديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب! وقد ينظمون بها شعرا يفوق شعر العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء.»
ولقد كان شيوع التعليم بالعربية على هذا المدى الواسع سببا لإهمال اللاتينية والإغريقية، وخطوة لا بد منها لإحياء اللغات الشعبية وتداول الشعر والبلاغة والعلم من طريق غير طريق رجال الدين، ومن هذا الطريق سرت إلى لغة القوم أنماط النظم والتعبير، التي قال صاحب تلك الرسالة: إن متعلمي العربية كانوا يحتفلون بتجويدها احتفالا يفوقون به العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء.
ولا شك أن الثقافة الطارئة على البلاد كان لها أثرها الذي سرى إلى الأفكار والأذواق من طريق التأثير في مرافق المجتمع، وتبديل نظمه ومعاملاته، وتوزيع الأرزاق والمزايا الاجتماعية بين طوائفه وأفراده، وهو تأثير متشعب بعيد الغور صاحب تكوين الأمة الإسبانية في نشأتها الجديدة، فشوهدت له نتائجه في كل تغيير تتميز به الأمة الناشئة من أسلافها الأقدمين منذ خضوعهم للدولة الرومانية، وبعض هذا التغيير يتصل بالعقائد التي تركها الفاتحون لأهلها، وتركوها لوكلاء الكنيسة القائمين عليها.
قال صاحب كتاب العرب في التاريخ:
إن أسقف إشبيلية رأى من الضروري في الوقت نفسه أن يترجم الكتاب المقدس إلى العربية، ويضبط شروحه وتعليقاته بهذه اللغة، ولم يفعل ذلك للتبشير به بل لفائدة أتباعه، واشتغل كثير من المسيحيين بأعمال الدولة، ومنهم قساوسة كان أمراء بني أمية يرسلونهم للسفارات السياسية الهامة، وأطلق اسم المستعربين في هذه الفترة على المتكلمين بالعربية من المسيحيين، وقد عرف الداخلون منهم في الإسلام باسم المرتدين، وأطلق عليهم العرب اسم المولدين.
وقد كان عهد عبد الرحمن الثاني (822-852م) عهد سلم طويل بالقياس إلى غيره، وقد أعاد تنظيم الإدارة الحكومية في مملكة قرطبة على أسس الإدارة العباسية بأساليبها المكتبية وأنماطها في ترتيب الحاشية الملكية، وكان مشهورا برعايته للآداب، جلب إلى البلاد كثيرا من المصنفات، وكثيرا من المصنفين والمؤلفين المشرقيين، معززا بذلك صلة إسبانيا الإسبانية بثقافة الإسلام في المشرق. وكان من أشهر هؤلاء زرياب الموسيقي الفارسي الذي أقصاه عن بلاط هارون الرشيد ببغداد غيرة أستاذه منه، فوجد له ملاذا حسنا في بلاط قرطبة، وأصبح ثمة الحكم المسموع في شئون الذوق والزي، فأدخل إلى العاصمة الإسبانية طرائف كانت مجهولة فيها من أساليب الحضارة الشرقية تختلف بين ألحان الموسيقى والافتنان في طعام الهليون.
إلى أن قال عن عهد عبد الرحمن الثالث الذي تلقب بلقب الخلافة لأول مرة في المغرب:
وكان عهده عهد استقرار سياسي وأمن داخلي بينه وبين الأمراء الإقطاعيين وقبائل البربر الجبلية الذين أطاعوه وخضعوا لأمره، وضعف سلطان المشرق فنشأت في مكانه حضارة عربية إسبانية، اصطبغت فيها تقاليد الماضي بالصبغة المحلية، مع استمرار العلاقات التجارية وافتتاح العلاقات السياسية بين إسبانيا ودولة بيزنطة مما يدل على مكانة الدولة الأموية ...
وصحيح أن الأثر الباقي للعرب في البلاد الإسبانية أقل كثيرا من أثرهم في البلاد الفارسية، حيث بقيت معالم الحياة الفكرية والروحية عربية إلى عصرنا هذا، ولا تزال هذه المعالم لاتينية بين الإسبان. إلا أننا نرى - حتى من الكلمات التي تخلفت عن أدوات المعيشة - مبلغ دين البلاد للعرب في شئون الاقتصاد والاجتماع وشئون السياسة في بعض الأحوال، وإن تراث العرب في شئون الثقافة أيضا لجدير أن يعرف له أثره الجليل على إسبانيا وعلى سائر أنحاء أوروبة الغربية؛ فقد كان المسيحيون يفدون إلى إسبانيا من كل صوب ليتلقوا علومهم من الأساتذة العرب أو الإسرائيليين، وينقلوا تلك العلوم إلى اللغة اللاتينية. وقد عرف التراث الإغريقي لأول مرة من طريق لغة العرب واطلع عليه الغربيون بتلك اللغة، وكانت طليطلة التي أعيد فتحها (سنة 1085م) أكبر مركز للمعرفة انتقلت منه ثقافة العرب إلى العالم المسيحي، وبقي فيها كثير من علماء المسلمين، ولحق بهم اللاجئون اليهود من الجنوب الإسلامي الذي كان قد غلب عليه يومئذ ملوك الموحدين المتشددين ... وفي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر على عهد الملك ألفونس الحكيم والملك ليون (1252-1264م) دأبت مدارس الترجمة بطليطلة على نقل مؤلفات كثيرة تشتمل على كتاب القانون لأرسطو، وبعض كتب إقليدس، وبطليموس، وجالينوس، وبقراط مضافا إليها ثروة من شروح العرب وتعليقاتهم ...
وترك العرب طابعهم على بلاد الإسبان في خبرة الفلاحين والصناع وفي الألفاظ التي يصنعون بها أعمالهم، وفي الفن والعمارة والموسيقى والأدب، وفي العلوم والفلسفات التي شاعت بشبه الجزيرة وأرجاء المغرب أيام القرون الوسطى مما حفظه العرب، ونقلوه نقل الأمانة وزادوا عليه وتبسطوا فيه، وبقيت ذكريات الأندلس محفوظة بين العرب أنفسهم بعد رحيلهم عن شبه الجزيرة إلى إفريقية الشمالية، حيث يتسمى أناس منهم حتى اليوم بأسمائهم الأندلسية، ويعلقون مفاتيح بيوتهم في قرطبة وإشبيلية على جدران منازلهم بمراكش والدار البيضاء.
1
ومهما يكن من عناية الباحث بالناحية الأدبية، أو ناحية الشعر من فنون الأدب كله، فالحقيقة التي لا تجهل أن الشاعر يقتبس من وحي زمانه، وأن المجتمع الإسباني قد تمخضض عن عرف جديد بعد عصر الحضارة العربية غير ذلك العرف الذي توارثه القوم بضعة قرون متلاحقة لم تعقب بعدها أثرا باقيا من فنون المنظوم أو المنثور التي تحسب في عداد الآداب القومية.
ولا يفوت المؤرخ أن يذكر بين خصائص الأدب الذي ينسب إلى وطنين متباعدين خاصة مألوفة في كل ظاهرة من قبيلة تشوبها أهواء العصبية، ولا تخلص من الهوى في حالتي الإثبات والإنكار، ولكن هذا الهوى الخفي قد يكشف عن نفسه، فلا يكلف الناقد شيئا من العناء للشك فيه حين يتمادى إلى اللغو والهراء، فيزعم أن أدبا من الآداب ينفصل عن فعل الزمن بعد عدة قرون، فلا يبقى فيه ما ينسب إلى تلك القرون في صيغته ولا في موضوعاته ولا في معانيه، ومن هذا القبيل إنكار بعض الغلاة لكل فائدة خرج بها أدب الإسبان من مئات السنين في ظل الحضارة العربية، ولم يكن لها مثيل ولا أصل معروف قبل ورود تلك الحضارة على البلاد.
يقول الأستاذ (جب) في الفصل الذي كتبه عن الأدب من مجموعة التراث الإسلامي:
إن أول هذه القضايا أصعبها وأوفرها حظا من الخلاف والمناقضة؛ فهناك نموذج جديد من الشعر له مجال جديد ونزعات اجتماعية جديدة وفن جديد يظهر فجأة إلى الوجود في جنوب فرنسا عند نهاية القرن الحادي عشر، ولم يكن في شعر فرنسا قبل ذلك بادرة تتجه إلى هذه الوجهة، ولكنه من الناحية الأخرى على مشابه قوية من بعض نماذج الشعر العربي المعاصر في البلاد الإسبانية، فأي شيء أقرب إلى المعقول من الظن بأن شعراء پروڤنس الأوائل كانوا يقتدون بالنماذج العربية.
إن هذا الرأي كان يلقى القبول الذي لا يتعرض لغير القليل من المناقشة عدة قرون، وكان أشد مؤيديه ومقرريه جياميري باربييري في إبان النهضة السلفية (الكلاسيكية)، كما بسط في كتابه عن أصول الشعر الذي طبع سنة 1790، وكانت الأذهان لا تزال مشبعة بسحر الشرق حين اتجهت الأفكار عامة بقيادة سسموندي وفرييل إلى القول بالشبه القريب بين الشعر العربي وشعر پروڤنس، ولم يتغير هذا الاتجاه إلا بعد فترة حوالي منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ بدت بين المستشرقين ودعاة الأدب (الرومانتيكي) ومباحث اللغة التي تدور عليه حركة معارضة لذلك الرأي، وراح النقاد يطالبون أصحابه بالأسانيد التي تثبت الصلة بين پروڤنس والأندلس ولا يجدونها، فيذهبون إلى الطرف الآخر منكرين مفرطين في الإنكار، وإذا عزونا ذلك بغير نية سيئة إلى الحماسة الوطنية التي كانت تعم شعوب الغرب يومئذ، فمن العسير مع هذا أن نجد ناقدا (رومانتيكيا) يقدم على الدفاع عن فكرة التأثير العربي أمام آراء المستشرق المشهور دوزي الذي ينفيه ويسخر منه.
إلا أن الرأيين - على إفراطهما في الإثبات والنفي - لا يعتمدان في الحقيقة على سند غير مجرد التخمين ، فلم يأت من قبل البحث التحليلي الذي يجريه المستشرقون غير سند قليل، أو لا سند على الإطلاق. ولكن البينة الحديثة التي تبرز الآن إلى الضوء تذهب بعيدا إلى إزالة كل شك في وجود أثر محقق لشعر الجنوب على شعراء پروڤنس؛ فإن جدة شعرهم لا تظهر في موضوعاته، بل في الأساليب التقليدية التي يصاغ فيها. فليست هذه الحرارة النابضة تعبر عنها تلك اللهجة المصقولة الغنية بالأخيلة والصور شيئا مألوفا قبل ذلك في الأغاني الشائعة على سذاجتها واندفاعها؛ إذ هي نظرية عاطفية، ونحلة مجازية رومانتيكية، وعارض من داء النفس تمكن إثارته بالوسائل الفنية، ولا يجنح إلى الهيام بالبنت العذراء بل بالمرأة الزوجة التي يستمد الشاعر من رعايتها وخدمتها زادا يستوحيه ويسمو به ويعيش عليه، فمن أين جاء فن العشق هذا؟ ومن أي مصدر صدرت نحلة (السيدة) هذه بعد نحلة العذراء؟ إنها لم تصدر من تقاليد القوم كما تعرضها آدابهم، سواء أكانوا من التيوتون أم الرومان؛ فقد كان نساء القرون الوسطى - كما قال بروتنيير - يحنين الرءوس إلى أهون حضيض هبطن إليه تحت شريعة العسف والحيوانية، ولم يكن لتلك الرعاية أثر في عرف الفروسية التي كانت يومئذ آخذة في الظهور بين أبناء الطبقات العليا. فما كان هذا الحنين العاطفي على وفاق مع عقيدة الصولة والقتال، وما كانت هذه المثالية التي تتعلق بالأنثى المرأة إلا على نقيض المثالية التي تشيد بها الكنيسة حول البنت العذراء، ولو أنها نشأت من شغف الشاعر بسيدة القصر التي ترعاه لقد كانت خليقة أن تصاغ في قالب أقرب إلى التواضع والاستكانة، ولم يؤثر عن أدب اليونان واللاتين بين عصريهما الذهبي والفضي ما يحسب أساسا لمثل هذا الشعور، بيد أنه ولا شك مستمد من تقليد أدبي مقرر، وإن ذلك التقليد الأدبي لحقيق أن يبحث عنه على الأقل في شعر الأندلس العربية؛ إذ كان الشعر العربي في القرن الحادي عشر قد مضى عليه زمن طويل وهو ينمو ويتطور على تقاليده الموروثة، ومهما يكن من طول هذا الزمن، فما من عهد غبر عليه كان خلوا من نظم قوامه العشق والغزل.
وأقدم ما عرف منه شعر البادية بصوره المترددة في لغته المصقولة وتشبيهاته الدقيقة وأوزانه المركبة وقوافيه المحكمة؛ لأن اللغة العربية كانت أول لغة حرصت على القافية المتواترة التي لا تسمح بالخلل، وكانت كل قصيدة من قصائده تفتتح بالشكوى من فراق الحبيبة التي تتجدد ذكراها عند مشهد الأطلال في الربوع المهجورة، ولما انتقل الشعر من البادية إلى الحاضرة لازمته نغمة الغزل، وازدادت فيه توكيدا وتكرارا مع الصقل والتهذيب الذي أحل الرقة الملطفة محل المتاع الحسي الصريح في غزل الصحراء، ونشأت المقطوعة الغنائية التي يتحدث فيها الشاعر عن نفسه وعن عاطفته بعد القصيدة المطولة، ومضت بضع عشرات من السنين استنبط فيها الشعر العربي نبعا جديدا من الفكاهة وصدق الوصف لأحوال الحياة قبل أن تستقر المقطوعة الغنائية على أسلوبها وتقاليدها، وتولد منها في نظم شعراء القصور الملكية ضرب من الغزل واللهو الظريف، يشترك فيه النغم الموسيقي وطلاوة الصناعة لتحل محل البواعث النفسية القوية. أما جمهور الشعراء من سواد الأمة فقد استخدموا مقطوعة الغزل للتعبير عن هوى الشاعر المدنف الذي ذهب الحب العذري بلبه شوقا إلى حبيبة مثالية لا مطمع فيها، واستخدمها المتصوفة للتعبير عن معان أخرى من الحب الروحاني الرفيع رمزا لأشواق الروح وتقديسها للمحبوب، وغلبت نغمات الحب الحسي الجريء وأخيلته على شعر المتصوفة من العرب والفرس على السواء. وأحق أطوار هذا الشعر الغنائي بالتنويه نشوء أدب واضح المعالم حول الحب الأفلاطوني ممتزجا بالفكرة الاجتماعية الأخلاقية عن الحب التي هي حصة بلاد العرب من المساهمة في هذا الأدب.
وقد كان بعض شعراء القصور في بغداد في زمن لا يرجع إلى ما قبل القرن الثامن قد عكفوا على النظم في هذا الضرب من الغزل، ولم يكد ينقضي على ذلك قرن واحد، حتى كان شاعر فتى لم يعد سن الصبا الباكر يدون منظومات هذا الغزل في كتاب شائق سماه كتاب الزهرة، وقسم فيه ألوان الحب مع الشرح والتعليق، ذلك الفتى الشاعر هو ابن داود، ابن الرجل الذي أسس مدرسة من أشد مدارس الإسلام تزمتا وغيرة على الدين وخليفته على مدرسته، وقد فصل في الكتاب سجايا الحب وآدابه وأساليب التعبير عنه على هدى الحديث الذي أسنده إلى النبي، وفحواه أنه «من عشق فكتم فعف فمات فهو شهيد».
وإن وحدة الثقافة في العالم الإسلامي قمينة أن تنبت بذور هذا الضرب من الغزل كذلك في بلاد الإسبان، وإن كان قد تطور هنا على نحو آخر يلائم الامتزاج بين العناصر العربية والعناصر الإسبانية مع الحافز الدائم من الشعور بالصراع مع الدول المسيحية في الشمال، ولم يحدث قط في عصر من عصور الأدب العربي أن شاع بين جميع طوائف الناس ولع بالشعر كهذا الولع به بين ربوع الأندلس، ولا استعداد كهذا الاستعداد لتلقي وحي الجمال والقدرة على أدائه باللفظ الذي يجمع بين الأناقة وجيشان الشعور، ومن الشعراء المعروفين وغير المعروفين ممن نظموا في هذه المقاصد سعيد بن جودي الذي ذكره دوزي، وكان مثلا يحتذى فيما تقرر هنا أيضا من أدب الغزل العذري، وقد تحدث الناس بابن حزم، وسار بذكره المثل في الصلاح وشدة المراس، كما سار بذكره المثل في الغرب لاعتباره مؤسسا لبحوث المقارنة بين الأديان، وإن هذا الرجل مع هذا ليتصدى للكتابة في موضوع العشق، ويسوق الشواهد عليه من نظمه على نمط ينافس به كتاب الزهرة وقد يعلو عليه، وهو يتقبل مبدأ الحب الأفلاطوني، ويراه سببا من أسباب ائتلاف أجزاء النفس الموزعة وبلوغها مبلغ الوحدة الكاملة في الحياة الأرضية، ويبسط على هذه القاعدة من (الرومانتيكية) الصافية تحليلا للحب يعتبر من وجوه كثيرة أنه هو الحب الذي تغنى به الشاعر الجوال - التروبادور - في القرن التالي، وإن كان الشعراء الجوالون قلما ارتفعوا إلى أوجه في آفاقه المتوهجة.
ورأي الأستاذ جب في هذه المدرسة الغزلية التي انفردت بها آداب العرب هو الرأي الغالب بين فئة راجحة من المؤرخين المتخصصين لدراسة القرون الوسطى في أمم الغرب، ولا سيما الأمة الإسبانية، ومن أشهرهم وأوفرهم دراسة للأداب الإسباني الأستاذ جيرالد برينان
Brenan
صاحب كتاب آداب الأمة الإسبانية،
2
وفيه يقول عن هذا الرأي من فصل أفرده للعهد العربي:
إننا إذا طالعنا سير الشعراء العرب على عهد ملوك الطوائف وجدنا أنهم قد أتقنوا هذه الصناعة - صناعة المديح والهجاء - وأنهم كانوا لا يفتأون يتنقلون ولا يكفون عن التطواف - وهو قوام نحلة الشعراء الجوالين - لينزلوا بساحة هذا الأمير إن لم ينفحهم ذاك الأمير بالعطاء، وأي مأثرة من المآثر يحمدونها في قصيدهم؟ إنها مأثرة الكرم؛ إذ هي الصفة التي لا تتم بغيرها صفة الشجاعة، ولا صفة العزة، ولا صفة من صفات الإمارة، فلا غنى للأمير عن منح الهبات، وبهذه الهبات من الذهب والجوهر الذي كان يبذل للشعراء إجازة لهم وجزاء على مديحهم تتجاوب الأحاديث بين أرجاء الشرق بأسره. ونعود إلى الشعراء الجوالين، فنرى أن أشعارهم قد نشأت في ظروف جد قريبة من هذه الظروف بين قصور أمراء الإقطاع من فرنسا الجنوبية، فقد بطلت قبيل أواخر القرن الحادي عشر عادة ادخار الذهب والفصوص الكريمة والإنفاق من غلات الأرض، وخلفتها نزعة جديدة إلى البذخ والزهو بالحلل والأسلحة والأناشيد، وأصبح نظم الأبيات والمقطوعات من السنن المألوف المستحب إلى جانب الغرب الجنوبي من فرنسا، فظهر الشاعر الجوال في مكان المهرج الوضيع، وارتفع الشعر الأوروبي لأول مرة بعد عصر الإمبراطور أغسطس إلى منزلة اجتماعية ذات خطر يعسر علينا أن نشك فيما كان للمسلمين الإسبان من أثر فيه، فإنما كانت سيرتهم هي القدوة التي اقتدى بها أمراء الإقطاع.
إلا أن هناك فكرة أخرى تستقر في أساس أدب الشعراء الجوالين، وتتطور في شعر دانتي وبترارك، وترجع كذلك إلى مصدرها الإسلامي، وهي فكرة الحب المثالي الأفلاطوني، أو حب أهل السمت والرياسة، فكرة الحب كأنه طاعة وولاء خلافا لحب الأخذ والاستيلاء، وقد يدهش من يسمع بأن حبا كهذا ينجم من معدن الحياة الحسية التي تنسب إلى المسلمين؛ فإن إسفاف مستوى الدراسات العربية بأوروبة لم يهيئ أذهاننا لقبول فكرة كهذه الفكرة، ولكن الدراسات الأخيرة تعلمنا أنها حقيقة لا محل للشك فيها؛ إذ نقرأ - مثلا - عن شاعر قرطبي هام بجارية فتاة لم يبصرها غير لحظات معدودات، فأصبحت مصدر وحيه وإلهامه طوال أيام حياته، ووصف لنا ابن حزم هواه الأفلاطوني لفتاة رآها وهو بعد غلام صغير، فظلت صورتها تعاوده وتذكي قريحته سنوات عدة بعد ذلك، وشرح لنا في كتابه الذي ألفه سنة 1022 أمثلة من الحب الخاضع المستسلم الذي يعم الشعر العربي، كأنما المحب مجند في سبيل الجهاد لا إرادة له إلا أن يطيع، فكل واجبه أن يسلم زمامه لحبيبته ولها هي أن تعذبه وتذيقه الألم والموجدة، ويقول ابن اللبانة - مثلا - إن حبيبته كالسيف المصلت الذي يمزق فؤاده، وفؤاده مع هذا يفيض بحلاوة هواها والشوق إليها، وهذه النغمة المولعة بالألم تعم شعر القرن الحادي عشر أينما كان، فلا يزال المحب يخضع للتحكم والهوان من إعراض حبيبته حتى ليسقم وينحل أو يقضي نحبه كالشهيد، وعلى هذا النحو نقرأ لابن سهل اليهودي الذي دان بالإسلام وتوفي بإشبيلية (سنة 1251) أنه جمع بين ذلين لأنه يهودي وعاشق، وعلى هذا النحو نقرأ لابن زيدون قوله في الأميرة ولادة:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع
سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظه مني ولو بذلت
لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك لو حملت قلبي ما
لم تستطعه قلوب الناس يستطع
ته أحتمل، واستطل أصبر، وعز أهن
وول أقبل، وقل أسمع، ومر أطع
وهذه نظرة إلى الحب لا ترجع إلى أقوال الشعراء وقصص الغرام وحسب، بل تستند فوق ذلك إلى فلسفة مقررة شرحها في القرن العاشر فقيه من فقهاء بغداد، وبين في شرحه مزية الحب الأفلاطوني على حب الشهوة، وتلته طائفة من الأدباء أشادت بهذا الحب العذري - نسبة إلى قبيلة بني عذرة - ونظمت الشواهد لتصويره، وكانت حركتهم هذه على صلة بحركة التصوف التي سرت في العالم الإسلامي بدعوتها إلى الحب الشامل ونحلتها من النساك السياح في الأرض، وليس من العسير أن نفهم كيف تنتشر هذه النظرة إلى الحب في بلاد يحول فيها نظام الحجاب دون إباحة اللقاء بين الجنسين وإن كان حجابا لم يبلغ من الحرج في ذلك العصر ما يبلغه في الأزمنة الأخيرة، فلا يستطيع الرجل والمرأة أن يتلاقيا كما كان يستطيع ذلك جمهرة الرجال والنساء بين أمم الشمال، وإن هذه النظرة إلى الحب لتوافق مقاصد الشعر؛ لأن نظم الشعر وسيلة من وسائل المناجاة تنتهي بلقاء الوصال، فإذا ابتعدت فكرة الوصال قام بسريرة الشاعر هوى التغزل والمناجاة على البعد والجفاء، فإذا امتنع الأمل في لقاء الوصال كل الامتناع فقد يتسامى الحب إلى لون من الحب المقدس كذلك الحب الذي لهج به دانتي وبترارك. وعلى هذا يحق لنا أن نعتقد أن الحب على البعد كما سماه شاعر من أوائل الشعراء الجوالين، وكان ملاك الشعر الغنائي إلى أيام الشاعر دون
Donne
له أصل من الشرق، وسرى إلى پروڤنس فعلا من الأندلس الإسلامية. ولا بد أن نعرض لنوع آخر من شعر العرب الأندلسيين لم نذكره بعد، وذاك أن ابن بسام - صاحب تاريخ الأدب المؤلف في القرن الثاني عشر - يروي أن شاعرا ضريرا يسمى مقدم نشأ بجوار قرطبة، وعاش حوالي سنة (900م) كان أول من نظم الموشحة والزجل على غير اكتراث بلغة العامة - كما قال ابن بسام - فما هي هذه الموشحة؟ وما هو هذا الزجل؟
إن الموشحة - ومثلها الزجل - مقطوعات منظومة من مصاريع مقفاة قصار، على خلاف القصائد التي تنظم عادة من أعاريض طويلة، وتلاحظ فيها النبرات؛ لأنها تنظم للغناء وإن كانت كترانيم القديس أميروز تجري على أوزان القصيد، وهي تبتدئ بفاتحة تسمى المركز تتألف من سطرين أو ثلاثة أسطر مقفاة، وتتلوها مقطوعات تلتزم القافية في ثلاثة أسطر منها، ويأتي السطر الرابع على قافية المركز، وهو وزن تعودناه من المرددات الشعبية - الفولكلور - فهو وزن أغنية الحلقة أو الفرقة الراقصة ينشد قائدها المركز والخرجة، وتردد الفرقة سائر الأبيات؛ ومن ثم نعلم أن الشاعر مقدم لم يبتدع هذا النمط من النظم، وإنما عمد إلى أغنية الحلقة فصاغها صياغته الفنية وعممها واتفق ذلك في وقت له شأنه؛ إذ كانت الأندلس يومئذ تثور على حكم البلاط، ويشترك المسلمون والمسيحيون صفا واحدا في تلك الثورة، وينبغي أن نذكر أن اللغة العربية وإن كانت لغة البلاط، إلا أن اللغة الشائعة كانت مزيجا من اللهجات الإسبانية المتداولة المسماة بالرومانس، يتكلمها كثير من المسلمين في قرطبة، ويكون الشاعر الضرير إذن قد اشترك بشعره في ثورة وطنية موجهة إلى لغة الفاتحين، تشابه تلك التي حدثت قبل نصف قرن في بلاد الفرس.
وبعد أن قابل المؤلف الناقد بين أوزان الشعراء الجوالين وأوزان العرب، خلص إلى رأي يتوسط بين نسبة التطور كله إلى أثر الآداب العربية وبين إنكار كل أثر لهذه الآداب في مناهج أولئك الشعراء بما احتوته من معنى ومن صيغة لفظية؛ فنحن معه قد نبتعد عن الطرفين المتقابلين في بيان آثار الهجرة العربية إلى الأندلس: أولهما يتطوح مع الإنكار، ويكاد يزعم أن العرب لم يدخلوا ذلك الإقليم، أو دخلوه ولم يتغير بدخولهم كلام ولا عمل بين أهله، والآخر يحصر أسباب التغيير كلها فيما صنعه الفاتحون قاصدين أو على غير قصد منهم، فكلاهما غريب لا يعقل ولا يخفى ما فيه من هوى التحيز والانحراف، وإنما الرأي الصحيح هو الذي يستغرب أن تجري الأمور في غير مجراه. فلا بد من أثر ولا بد من صلة لهذا الأثر بالحضارة العربية مع انقطاع كل أثر سواه بالمصادر الأخرى، وما من شيء أقرب إلى طبيعة الأمور.
والرأي الذي لا غرابة فيه أن يكون العرب قد تأثروا بالبيئة الطبيعية التي انتقلوا إليها وأثروا في البيئة الاجتماعية، فلم تثبت على حالها التي وجدوها عليها، ولعلهم في هذه الظاهرة الإسبانية النادرة - ظاهرة الثقافة ذات الوطنين - نموذج صالح للقياس عليه، حينما تمثلت لنا المحافظة والتجديد جنبا إلى جنب في حركة واحدة من حركة واحدة من حركات الثقافة والحياة الفكرية. فهم محافظون متشددون كلما ارتبط الأمر بالأصول وخيف أن يحسب المنقطعون عن تلك الأصول منبوذين من موطنهم الأول دخلاء على موطنهم الجديد، وهم مجددون بعد ذلك فيما يختارونه أو لا يختارونه من مجاراة الأحوال الطبيعية حيث استقر بهم المقام جيلا بعد جيل، وقد يطيب لهم أن يسلكوا في تجديدهم مسلك المنافسة لإخوانهم الذين تركوهم وراءهم بموطنهم الأول، ما داموا ينظرون إليهم نظرة الند للند في انتسابهم إلى الأصل العريق.
وسنرى أن هذه الظاهرة تكررت على صورة قريبة من هذه الصورة، حين أصبح الإسبان أصحاب أدب مهاجر يناظر أدب الوطن العريق من وراء البحار.
نحو القرن العشرين
كان كل قطر من أقطار العالم في أواسط القرن التاسع عشر يستمع إلى دعوة من دعوات التغيير والتجديد، وكل دعوة من هذه الدعوات ترادف في مرماها الدعوة إلى مراجعة الماضي للانفصال عنه أو للعودة إليه، ولكنها على اختلاف تفهم أنها سائرة إلى مستقبل خير من الحاضر، وأنها لا ترضى عن بقاء الحاضر كما تراه.
واستمعت الأمة الإسبانية إلى هذه الدعوات، كما استمع إليها العالم الأوروبي من حولها، ولكنها لم تسر في حركة التجديد قدما بغير تردد - أو بقليل من التردد - كما سارت جاراتها من الأمم الأوروبية، وإنما كانت تسير إلى غدها، وتتلفت خطوة بعد خطوة إلى ماضيها لأن جذور الماضي في هذه الأمة أثبت في مكانها من جذوره في جاراتها، ولعلها ثبتت هذا الثبوت لأن هذه الأمة صنعت ماضيها قريبا، ولم تتطاول عليه العهود طبقة بعد طبقة حتى لحق بذمة الغيب المجهول.
كانت السلطة الدينية فيها أقوى وأوسع نطاقا من نظائرها في جميع بلاد القارة الأوروبية؛ لأنها من القوى القليلة التي احتشدت لمقاومة العقائد الغالبة التي تخالف المسيحية، ثم احتشدت لمقاومة المذاهب التي نشأت في المسيحية نفسها بعد عصر الإصلاح وعصر النهضة، ثم احتشدت لمقاومة العلوم الحديثة التي تصدى لنشرها أناس من غير رجال الدين.
وكانت السلطة السياسية تعتز باعتمادها على هذه السلطة الدينية، وتضيف إليها سلطان الدولة الإمبراطورية التي تبسط حكمها على ديارها وعلى ما وراء البحار من أقطارها، وتجمع بين يديها أعنة السيطرة المطلقة التي لا بد منها في أمة قلتية لاتينية جرمانية، تتنازع في داخلها ولا تتماسك بغير سلطان صارم يتغلب على عوامل التنازع بينها.
وكانت تقاليد المحكومين وعاداتهم أقوى من سلطان رجال الدين ورجال الدنيا سندا للماضي وإقرارا له وغيرة عليه، فلو أراد الحاكمون تغييرا إلى الغد منفصلا عن الأمس لحالت بينهم وبين ذلك إرادة المحكومين، ولا سيما المحكومين الذين تتجمع إرادتهم في الامتناع؛ فإنه يسير عليهم لا يكلفهم جهدا يعجزون عنه.
واتفق في أواسط القرن التاسع عشر أن الأمة الإسبانية منيت بحكم الأجنبي على أثر الثورة الفرنسية، فأصبحت دعوتها إلى الحرية شعورا وطنيا عارما تستطيع أن تذهب فيه إلى غاية مداه، ولكنها تحقق هذه الحرية، ثم تعود إلى استخدامها في تدبير أمورها، فلا تستغني عن رياضة الماضي على موافقتها، ولا ترى أن مقاومتها لسلطان التقاليد تسمح لها بتلك الحرية التي أعانتها على مقاومة السلطان الأجنبي، بل على مقاومة السلطان الوطني في حدود الدواوين والأنظمة الحكومية.
ولهذا حدث لبعض مفكريهم وقادة النهضة الأدبية بينهم أن يكون أحدهم على أشد ما يبلغه التطرف في الدعوة إلى الحرية، وهو مغترب عن بلاده منفيا أو متبرما بالحكم المستبد في وطنه، ثم يعود إلى الوطن ويأخذ في العمل، فينقلب من التطرف إلى المحافظة، ومن التغني بالأمل في المستقبل إلى الإشادة بالماضي وتجميله بصورة من صور الخيال وحلية من حلي الفخر والحماسة، وأشهر هؤلاء المتطرفين المنقلبين إلى المحافظة أنجيل سافدرا
Saavedra
المتوفى سنة 1865 بعد أن ارتقى إلى منصب الدوقية، وقضى سنواته الأخيرة يتغنى بمفاخر القرون الوسطى ومآثر حماة الكثلكة من ملوكها.
ومن الشعراء الذين ترددوا بين نزعات الحرية والتجديد وبين الحنين إلى مجد السلف أديب من الأدباء (الموسوعيين) في معارفه ومطالعاته، هو مانويل جوزيه كونتانا
Quintana
الذي هجر مبادئ التطرف بعد أن بلغ الستين، وعكف على إحياء الأساليب السلفية في شعره، كما جرى عليها شعراء القرن الثامن عشر، قبل أن يتحول الجيل الجديد من السلفية إلى الرومانية (المجازية)، ومن هذه الرومانية المترددة إلى السلفية الجديدة.
وليس بالقليل من أدباء الإسبان الناشئين بعد حروب نابليون من يثبت على تطرفه، ويتطوح بدعوته «الجديدة» إلى أقصى الشمال، ثم يتكشف هذا التطرف عن معارضة للسلطة الدينية، وإيمان بوجوب التفرقة بين هذه السلطة وسلطة الحكومة السياسية، دون أن يتحول عن الإيمان بالدين أو عن الإيمان بالأفكار الدينية التي يقوم بها المجتمع في بلاده؛ فهو ممن يطلق عليهم اسم «اللاكهنوتيين»
Anticlericals ، ولا يسمون باللادينيين أو الملحدين، وأغرب من هذه الطائفة أناس يحسبون أنفسهم من الملاحدة أو أصحاب المذاهب المادية، ولكنهم يصدقون ما يصدقه عامة الجهلاء ويتعوذون بالرقى والطلاسم التي يتعوذ بها العامة دفعا للشر والمرض، وجلبا للصحة والطالع السعيد. •••
وتظهر مجاذبة الماضي لأفكار المجددين من مدارسهم الفكرية التي يعلنونها، ولو لم تكن لها صبغة سياسية أو اجتماعية تتسم بسمات الثورة على نظم الحكم والتمرد على العرف القديم، ومنها مدارس أدبية تعلنها فئة من الشعراء والكتاب، ولا يفهمها شاعران أو كاتبان على وجه واحد، وقد يعلنها أمام المدرسة ويتبعه فيها تلاميذه ومريدوه، ثم ينقلب عليها وينكر انتسابه إليها، ولا يعرف الناقد من أعماله أين هو فيصل التفرقة بين أدبه، وهو يبشر بمذهب تلك المدرسة، وبين أدبه وهو ينحي عليه، ومن الأمثلة الكثيرة على التردد بين أنماط الشعر الغنائي - وهو الفن الإسباني الذي لا ينقطع في جيل من أجيال هذه الأمة - أن الشاعر جرمان بليبرج
Bleiberg
نشر أغانيه (في سنة 1936)، فاتخذه شعراء الجيل الناشئ بزعامة أشهرهم في نظم الموشحة (نييتو)
Nieto
رائدا للمدرسة السلفية الجديدة، وهي الهدف الذي صوب إليه بليبرج حملته العنيفة بعد صدور ذلك الديوان. ولم يلبث نييتو وزملاؤه أن اشتهروا تارة باسم الفرقة الزرقاء، وتارة باسم السلفية فوق الواقعية (السريالية)، وخالفوا أمثالهم من شعراء المدارس التي تحمل هذه العناوين في الأمم الأخرى.
وربما كانت ثورة إسبانيا الكبرى أصدق صورة للنفس الإسبانية في موقفها بين الماضي والحاضر، وبين روابط التاريخ وروابط الحياة العصرية؛ فإن هذه الثورة وصفت على حقيقتها حين سميت بالحرب الأهلية، وشاع عنها هذا الوصف بدلا من وصفها بالثورة أو الانقلاب، كما شاع عنها فترة من الزمن بعد انتشار أخبارها في الصحف العالمية؛ إذ كان النزاع الأكبر بين المتقاتلين فيها نزاعا بين القوميين والجمهوريين وكلاهما من أحزاب اليمين، ولم ينفرد الثائرون اليساريون في الطرف الآخر بقوة مستقلة تعتمد على أنصارها وحدهم لمقاومة خصومها، بل كان أكثر اليساريين متبرمين بالواقع غير منفصلين عن التراث القديم، وكان خروجهم على المجتمع أشبه شيء بخروج الإنسان من مكان ضيق ينقطع فيه عن موارد المعيشة، فهو أدنى أن يكون انتقالا من مسكن مكروه أو منزل وخيم، ولم ينجح أصحاب المبادئ الثورية في ضم المتبرمين إليهم؛ لأنهم أقنعوهم وحولوهم عن ماضيهم، ولكنهم نجحوا معهم لأنهم طلاب تغيير حيث كان، ومثل هذا الطلب يجيبه من يضيق بمكانه ولا يطيق الصبر على مقامه، ولو لم يفتح عينيه على مكان ينتقل إليه.
ولهذا يلاحظ أن الأدب المسمى بالأدب الموجه أو الأدب الهادف يفقد أنصاره من القائلين والمستمعين معا بعد الحرب الأهلية وبعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن محاولات التوفيق بين التراث الإسباني وبين مطالب الحياة الحديثة في كل وجهة من تلك الوجهات المتعددة لم تحقق أملا من الآمال، ولم تسفر عن يقين يؤمن به طلاب التغيير والتجديد، ويكاد الساخطون ينشدون الرضا اليوم في أحضان الطبيعة وفي وداعة الفطرة، وينظرون في ريب شديد إلى تلك «الطوبيات» التي يتصدى لقيادتهم إليها دعاة الخطط والأهداف.
وبينما تظهر هذه الأسماء والعناوين وتحتجب، وبينما يتفق عليها الدعاة ويختلفون، كانت النفس الإسبانية الكامنة في أعماقها تواصل الترجمة عن نفسها بنشيدها العريق، الذي تعيد وتبدئ فيه على نغمتين خالدتين؛ لأنهما نغمة الحب والعبادة، نغمة المناجاة والصلاة، أو نغمة الحياة والخلود، وكانت الموشحة الريفية - أداة هذا الفن المطبوع - تزدهر في إبان عصر الاضطراب والجيشان بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين؛ لأنه العصر الذي ابتعث كوامن الأمة من الأعماق، وقد سيقت شعوب الأقاليم خلال هذه الفترة إلى التآلف والاقتراب لاشتراكها في المحنة وفي المرافق الوطنية أمام السلطان الأجنبي والحوادث العالمية فاتصلت جليقية بقسطيلة، وانتقلت أغاني الريف بلهجتها الساذجة إلى الحاضرة الكبرى على يد شاعرة من الأقاليم أقامت في مدريد وفارقت موطنها، ولم يفارقها الحنين إليه ولا إلى ألحانه وموشحاته؛ لأن موشحات جليقية كما قالت: «كلها موسيقى، وخفاء، وشكاية، وتنهد، وابتسام لطيف.»
هذه الشاعرة روزاليا كاسترو ولدت سنة 1837 وتوفيت سنة 1885، وكان مولدها ببلدة سنتياجو دي كومبستلا من بلاد جليقية، ومقامها بمدريد أكثر أيامها من نشأتها إلى وفاتها، وقد ولدت أم نبيلة لم تتزوج، فدفعتها إلى امرأة فلاحة تربيها بين أسرتها الفقيرة بإشراف أمها، وقد نظمت الشعر باللهجة الجليقية وباللغة الإسبانية، فكانت حياتها كلها موافقات عجيبة للتقريب بين الأطراف المتقابلة والنقائض التي لا بد لها من التجاور والمصاحبة.
أخذت بزمام مولدها من بواكير عصر الثورة إلى إبان حومتها قبل مطلع القرن العشرين، وعرفت بنشأتها وتربيتها معيشة القصور ومعيشة الأكواخ، فاستطاعت أن تنصف الفقير المحروم دون أن تلوث سريرتها بعداوة الميسر المجدود، بل استطاعت أن تعرف تقاليد المجتمع كما تعرف خبايا النفاق فيه ومدارج الخروج على تقاليده وقيوده، وكانت - بما نظمته في لغة إقليمها ولغة الأمم الإسبانية في موطنها وديار هجرتها - صلة حية توافق دواعي الوحدة القومية التي نشطت مساعيها من مطلع القرن إلى ختامه، ومما لا ريب فيه أن مكانتها التي كسبتها بهذه الموافقات العجيبة كان لها شأنها في تعميم قدوتها بين بنات جنسها في الشعوب الإسبانية وراء البحار، كما كان لها هذا الشأن في تنبيه الأذهان إلى استماع صوت الفقير المحروم في أندية الأدب الرفيع والفن المهذب، فتفتحت الأسماع بعد شيوع دواوينها للإصغاء إلى نوابغ الشعراء من أبناء الفقراء وأواسط الموسرين من غير النبلاء. وقد نبغت على آثارها فئة من الشواعر في أمريكا الجنوبية نالت إحداهن جائزة نوبل كما تقدم، ونبغت بعد جيلها فئة من أبناء الطبقة الفقيرة التي ندر قبل ذلك أن تنجب شاعرا يقرأ له كلام في الصحف السيارة والكتب المنشورة، ومن هؤلاء فكتوريو كريمر
Cremer
الذي بدأ حياته ببيع الصحف في الطرقات، ومانولو بيلارز
الذي بدأ حياته عاملا في منجم، ومنهم جوزيه هييرو
Hierro ، وكارلوس سالمون
Salomon ، وجوليو ماروري
Maruri
الذين كدحوا لأنفسهم في طفولتهم وصباهم، وآخرهم ظاهرة نفسية اجتماعية غير نادرة في البيئة الإسبانية؛ لأنه اعتزل العالم وهو يناهز الخامسة والعشرين ليسكن إلى حياة النسك والرهبانية. •••
وعادت المسرحية الإسبانية إلى الازدهار مع الموشحة الريفية في حقبة واحدة، وكان ينبغي أن يزدهرا معا على هذا الاختلاف الظاهر بينهما في الأوضاع الفنية؛ لأنهما - على هذا الاختلاف - يستقيان من ينبوعين قريبين إن لم تقل إنهما ينبوع واحد، فالموشحة في إسبانيا وليدة الحب والعبادة، والمسرحية في إسبانيا وليدة البطولة والقداسة، وكلتاهما قريب من قريب في معدن النخوة والإعجاب.
ففي أواسط القرن التاسع عشر كثر الإقبال على مسرحيات بريتون دي لوس هيروروس
Herreros ، وأديلاردو لوبيز
Lopez ، ومانويل تمايو
Tamayo ، وتبعهم جوزيه أشيجاري صاحب جائزة نوبل سنة 1904، وبعد هذا الجيل بقليل خلفهم جيل آخر من طبقة الأخوين الفارس كوينتيرو
Alvarez Quintero ، وجاسنتو جرو
Grau ، ومارتيني سييرا، وجاسنتو بينافنتي
Benavente
صاحب الجائزة سنة 1922.
ثم غلبت روح المزح والسخرية في سياق النقد الاجتماعي على مسرحيات الجيل الناشئ قبيل الحرب العالمية الأولى من أمثال: إريات
Iriat ، وڤاليجو
Vallejo ، وفريل
Fraile ، والديكوا
Aldecoa ، وفرلزيو
Ferlosio ، وغيرهم من كتاب الفكاهة والنقد الاجتماعي اللاذع على أسلوب الصحيفة الأسبوعية المسماة بالحجلة
La Codorniz ، التي تقارب في طريقتها بعض صحفنا الناقدة بأسلوب المويلحي في فصول عيسى بن هشام ومساجلات الكشكول.
ولقد كانت المسرحيات الناقدة والمازحة جميعا إسبانية في الصميم حين تحولت بالدراما من البطولة والقداسة إلى العبث والسخرية؛ فقد أصاب من قال: إن الجليل والمضحك لا يفرق بينهما غير لفتة صغيرة، كأنها عثرة البطل الذي يروع الناظرين، ثم تطرحه أمامهم مطرح الضحك عثرة صغيرة تمرغه بالتراب.
ولم يكن كتاب الجيل الناشئ بعد مطلع القرن العشرين أول من نقل البطولة هذه النقلة، أو عثر بها هذه العثرة، فعرضها للسخرية واللهو بعد الإعجاب والمهابة؛ إذ كان سرفانتيز إسباني الإسبانيين حين شيع عهد البطولة والفروسية بتلك المرثاة الضاحكة، التي خلد بها فارسه المسكين دون كيشوت وخادمه الأمين سانكوبانزا، ولم يفعل نقاد الأجيال الأخيرة من أدباء الأمة الإسبانية غير ما فعله رائدهم الكبير في إحساسه بالفروسية بعد عثرتها، وفي تحوله بالإعجاب إلى الرحمة والرثاء من خلل الضحك والدعابة، ولم يغادر كتاب المسرح منذ أوائل القرن التاسع عشر حومة البطولة والفروسية، حين أقاموا قواعد النقد الاجتماعي على السخرية من أدعياء الوجاهة والرياسة؛ لأنهم أبطال مدعون وفرسان مزيفون؛ فإن الذي يسخر من الفارس المزيف يعجب بالفارس الصادق والبطل الصحيح. •••
على هذا النحو يتغير أدب الأمة المتوطنة من أثر اختلاف الزمن، يتغير التعبير ولا يتغير فحواه أو معناه الذي يراد التعبير عنه، وقد يكون هذا التغيير شبيها بالتشكل الذي يمر به الكائن الحي من طور إلى طور، وهو هو الكائن الحي بذاته وفصيلته في جميع أطواره، وكأنه مادة في داخل القالب تتغير، ولا يتغير القالب المحيط بها ولا قوام المادة التي يحتويها.
وعلى هذا النحو أيضا يتغير أدب الأمة المهاجرة من أثر اختلاف المكان، فيبقى على أصوله التي ترتبط بأصول الأمة ولا تحب هذه الأمة أن تغيره، بل لا تستطيع له تغييرا بمحض مشيئتها، وإنما يطرأ التغيير على كل ما له علاقة بأحوال المعيشة في ديار الهجرة، فلا يختلف الإسباني في العالم العصري من سائر أبناء الأمم المعاصرين له إلا لسبب واحد، وهو اختلاف ماضيهم مع اتفاق الحاضر بينهم على جملته، ولولا أن الماضي شيء لا يزول لما اختلفت آداب الأمم في عصر واحد. •••
إن أدباء اللغة الإسبانية في ديار الهجرة بالعالم الجديد قد أعلنوا في برامجهم منذ أوائل القرن التاسع عشر أنهم يريدون الانفصال في الحكم وفي التوجيه الفكري، ولكنهم لا يريدون الانفصال عن التاريخ ولا عن ميراث الأسلاف، وجمعوا شعارهم في كلمتين هما: الاستقلال والتراث، فذهبوا يحققون استقلالهم الفكري بالاتجاه إلى كل وجهة مع تيارات الثقافة في أرجاء العالمين القديم والجديد، وصدر البيان الأول لشاعر (فنزويلا) الأشهر من لندن في سنة 1823 باللغة الإسبانية (Alacvcion a la Poesia) ، ولكن هذا الشاعر قضى حياته مقبلا على دراسته الخاصة في نحو اللغة الإسبانية على أصوله العريقة، بعد إعلانه في ذلك البيان أنه نداء الاستقلال للشعراء، إلى جانب استقلال الرعية عن رعاتها الأولين في مدريد، ونظر الأدباء في أمريكا الجنوبية إلى أكثر من قبلة واحدة في مبدعات النظم والنثر، فكان منهم من يعتبر الأمريكيين في الشمال زملاء لهم في حركة الاستقلال لأنهم سبقوهم إلى المطالبة بالانفصال من حكم القارة الأوروبية، كما سبقوهم إلى المطالبة بحرية التوجيه والابتكار، وكان منهم آخرون يميلون بقبلتهم إلى باريس لأنها ثائرة مثلهم على الإمبراطورية داعية مثلهم إلى الجمهورية مشتركة معهم في السليقة اللاتينية، بل اشتركت الأمة الإسبانية في موطنها الأصيل مع أبنائها المهاجرين إلى الغرب في موقف واحد إزاء السلطة الحاكمة، فنظرت إلى المجددين الأمريكيين نظرتها إلى شركاء في الثورة أتيحت لهم الفرصة التي تتمنى هي أن تتاح لها، ولم تنظر إليهم نظرتها إلى الخارجين عليها والمنشقين عنها، ومما يعين القارئ على جلاء هذا الموقف المتراوح بين الانفصال والاتصال أن شعوب أمريكا الجنوبية لم تحجم عن إيفاد الوفود منها إلى مدريد للاشتراك في ذكرى كولمبس، واختار بعضها مندوبين عنها يجمعون بين تمثيل الدولة وتمثيل الثقافة القومية، فكان روبين داريو
Ruben Dario
أشهر شعراء نيكارجوا وبيرو وشلي وجواتيمالا مندوب وطنه نيكارجوا في احتفال الذكرى، ووصل إلى العاصمة سنة 1892، ثم عاد إليها بعد ست سنوات، فإذا هو قد أصبح أمام مدرسة من أكبر مدارسها ينتمي إليها أنامونو ومشادو
Machado
وخيمنيز الذي تكتب عنه هذه الرسالة. •••
ولم تمض بعد استقلال الإسبان الأمريكيين فترة طويلة أو قصيرة خلت من معارك المنافسة بين الموطن الأصيل وموطن الهجرة في نطاق الجامعة الواحدة، وأشهرها تلك المعركة التي دارت حول «الجغرافية الفكرية» التي يحددون بها خط منتصف النهار عند مدريد وبرشلونة، أو عند البحر الكريبي وما يليه إلى المغرب، يقول كاباريللو
Cabarello
في الغازيتة الأدبية
Gaceta Literaria
إنه لا يبتعد عن مدريد، وتقول صحيفة مارتن فييرو
Martin Fierro
في الجمهورية الفضية ما فحواه أنها جغرافية قديمة وخريطة تحتاج إلى التنقيح في خطوط طولها وعرضها.
وقد يتغنى الشاعر في (بوليڤيا) بوطنه الجديد، فيذكر بوليڤار وواشنطون في شطر واحد، كما صنع أوتيرو ريش
Otiero Reich
في قصيدته الطويلة التي سماها «أمريكا»، ولم يصفها بالجنوبية ولا الشمالية.
لكن الحرب الأهلية في إسبانيا وسعت نطاق الجامعة الفكرية بمقدار ما ضيقت من حدود الأوطان السياسية؛ لأن ديار الهجرة رحبت بأدباء الوطن الأصيل الذين قذفت بهم حماستهم الوطنية من ديارهم، أو برمت نفوسهم بالمقام في تلك الديار لاضطرابها بزعازع السياسة والفتن الداخلية، فكانت حماستهم لوطنهم تلازمهم في ديار الهجرة التي اتسعت لآرائهم، ولم تضق بحماستهم الفكرية أو الروحية، وانطلقت أصداء بابل على اختلاطها في ميادين الأدب الهادف، أو الأدب الموجه كما يسميه أنصاره من دعاة اليسار أو اليمين ، وكان اختلاط هذه الأصداء على أشدها في أوطان الجامعة الإسبانية بين المشرق والمغرب، ولعلها اشتدت في تلك الأوطان هذا الاشتداد لما طبع عليه أهلها من الاستجابة السريعة لدوافع الشعور وثورات الطموح والرجاء، ولكنه لم تلبث أن بلغت غايتها من الحدة، ولم تبلغ غايتها من أهدافها الاجتماعية أو السياسية، فتراجعت إلى القرار الوحيد الذي تستقر عنده النفس الإسبانية إذا أعياها المخرج من القلق إلى عمل مستطاع أو أمل ناجح، وذاك هو ملاذ الطمأنينة الخالد حيث تسكن إلى أحضان الطبيعة وأحضان الأسرة وبراءة الفطرة والطفولة.
وقد بقيت الأغنية هي الأغنية بما تردده على الدوام من نغمات المناجاة أو الصلاة، ولكن الموضع الذي خلا بانهيار الأمثلة العليا التي تخيلها طلاب الأهداف الاجتماعية قد شغله الحنين إلى عالم آخر غير عالم الصناعة والفلسفة الاقتصادية، وهو عالم الإنسان الطفل في مهد الطبيعة أو الإنسان الطفل في مهد الأمومة، ولا بد للنفس البشرية من حنين إلى قرار تسمو إليه أو تستريح إليه حيث كان، فإن لم يكن حنينا إلى رجاء تبلغه بالصراع والجهاد، فهو حنين الدعة الذي تبلغه حين تقتدي بالإنسان الوديع في حضن الطبيعة أو بالإنسان الوديع في بواكير الطفولة.
ومما يلفت النظر أن خيبة الرجاء في الأدب الهادف قد شغلت مكان هذا الرجاء في بلاد اللغة الإسبانية جميعا بالحنين إلى الريف أو الحنين إلى الحياة الطيبة في ظل الطفولة، وقد يصادف القارئ ذلك الحنين إلى البراءة من ضوضاء الحياة المصنوعة، أو الحياة الصناعية حيث ينتظر الحنين والحنان في تعبيرات العاطفة ونفحات الشعر والبلاغة، فلا يصادفه بما يلفت النظر؛ لأنه حديث منتظر في مواضعه ومناسباته، ولكنه يعجب حتى تصادفه لفتات الكاتب إلى أيام الطفولة، أو إلى الحديث عن الطفل وعن الريف ومروجه ومراعيه بين فصول القصة وبين غضون المقالة في غير مناسبة تستوجبها وتستطرد إليها، كأنما يملأ بها الكاتب مكانا خاويا ليس في وسعه أن يتركه على خوائه، ولا أن يملأه بتلك الأهداف المعبودة التي تحطمت كما يتحطم الصنم المنبوذ في محرابه المهجور.
ومن الصعب بعد الحرب الأهلية والحرب العالمية أن نفرد الأدب الإسباني بعنوان واحد أصدق من عنوان «أدب الفطرة»، بما تشتمل عليه من فطرة الطبيعة وفطرة الطفولة، فهذا هو الموضوع الذي يأخذ بقسطه الشائع في قصائد كل شاعر وفصول كل ناثر، ولكنه يوشك أن يستأثر بالشعر كله وبالكتابة كلها في أدب خيمينز بين مقامه بموطنه الأول ومقامه بديار الهجرة، فهو أديب الريف والطفولة غير مدافع، وهو إمام هذه المدرسة بين أبناء قومه، ولا جرم يحسبه النقاد إمامها بين سائر الأقوام من أمم الغرب في العصر الحديث؛ لأن الموضوع «أندلسي إسباني» حيث ينتمي إلى أقرب مواطنه إليه.
چوان رامون خيمنيز1
يقول الشاعر الكوبي الحديث سنتيو فيتير
Cintio Vitier
عن خيمنيز: «إنه أبونا الشعري: أبونا في الأدب الذي فتح لنا أبواب الحياة الحقة، وأرانا الريف وخلائقه الطالعة من ضباب فجرها الأصيل، وسمى لنا الأشياء بأسمائها، ووضعها في أيدينا المتلهفة المرتجفة، تلك الأشياء في أصباغها الطيفية، حزينة أو سعيدة بكونها في هذه الدنيا كما هي كائنة ... فإذا كان داريو قد صنع لنا لغة من ذهب فقد صنع لنا خيمنيز لغة من ضياء.»
هذه مكانة «للشاعر الأب» توليها إياه أذهان المعجبين به، كما تمحضها له قلوب المحبين الشاكرين له من تلاميذه ومريديه، وقد يزاحمه في هذه المكانة جهابذة من أدباء عصره، وشعراء جيله يضارعونه في العلم والبلاغة ويفوقونه في الأثر والشهرة، ولكن تاريخ الأدب الإسباني الحديث لم يعرف أحدا يزاحمه في المكانة الأبوية التي جاءته من فيض الود، ولم يطلبها بسعيه واختياره؛ لأنه لم يكن يعلم أحدا غير ما تعلمه واستفاده وبدا فيه لتلاميذه كأنه التلميذ الأول الذي يردد لنفسه ما يسرهم أن يرددوه، وإن لم يسألهم ترديده ولم يدعهم إليه إذا خالفوه.
أبوة أدبية أو أستاذية فنية نالها من تلاميذه؛ لأنهم شاركوه كما شاركهم في دروسها الطيعة التي سبقهم إلى اقتباسها بخبرته واجتهاده، ولم يسلمها إليهم إلا كما يتسلم التلاميذ في حلقة المذاكرة توفيقات زميلهم السابق الذي يحسبون نجاحه من نجاحهم، ويضيفون اجتهاده إلى اجتهادهم، ولو قالوا إنه أخ لهم يحل منهم محل الأب المحبوب باختيارهم وعطفهم لما جاوزوا الصواب.
فالأستاذ الأب أو الأستاذ الأخ قد نشأ في عهد المدارس المتعددة، وكان تلميذا لكل مدرسة منها في أوانها، ثم شفعت له المشاركة في التجربة بعد التجربة عند الناشئين الذين سبقهم قليلا إلى معاناتها فأعفاهم من أكثر العناء وأقنعهم لأنه سلم قبلهم للتجربة الغالية فلم يحسبوا أنهم يسلمون له بهداية لم يشتركوا فيها، وكلهم - صفا بعد صف - متلاحقون في التقدم وفي التسليم.
ونحن لم نقرأ للشاعر الناقد كتابا كاملا غير كتابه عن بلاتيرو الذي اقتبسنا منه طرفا صالحا في الصفحات التالية، فكل ما قرأناه له مقصور على المختارات المترجمة له إلى اللغة الإنجليزية، وجملتها لا تزيد على كتاب واحد معتدل الصفحات، ولكننا نحس ونحن ننتقل من إحدى قصائده إلى الأخرى، ومن إحدى مقالاته إلى المقالة التي تليها أننا ننتقل بين الجهات الأربع في غير اتجاه واحد إلى اليمين أو إلى اليسار وإلى الأمام أو إلى الوراء. فلولا الوحدة الروحية التي تتشابه في أساليبه على تنوعها وتبدلها لخطر لنا أن المجموعة خليط من المختارات لأشتات من الشعراء والأدباء، وربما سرت في الأساليب المتعددة روح أخرى تلحقها بوحدة فنية مشتركة غير الوحدة التي تحافظ عليها سليقة الشاعر في أدوار حياته وفي تجارب فكره وقلمه؛ فإن روح العصر الحديث أظهر في جملة منظوماته ومنثوراته من أن يختلط بأساليب الشعر والنثر في عصر آخر من عصور الآداب الإسبانية أو الآداب الأوروبية على عمومها، ولكن الاختلاف بين الأساليب - بعد ما يشملها من تشابه السليقة وتشابه العصر - وشيك أن يفرقها بين الجهات الأربع ولو في مكان محدود. •••
وقد تعددت مناهج الشاعر الناثر ومدارسه القلمية على قدر تعدد مطالعاته في الآداب المأثورة بين أبناء زمنه، وقد كانت له مطالعات تكثر كلما اقتربت من العصر الذي عاش فيه. فربما كان محصوله من المطالعات السلفية من تراث اليونان واللاتين وأدباء القرون الوسطى أقل من المألوف بين جلة الأدباء القراء في جيله، ولكنه كان أوفر محصولا من أدب القرن السابع عشر بعد عصر النهضة وفي مقدمته أدب شكسبير، وكان محصوله من أدب القرن التاسع عشر في القارة الأوروبية برمتها أوفر من كل محصول تجمع له من بقايا القرون الغابرة. فاطلع على آداب المدارس الفرنسية المعاصرة وآداب الأمريكتين في لغاتها المختلفة، ولم يفته الاطلاع على أدب تاجور وبعض المترجمات عن المأثورات الأسيوية، وجمعت بينه وبين الشاعر الهندي قرابة نفسية لا تخفى على من يقرأ الشاعرين في وقت واحد، فإنهما زميلان في مدرسة التصوف الحديث وإن يكن تصوف تاجور أقرب إلى الروح وقداسة الدين، وتصوف خيمنيز أقرب إلى الذوق وجمال الفن والسكون إلى جوار الطبيعة، ولكنهما مدرسة واحدة في خليقة الطيبة والدماثة التي يتسم بها المتصوفة من كل قبيل.
وكانت هذه الدماثة في روح الشاعر أشبه شيء بخاصة السلاسة التي تجعل الجسم الطبيعي مطواعا للتشكل بشكل الوعاء الذي يحتويه، وكأنها كانت في أثرها المزدوج سر تلك السهولة أراحته من مقاومته للناس ومن مقاومة الناس إياه، فلم يكن من طبيعة أدبه أن يقاوم المخالفين أو يثير المقاومة من جانبهم، وقمين بهذه السلاسة أن تقترن في النظر بملامح السلامة والسلام.
إلا أنه على كثرة المناهج القلمية التي انتسب إليها، وهو يتطور بفكره من صباه الباكر إلى كهولته لم يولع بمنهج منها، كما أولع بالمنهجين الغالبين عليه لاقترابهما من سجيته واستعداده، وهما مدرسة التنميق التي تتلمذ فيها على أدب: وليام باتر الإنجليزي، وجوتييه الفرنسي، ومدرسة المحدثين المتأخرين التي مزج فيها بين الرمزية وما فوق الواقعية
Surrealism ، وتطرف بها غاية التطرف فترة قصيرة حتى أوشكت كتابته فيها أن تكون إشارات إلى الأفكار الطائرة كإشارات الخرس إلى الكلمات المتناثرة في معاجم اللغة، وقد أكثر من الكتابة على هذه الطريقة في صوره القلمية التي رسمها بالحروف والألفاظ، وكاد يرسمها بالخطوط والنقاط كما صنع في تصويره - القلمي - للشاعر بكوير، وليس هو بأغمض الصور عنده، ولا السطور التي ننقلها هنا بأغمض ما في سائر السطور، كما يظهر من المقابلة بين الترجمة الحرفية بالعربية والترجمة الحرفية بالإنجليزية.
ففي تلك الصورة يقول:
وحول بكوير كالخلاصة الصفراء الفضية من الزهرة المثالية، وبين العصافير المتجمعات لتتويجها، والمنقار الغيور يغرد بها، تطير الأوزان والألحان في أحوال شتى قبل وبعد المبتذل من الأشياء، فريدا صادقا فيه؛ إذ ليست هي إلا سجعاته القاسية الشمطاء.
جرس وقافية - حقا - تمر السنون في إسبانيا ولا يستخدمان بغير رجعة إلى بكوير.
جرس. قافية. قافية. جرس. قافية. قافية النهد الأسود والأبيض المحفوظ على صفحة الطغراء، طغراء الرواق على حجر القبر، على جدار الدير، على الغرفة المغلقة بسماء إشبيلية الغربية خضراء وقرنفلة ومعها الماء والشمس على صفحة الزجاج.
وترجمتها بالإنجليزية تدل من يعرف تلك اللغة على تأصل الغموض واللغو في ذلك الأسلوب، وأنهما لم يتطرقا إلى المعنى عرضا لافتراق وسيلة الأداء بين اللغة العربية واللغة الإسبانية.
وهذا نص الترجمة الإنجليزية كما وردت في المختارات:
All around Becquer, Like the Yellow and silver sum of the ideal flower, among birds all united to crown it, the ardent beak chirping at it, Rhyme flies, in so many cases before and after a vulgar thing unique and authentic in him as it is only his hard grey assonance. Sound, Rhyme, indeed for many years they will not be used in Spain without a return to Becquer. Sound, Rhyme, Rhyme, Sound, Rhyme, the Rhyme of the Black and white breast preserved on the escutche on of the portico on the stone of the tomb, on the wall of the convent, on the closed balcony with the Western Sky of Seville, green and pink with water and sun, on its pane of glass.
ومن حسنات الملكة المطبوعة - ولا ريب - أن الشاعر نجا من محنة التقليد تجربة بعد تجربة من تلك التجارب التي ساقه إليها إغراء الجديد وحب امتحان قوته، فيما تستطيع على عادة كل من يشعرون بقوة فكرية أو جسدية على مقربة من ساحتها المفتوحة للمراس أو المباراة، وقد كانت ساحته المفتوحة أمام عينيه أوسع ساحة يرتمي البصر بين آفاقها من أقطار العالم القديم إلى أقطار العالم الجديد. وهي محنة لو ابتلي بها أديب من أصحاب التقليد لضاع بين غواياتها المتعددة، أو غاصت به تجربة منها إلى أعماقها، فسكن في القاع أو طفا على وجهها وهو غريق.
ولكن شاعرنا تورط في هذه التجارب تورط القادر على امتحانها وامتحان نفسه، فخرج منها إلى فن قوام بينها يلائمه ويأبى عليه أن يعدل به منهجا من مناهج الدعوى والمحاكاة. فعاد يقول أن المدارس الأدبية تجود بالفن الرفيع كلما استغنى فيها عن الانتساب إلى مدرسة من المدارس، فلم تكن له صفة غير صفة الفن الجيد الذي لا تلحق به علامة من علامات الأزياء الموقوتة والجدائل المتقلبة. فهو يرى أن المدارس السلفية والمثالية والواقعية وما فوق الواقعية والمستقبلية وغيرها وغيرها من مدارس الفنون التي تتعدد عناوينها، أو تتعدد موضوعاتها، قد تأتي بالجيد النفيس من المنظوم والمنثور، ولكنه لا يوصف بالجودة إلا لأن صفة الجودة وحدها تغنيه عن كل صفة أخرى، فلا يقال إنه جيد واقعي أو جيد مثالي أو جيد سريالي أو جيد رمزي إلى غير ذلك من النعوت والتصنيفات، بل يقال إنه جيد لأنه ارتقى إلى مرتبة الفن الخالد الذي يرتضيه كل زمن، ويتقبله كل ذوق وتشمله صفة العالمية أو صفة الإنسانية في أوسع نطاق، كلما اتسع النطاق فاحتوى القاعدة الشاملة، ولم يترك بعدها بابا للاستثناء غير الاستثناء الذي لا بد منه ولا محيد عنه في قاعدة من قواعد الفنون والآداب.
ومقاييسه التي يعرف بها هذا الفن الوحيد الغني عن الأوصاف تبلغ من الدقة أحيانا مبلغ التعاريف الرياضية والقوانين العلمية؛ فلا يلتبس معناها على القارئ البصير بتعبيرات الفن ومقاييس الأدب التي تتراوح أبدا بين الواقع والخيال.
فالشعر الجيد هو الشعر الذي يبقيه ناظمه كله ولكن بعد جهد جهيد؛ فقد يكون فيه ما هو حقيق بالحذف والإلغاء، ولكن إبقاءه أسهل من حذفه بعد طول المراجعة والموازنة والتعديل.
وليست البساطة الفنية عنده أن يعفي الشاعر قريحته من الجهد والكلفة، ولكنها هي تدبير المفاجأة التي يخيل إليك أنها وثبت إلى الشاعر بغير طلب؛ لأن المجهود الوحيد المحمود فيها أنه عناء يبذل لإخفاء العناء!
ومن أوابده البارعة في تعريف الحسن من القديم والجديد أن للحسن من الفن جذورا وأجنحة، ولكنها الجذور التي ينبغي أن تطير، والأجنحة التي ينبغي أن تنبت لها جذور.
وهو يفرق بين التقليد والمشابهة فيتقبل مشابهة «العدوى»، وينكر مشابهة المحاكاة، ولا ضير من «عدوى» الجمال لأنها خلق متكرر أو خلق منقول!
وقد يفرق بين الشعر والأدب في هذه الخصلة، فيتقبل الحكاية في الأدب ويأباها في الشعر؛ لأن مقاييس الأدب عمل من أعمال الفكر يأذن بالتطبيق والاحتذاء ويتبع الإنتاج المبتكر أحيانا ليقاس عليه، وليس من الشعر الأصيل شعر يقصد به القياس والتطبيق.
وله في هذه التفرقة معنى يشبه معنى شاعرنا أبي الطيب في تفرقته بين الجمال الموهوب والجمال المكسوب ، أو بين حسن البداوة وحسن الحضارة:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وللبداوة حسن غير مجلوب
وقد يجعل حسن «المصادفة» خاصة من خواص الشعر يعول عليها ولا يستغني عنها، ولا تصلح المصادفة عنده أساسا من أسس الأدب الخالق أو الأدب الناقد؛ لأنه في الحالتين محتاج إلى أعمال الروية وانتظام التفكير.
وأصح ما في مقاييسه للشعر أو للأدب أنه عرف بها حدود فنه وحدود ملكته أو حدود المسموح به وغير المسموح به لشعره وأدبه، فانصرف إلى الشعر والأدب الذي تغني فيه الريشة غناء القلم، وتنقله الألوان من متناول الضمير إلى متناول العيان، فهو مصور في كل سطر من سطوره وكل بيت من أبياته، وهو مصور ألوان قبل أن يكون مصور أشكال أو مصور حركات، وعالمه كله من العوالم التي يحيط بها نظر الجالس على سجيته في ظلة من ظلل الطبيعة، ويده على منظاره يرفعه إلى عينه، كلما أراد أن يقرب ويستوثق دون أن ينتقل إلى بعيد، وسواء هنا بعيد الأمكنة والمطارح، وبعيد الأزمنة والأفكار.
ومن عادته في تصوير اللون أن يستقصي كل مسحة، وألا يدع في الصورة شية من الشيات البارزة أو المطوية بين الجوانب الخفية بغير إشباع وتثبيت؛ فلا يكفيه أن يقول عن الزهرة الصغيرة أنها حمراء، أو ذهبية، أو ذات لون غالب عليها يدل على ما عداه، بل يحصر النظر فيها ولا يحوله عنها إلا إذا فرق عليها ألوانه، وقال لنا كيف تكون حمراء هنا، وصفراء هناك، وضاربة إلى الخضرة أو السواد في هذه الحاشية، أو تحت تلك الزاوية إلى غاية من التدقيق والاستقصاء تمل القارئ أحيانا لولا ما يتخللها من لمسات العطف ونفحات البهجة بالجمال.
وطريقته في فهم شيء من الأشياء - بل في فهم إنسان مجهول أو إنسان معروف - أن يعطيه صورة ويسبغ عليه ألوانا ويرمز إلى أفكاره الباطنة بهيئة من الهيئات التي تقع تحت الحس، أو تقع تحت المنظار من بعيد، في وضوح تارة، وفي غموض لا وضوح فيه تارات.
وكذلك يرسم نقده لمشاهير الأدباء رسما تدركه العين، ثم تدرك معناه من طريق الرموز والإشارات، وفلتات التعبير على انقطاع بينها يكاد يلحقها بالخطوط والنقاط، ويخرجها من عداد الكلمات والحروف، ولكنه تخفف من هذه الرموز في صوره الأخيرة، واستعاض منها بأشكال الخيال التي يبث فيها الحياة، ويرسلها أشباحا في الظلام تستغني بالظلال عن الألوان.
من قبيل هذه الصور التي تنوب فيها الأشباح عن الألوان صورة النوافير في جنة العريف التي ترجمنا سطورا منها في الصفحات التالية؛ فهو إذا وصفها تحت جنح الليل لم ينظر إلى شيء منها يفيض عليه ألوانه وشياته كما تعود أن يصنع بكل منظور تحت أشعة النور، ولكنه يستمع إلى أصوات الماء في صعوده وهبوطه، وفي أنينه وزئيره، وفي انسيابه واندفاعه، فيرسلها ظلالا ويجعل الظلال أشباحا، ويطلق حولها من أوهام الخوف والهرب، أو أصداء الضحك والمرح، أو صرخات الذعر والجنون، أو وسوسة الندم والإعياء، فنونا من القصص تلائم أصوات الظلام، وتتوارى فيها الأطياف غير أشباح وأوهام؛ فهو في تصويره إما ناظر يغرق مناظره في أقواس قزح، وأما سامع تختفي أمامه الألوان، فينتقل بها من عالم النور إلى عالم الظلال، ويصور الظلال من جانب السمع بعد أن خفيت عليه من جانب العيان.
وغاية ما يقال عن دنياه وعن الطبيعة كلها في دنياه إنها خلقة فنية يقيسها بمقاييس الذوق، ولا يعرف لها تقسيما غير تقسيم الحسن والقبح وجودة الأداء وسوء الأداء، وغاية ما تبلغ من رضاه أنها تدعو إلى إعجاب، أو تدعو إلى امتعاض وانقباض، ولكنه امتعاض لا يشتد عنده ولا يثور أبدا ثورة السخط والاشمئزاز؛ لأنه في حدود الذوق يقنع بالاستحسان أو الاستهجان، ولا يتسع وجدانه الفني لثورة من ثورات الشعور تدفعه إلى ما وراء ذلك، فليس عنده لما ينكره الذوق درجة من السخط وراء حد الإعراض، أو تحويل الوجه عن المنظر الدميم!
وهو يسمي هذه العلاقة الفنية بينه وبين الطبيعة وبينه وبين الدنيا كلها بوحدة الوجود.
وتصدق هذه التسمية جد الصدق على اعتبار واحد، وهو اعتبار الوجود كله متحفا واسعا يجري فيه الخير والشر، والحق والباطل، والقدرة والعجز، والإحسان والإساءة على سنة الذوق بمعيار الفن الجميل، ثم يتساوى فيه كل مخلوق وكل شيء، كما تتساوى صورة الملك وصورة الشيطان، أو تتساوى صورة الحورية وصورة الغول في عمل الفنان القدير، إذا نظرنا إليه بمقياس الإتقان وصدق الأداء. فلا محل في هذا المتحف لتنازع البقاء، ولا لعبادة القوة، ولا لسورة البطولة، ولا للصراع بين ما يستحق البقاء وما يستحق الفناء؛ لأنها جميعا في مكانها من المتحف سواء، وكل منها صالح في النهاية لأن يستخرج منه شيء للفن يوضع فيه حيث يضعه الفنان الكبير.
وقد عاش خيمنيز حياته يتعبد بوحدة الوجود، ويتذوق الإيمان بعقيدة الفنان والمتفرج في آن، وارتضى من حياته ما يرتضيه المتفرج الذي يتقبل من الدنيا كل ما تلقاه به غير ما يقطع عليه الفرجة، وينغص عليه متعة التأمل وسكينة العابد الناسك في هذا المحراب، ولم يحفل بوجود قط وراء هذا المتحف المزدحم أمامه بالصور والألوان.
ولقد كان من القدر المتاح لهذا الشاعر الوديع أن ينشأ في بلاده، وهي مرجل من مراجل الشر والبغضاء وميدان من ميادين الحروب الأهلية كأعنف ما تضطرم بها ميادين الأمم في عصر من العصور، وسميت فتنتها بالحرب الأهلية لأنها أعنف من الثورة وأشد اختلاطا من عداء ينفجر بين ظالم جائر ومظلوم غاضب؛ إذ كان مثار النزاع بين المتنازعين كأنه برج بابل من المبادئ والعقائد والأغراض، والشكايات والمقاصد التي يعلنها دعاتها والمقاصد التي يكتمونها أو يجهلونها ولا يدرون بواطنها وخفاياها، ففي كل طرف من الأطراف المتلاقية والمتعادية ملكيون وجمهوريون وزعماء من علية الأرستقراطية، وزعماء آخرون من أوساط الناس وعامتهم وجهلائهم وأراذلهم في العقول والأخلاق، وبين هؤلاء وهؤلاء متدينون ومنكرون، وبين المتدينين أناس من أنصار الكنيسة، وأناس آخرون من ألد الأعداء للقساوسة والرهبان ... وبين المنكرين مؤمنون بالمثل العليا وآخرون لا يؤمنون بغير ضرورات المادة ومعيشة الحيوان.
ويسأل كل طرف من هذه الأطراف: ما المصير؟ وما المخرج؟ وأين القرار؟ وكيف يكون القرار؟ فلا يسمع لسؤاله جواب، ولا يستطيع الواقف بينهم موقف الحيدة أن يجرد هذه القضايا المشتبكة من أخلاطها وشوائبها أو يخلص منها إلى ناحية يجزم برجحانها على العلات.
وتلك حيرة عاتية شقي بها المتمرسون بعلاج المشكلات من دهاة السياسة في القوم، ومن قادة الاجتماع الذين ألفوا ضراوة الأحداث، وعرفوا كيف يصابرونها إن لم يعرفوا كيف يقودونها ويسلسون زمامها؛ فأحرى بهذه الحيرة الجهنمية أن تشقي فنانا وديعا لا عهد له بمراسها، ولا طاقة له بالنظر فيها بله الصبر على مضانكها والأمل في تدبيرها.
وكل ما ثبت له عن يقين بين هذه الدعوات والشكوك أن الحرية جديرة بالانتصار، وأنه مطالب بالتشيع لها والسعي في سبيلها، ولكن أين هي الحرية؟ ومن هم الأحرار من قبل اليمين أو من قبل اليسار؟ إنه يرى بعينيه أن الحرية ضائعة، وأن العبودية واقعة كلما انتصر هذا الفريق أو ذاك الفريق؛ فالذين يطلبون الحرية لحماية النظام الاجتماعي باسم الأرستقراطية يدعون الشرف بغير حق من المعرفة ولا من الخلق ولا من الدراية العملية بسياسة الأمة وتدبير مرافقها، وغاية دعواهم أنهم بقية رثة من تراث قديم تخلفت قشوره، وذهب لبابه، وفقد فضائل أهله، ولم يكسب فضائل غيره. والذين يطلبون الحرية باسم الديمقراطية خنقوا الحرية، وجعلوا ديمقراطيتهم نقيضا للإنسانية، فلم يعرفوا للإنسان حقا في الحياة غير حق الماشية، بل حق البهيمة الضارية التي انفردت بين الضواري بافتراس نظائرها في نوعها واستحقت أن تسمى باسم آكلي البشر، أو باسم «الكانيبال» كما سماها في مقام التفرقة بينها وبين دعوة الأحرار الآدميين. •••
ولم يخذله إلهام الشاعر مع إخلاصه الإنساني في النفاذ ببصيرته إلى مقطع الحق من قضية الأرستقراطية وقضية الديمقراطية في المستقبل الذي يتطلع إليه طلاب الإصلاح من كل مذهب؛ فإنه وضع القضيتين في موضعهما الصحيح، وخرج بهما من ذلك الوضع المغلوط الذي جمد عليه أصحاب المصطلحات الاجتماعية والسياسية في أمته وفي كل أمة معاصرة بقيت فيها بقية من النزاع بين القضيتين.
فما زال الأكثرون من علماء الاجتماع والسياسة يقيمون القضيتين على خصومة دائمة بين المبادئ تكون في المستقبل كما كانت في الماضي، ولا تستقر إحداهما إلا إذا زالت الأخرى من الوجود وبطلت مبادئها في العقول وفي أطوار الحياة.
أما الأرستقراطية التي فهمها خيمنيز فهي كاسمها في اللغة حكومة الأحسن، ومناط الحسن فيها صفات الإنسان لا صفات آبائه وأجداده الحقة أو المدعاة. فأحسن الناس هو أصلحهم خلقا وأصدقهم ذمة، وأوفرهم عقلا، وأقدرهم عملا، وأوسعهم علما بما ينفع الناس مجتمعين ومتفرقين، ومن الواجب على الأمم أن تعمم هذه الصفات ليشترك فيها الناس، ويبلغوا فيها غاية ما يبلغه أبناء الأمة من المساواة، ويختصوا الحاكم بالاختيار لأنه يتصف بأفضل صفاتهم، لا لأنه يحتكر أحسن الصفات لنفسه ولفئة من أقربائه ونظرائه في النسب والجاه.
والديمقراطية إذن حالة انتقال، ولا يصح بحال أن تكون أملا تنتهي إليه الآمال؛ فإن الديمقراطية واحتكار الحكم نقيضان لا يجتمعان، وإذا أصبحت صفات الحكم غدا ملكا مشاعا يعم أبناء الشعب جميعا؛ فليس هناك أرستقراطية ولا ديمقراطية، وليس هناك شعب حاكم وشعب محكوم.
وإذا كانت الديمقراطية اليوم انتصارا للشعب على من يسخرونه وينكرون حقوقه، فهي حالة تنتهي عند نهاية الفارق بين الحاكمين والمحكومين في المزايا والكفايات؛ إذ ليس للحاكم يومئذ من دعوى يدعيها غير صلاحه للنيابة عن شركائه في جملة مزاياهم وكفاياتهم، وقد تتفاوت هذه المزايا والكفايات بين فرد وفرد وبين ألوف وألوف من الأفراد، ولكنه تفاوت متداول بينهم جميعا لا حكر فيه لطائفة محدودة ولا استئثار فيه لفريق دون فريق.
وعلى هذ الفهم الصحيح للديمقراطية والارستقراطية في المستقبل يتغير وضع القضيتين في ماضيهما، وتصبح الديمقراطية في حالة الانتقال قنطرة يعبرها الشعب كله إلى الأرستقراطية المرجوة التي تنتشر فيها أحسن الصفات، ويختار فيها للحكم أوفق أبناء الشعب لولاية الحكومة وأوفرهم نصيبا من الصفات الحسنى بتزكية المحكومين.
وبهذا الوضع الصحيح تصبح الديمقراطية أرستقراطية المستقبل، وينقضي ذلك التاريخ العتيق الذي جعل الحكم الأرستقراطي مرادفا للماضي المهجور أو مرادفا للأنساب التي طواها التراب؛ فإنما الأرستقراطية المرجوة غدا حق الأبناء والأحفاد، وليست هي بحق مدفون مع الآباء والأجداد. •••
ويتجلى صدق الشاعر في هذا الإيمان بهذه العقيدة؛ لأنه الإيمان الوحيد الذي يلائم طبيعته الهادئة ويلائم ذوقه الفني وعطفه المطبوع. فلا إيمان له بالحاضر الضائع بين زعازع الفوضى ونقائض الولاء والعداء من كل فريق لكل فريق، ولكن إيمانه بالغد يقين بأن الزمن معه وأن أطراف الخصومة في هذه الأيام لا يملكون فصلا مرضيا لما اختصموا فيه قبل موعده المنظور، وأن الأمل في التطور.
أتراه قد آمن بأن الجهاد في طرف من أطراف النزاع عبث باطل؛ لأنه فطر على الوداعة والهدوء، ولم يفطر على الخصومة والجهاد؟
وقد تكون فطرته وراء إيمانه بتطور الغد ووراء نفوره من صراع اليوم.
ولكن إيمانه بتطور الغد لا يبطل لهذا السبب، وليس مما ينقضه أن خصوم اليوم فطروا على غير الوداعة والهدوء، فلعله أنهض منهم حجة؛ لأن إيمانه بالغد يبرئه من شبهة الغرض، ويدفع عنه تهمة التشيع لهذا المعسكر أو لذاك لمأرب موقوت يشغله عن النظر البعيد.
ولما انتهى إلى الإيمان الوثيق بالتطور وجد نفسه في أحضان الطبيعة بالمكان القرير الذي لا تعجله عنه صيحة من اليمين أو صيحة من اليسار.
وفي أحضان الطبيعة سكن إلى حياة الريف، وأيقن أن الأمل الكاذب هو الأمل الذي لا ينبت في هذه التربة ولا يترعرع فيها كما يترعرع النبت المثمر في أوانه، ولن تعجله صيحة من اليمين أو اليسار أن يثمر قبل الأوان.
ومن الريف شعاره الذي دان به في عمله وفي نصيحته لطلاب العمل من تلاميذه ومريديه: أنك إن تعجلت جرى الزمن أمامك كالفراشة التي لا تدرك، وإن تأنيت أخذت بعنان الزمن فمشى وراءك مشية المطية الذلول.
وعلى كره شديد كان ينصح تلاميذه ومريديه بغير هذه النصيحة إذا ألحفوا عليه بالسؤال، فعلى الشباب أن ينضوي أبدا إلى جانب التطور المتقدم، كما قال لبعض سائليه من الأمريكيين الجنوبيين، ولكنهم في حل من العجلة إذا اختنقوا؛ فإن التنفس هو الحركة التي لا تقبل الإرجاء، ولا بقاء بغيرها لحي من الأحياء. •••
وربما كان خيمنيز هو الوحيد الذي نجا بسمعته القوية من غوائل الحرب الأهلية بين أنداده من أعلام الأدب في اللغة الإسبانية؛ فإن الحروب الأهلية كما نعلم من جميع تجاربها فتنة عمياء تصيب العدو والصديق، ولا يسلم منها الواقفون على الحيدة بين المعسكرين؛ لأنهم قد يخرجون من الوسط بعداوة الفريقين إذا كانت حيدتهم مخالفة لمصلحة هؤلاء وهؤلاء، كما يحدث كثيرا عند اضطراب الأمور وتفرق المصالح والغايات. وقد كان أناس من الواقفين موقف الحيدة بين اليمين واليسار يتعرضون للاتهام بخذلان القضية القومية وفتور الغيرة على مصالح الشعب أو مصالح الأمة، وكان للشعب معنى غير معنى الأمة في إبان الفتنة؛ لأن المنادين باسم الشعب كانوا يحصرون الشعبية في طبقة واحدة من المحرومين في عصرهم، ولا يشملون بها طبقات الأمة جميعا في حاضرها ومستقبلها وفي ماضيها العريق ومصيرها المنظور. ولكن حيدة خيمنيز لم تكن حيدة المصلحة التي تخالف مصلحة اليمين ومصلحة الشمال، وإنما كانت حيدة الزهد في المغانم اليمنى واليسرى واشتراك الشعور الإنساني بينه وبين المحرومين وطلاب الحرية حينما كان للشعور الإنساني صوت مسموع. فإذا خالف القسوة الكانيبالية - كما كان يسميها - لم يكن خلافه لها مشايعة لأصحاب المغانم من المجدودين؛ لأنه كان ينحي على مساوئ الجشع عند هؤلاء أشد الإنحاء، ولكنه كان قريبا إلى جانب العطف الإنساني في نفس المحروم المظلوم وفي نفس المجدود المظلوم، فخرج من بينهما بأخف التهم التي يتعرض لها الواقفون موقف الحيدة في معمعة الحروب الأهلية، وكان أقسى ما اتهم به أنه اتخذ أحضان الطبيعة في الريف «نقطة انتقال» في انتظار المستقبل الذي يسفر عنه «التطور» الموعود، وهو التطور الذي يأخذ في عصر الصناعة خير ما يعطيه، ولا ينفصل عن أحضان الطبيعة ولا عن «وحدة الوجود» الخفية التي تدب في عروق الأحياء، بل تسري في النبات والجماد مسراها في الكائن الحي من الآدميين وغير الآدميين. وقد كان خيمنيز يزور عواصم الحضارة في القارتين الأوروبية والأمريكية، ويشهد بعينيه معالم القوة والثروة ومعجزات العلم والفن التي تمخض عنها عصر الصناعة في تلك العواصم ، فلا يجهل فضلها ولا يغمط حقها، ولكنه كان يزداد أملا في ذلك التطور الإنساني الذي يحلم به كلما ازداد علما بما يتطلبه روح الإنسان، ويبحث عنه عبثا بين معالم الحضارة المادية والعظمة الصناعية، وربما أنس إلى منظر «مقبرة» في وسط المدينة يرف عليها الطير، وينبت في تربتها الزهر، ويتعهدها الأحباب والأقرباء بالزيارة مقبلين إليها من أرجاء الحاضر التي تعج بالأصداء وتموج برواد السلع والآلات؛ لأنه يلمس روحه هناك حيث يفقدها في ميادين الجلبة والزحام والتدافع بالمناكب والأقدام على المال والحطام، ويرفع بصره إلى ما فوقه فلا يصدق أن ما يراه بعينيه هو قمر السماء، بل يكاد يحسبه إعلانا عن القمر بين سائر الإعلانات المتلألئة بالأضواء! •••
إن حياة خيمنيز في الطبيعة وأمله في الطبيعة، وحلمه بالطبيعة بين لجب الحضارة والصناعة، هو السر المكشوف في كل رسالة للفن، والإيمان يبشر بها شاعر «المقرة» وخليفة شعرائها الأندلسيين بعد ثمانية قرون.
وإذا كان أناس من مؤرخي الأدب يربطون بين مدرسته الشعرية ومدارس الشعر الأندلسي في القرن الثاني عشر، فالبساتين والعيون هي الملتقى المأنوس الذي يؤلف بينه وبين سليقة العربي المقبل من صحرائه القصية، الحالم بجنته الأبدية على هذه الصورة الدنيوية. فهذه حلة من قداسة السماء لبستها البساتين والعيون، واستعارتها من جنات تجري تحتها الأنهار منذ فتح العربي أعين الصحراء على جنة العشب والماء، وما كان لهذه الجنة رسم معهود في أخيلة الشاعر الأندلسي قبل تلك الهجرة العربية، ولا كان لها في وجدانه شوق يمتزج بحنين العشق وشهوة الغرام كذلك الشوق الذي يتغنى بها عاشق الحسناء في قصائد الشعراء من أبناء الصحراء. •••
ولقد عاش خيمنيز حتى ناهز السابعة والسبعين، ولكنه أدرك رسالته في الفن ورسالته في الحياة وهو في إبان نضجه واستواء ملكاته، ولا نقول في عنفوان قوته وريعان صباه؛ لأنه لم يكن قط ذا عنفوان وريعان، ولم يخل قط من وعكة وانحراف منذ عرف معنى للصحة واعتدال المزاج، وحياته على نقيض صوره المثقلة بالألوان والظلال إلى حد الإرهاق، إنما ترسم للناظر أو المترجم صورة «ساكنة» تقل فيها الألوان الصارخة وما دونها من الألوان التي تلفت إليها الأنظار، فلا حركة في ذلك العمرم المديد فيما عدا حركات الأسفار بين وطنه الأوروبي ووطنه الأمريكي، وبين وطنيه هذين ومقامه بأمريكا الشمالية، ولم تقترن رحلته إلى موطن من هذه المواطن بحركة مجهدة تقطع عليه سلسلة التأمل في سلام، فلا جرم تنجذب إليه في ختامها جائزة السلام! •••
ولد خيمنيز في قرية المقرة بجنوب الأندلس، ونشأ في بيت أسرة ميسورة الحال بين البحر ومروج الريف، وتعلم في القرية صفوة ما يتعلمه الطفل القروي من معارف دينه ودنياه، ومن ثقافة الريف المطبوعة المتوارثة وثقافته المصنوعة التي تنقلها الدراسة والمطالعة، فلم يكد يبلغ الرابعة عشرة حتى كان له شعر ينشر في صحف إشبيلية ومدريد، ويمهد له السبيل إلى ندوة الأدب في العاصمتين، وقد تلقاه أدباء العاصمتين بالعطف والترحاب، فقضى سنواته الأولى بعد ظهور اسمه في الصحف الأدبية يتنقل بين الريف والحضر، ويسكن أكثر أيامه إلى المصحات وضواحي الاستشفاء بعيدا من «شبكة» الدسائس الأدبية التي لا يبرأ منها جو الحواضر في عصور الفتنة والانتقال على الخصوص، ولعله عوفي بالمرض من لجاج التنافس والخصومة فدرج في نشأته على نهج مريح مأمون العثرات، وقد أخذ في إصدار دواوينه قبل أن يبلغ العشرين، واشترك في إصدار صحيفة الشمس
Helios
سنة 1902، ثم في صحيفة النهضة أو المولد الجديد
Renacimients
سنة 1907 التي أصبحت لسانا ناطقا لأنصار المدارس المستحدثة في عالم اللغة الإسبانية، وعملت على توحيد جو الثقافة الشعرية بين الأمة الأصيلة وأمم أمريكا اللاتينية. وقد التقى وهو في نحو السابعة والثلاثين بالأديبة زنوبية كمبروبي في مدريد، ولحق بها في زيارته الأولى لنيويورك (سنة 1916)، حيث تم بينه وبين أسرتها الاتفاق على الزواج، وكانت زوجته الأديبة شريكته في ترجمة الشاعر الهندي رابندرانات تاجور من الإنجليزية إلى الإسبانية، وقد عاد الزوجان إلى وطنهما ولبثا بين حواضره وقراه زهاء عشر سنوات، ثم أزعجتهما عنه الحرب الأهلية (سنة 1936)، فرحلا إلى بويرتوريكو وإلى كوبا ثم إلى نيويورك وواشنطون، وبعد سنوات قضياها في الولايات المتحدة غلبهما الحنين إلى جو اللغة الإسبانية، فانتقلا إلى بويرتوريكو مرة أخرى (سنة 1952)، واختارته جامعتها لإلقاء محاضراته عن الشعر والأدب والثقافة العامة، فأصبح مجلسه إلى جوار الجامعة قبلة الرواد من ناشئة أمريكا اللاتينية، وشاءت المقادير بعد أربع سنوات من مقامه بالجزيرة التي تلتقي فيها الثقافتان الإسبانية والإنجليزية أن تأتيه بشرى الجائزة العالمية، وأن يمنى بوفاة زوجته الوفية في أسبوع واحد، وقد أدركه الأجل المحتوم بعد عام.
أما مؤلفاته من المنظوم والمنثور فقد والى إصدارها نحو ستين سنة على انتظام تارة وفي فترات متباعدة تارة أخرى، وأكثرها من الشعر المنظوم على أوزان الأغاني والترانيم الاجتماعية، وبعضها فصول منثورة في النقد والآراء الاجتماعية والدينية على أسلوب سهل من البحث القريب، والإيحاء المستمد من الواقع والخيال يرجح فيه منهج الفن على منهج الدرس والتحقيق، وقد ظهرت دواوينه الأولى وهو يجاوز العشرين، فاشتهر منها ديوان الأحاديث الحزينة
Apias Tristes ، وديوان الجنات القصية
Jardines Lejanos ، وديوان أناشيد الرعاة، ثم لحقت بها وهو يقارب الثلاثين مجموعاته التي سماها بالقصائد الصافية والقصائد الوسطى والقصائد الشجية، وبدأ في هذه الفترة تخطيط كتابه الأشهر عن حماره الذي سماه
أي الصائغ الفضي، وقال عنه ناقد «الفيجارو» الفرنسية: إنه قل في أدب العالم الحديث أن يوجد كتاب له قدرة هذا الكتاب على الرجوع بالإنسان إلى طفولة السن وطفولة الفطرة في أحضان الطبيعة، ويظهر أنه بدأ فيه ولم يقصد الانتهاء من كتابته لتوه، ليجعله بمثابة مفكرات فنية لحياته في الريف، فقضى في تدوين هاته المذكرات عشر سنوات، وأظهره بعد عودته من رحلته الأولى إلى أمريكا الشمالية (1917)، ولا شك أنه أدل كتبه عليه.
وله مجموعات شتى من القصائد والمقطوعات والفصول والمحاضرات، آخرها وأهمها فصول عن «الله المريد
Dios Deseado » أودعه خلاصة فلسفته في العقيدة والحياة، وزبدة هذه الخلاصة في عبارة وجيزة أن الله أقرب ما يكون إلى من يرقبون آيات الجمال في خلقه، ويؤثرون بساطة النعمة على كثافة المتعة في مطالب الحياة، وهي مبذولة لمن يقنع بها ويرتضيها.
وقد اخترنا للشاعر الناقد المتأمل نماذج من الشعر والنثر صالحة لتعريف القارئ العربي به في مراحل تطوره من بواكيره إلى خواتيمه التي استوى فيها على أوجه، ولم نرتبها على حسب الزمن؛ لأن القارئ يميز بينها في غير جهد ولا تردد، فكل ما كثرت فيه الصنعة وظهر فيه حب المحاكاة وتجربة الملكة فهو من أعمال صباه، وكل ما اطمأن فيه الشاعر إلى البساطة والسلاسة فهو من صنعة النضج والفكرة المستقلة، أو من الفن الذي قال عنه أنه يسمى «فنا» وكفى؛ لأن الجيد من كل مدرسة هو الفن الذي تتلاقى فيه مدارس الذوق والنقد، ويتخطى حدود الأوقات وفوارق الأذواق والآراء.
ولقد قيل إن «الاستحداث» وصل إلى الأدب الإسباني مع «داريو» وانفصل عنه مع خيمنيز، ولا بد من التفرقة بين الشعر المستحدث والشعر الجديد؛ فإن الاستحداث عرضة لآفة الولع بالتغيير والابتداع مخالفة للمألوف على قياس وعلى غير قياس، وليس التجديد في كتبه في كثير من الأحيان غير تصحيح المقاييس التي يقاس بها الشعر الخالد السائغ للإنسان في جميع العصور.
بلاتيرو وأنا
بلاتيرو: حمار صغير وافر الشعر ناعم الملمس، يخيل إليك من فرط نعومته أنه مصنوع من القطن بغير عظام، لولا مرآتان لامعتان من الكهرباء السوداء كأنهما جعلان بلوريان، هما عيناه!
أرسله فينطلق إلى المرج يتنسم بأنفه الأزاهير اللطاف موردة ولازوردية ومذهبة، وأدعوه مترفقا: بلاتيرو! فيقبل إلي في ركضة مرحة كأنها ضحكات خفية مترنمة.
يأكل كل ما أعطيه، ويلتذ البرتقال واليوسفي، والعنب العنبري، والتين القرمزي تنديه قطراته العسلية.
إنه كالطفل ودود رقيق، ولكنه كالصخر صلب متين. أمتطيه أيام الآحاد وأسعى به في دروب القرية فيرمقه الفلاحون، وهم يمشون على مهل ويقولون: إنه لمن حديد!
أي نعم. من حديد، ومن فضة كشعاع القمراء سواء!
الفراش الأبيض
يهبط الليل في غبش ذي وهج، وتتخلف وراء برج الكنيسة ومضات مخضرة زاهية، وترتفع الطريق ملأى بالظلال والأجراس ونفحات العشب، ملأى بالسآمة والشوق، ويخرج علينا من جانب الخص المحتجب في أكياس الفحم شبح قاتم في يده شوكة يلتمع وجهه لمحة في ضوء سجارته الأحمر، فيخاف بلاتيرو ويسأل الرجل: أمن شيء تحملون؟ - انظر تر بعينيك. فراشات بيضا!
ويهم الرجل أن يغرز شوكته في السلة فلا أمنعه، وأفتح له الجراب فلا يرى فيه شيئا، ويذهب غذاء الأرواح حرا خالصا، لا مكوث عليه!
ألعاب الشفق
في شفق المساء وقد كدنا نيبس من البرد، تقدم بلاتيرو - وأنا - في الظلام البنفسجي إلى الزقاق الوضيع قبالة مجرى النهر الناضب، فالتقينا بأطفال القرية - من أبناء الفقراء - يصطنعون التمثيل ويتبادلون التخويف والتهويل، ويحكون أبناء السبيل: هذا يغطي رأسه بجراب وهذا يتعامى، وذاك يظلع في مشيته، وفي لمحة عين - على دأب الطفولة من سرعة التقلب وسهولة الانتقال من حال إلى حال - يعودون فيزعمون أنهم أمراء؛ إذ هم على الأقل لابسون منتعلون، أطعمتهم أمهاتهم، وما يدري أحد غيرهن كيف زودنهم بالطعام:
أبي عنده ساعة فضية!
أبي عنده حصان!
أبي عنده بندقية!
نعم، ساعة توقظه في مطلع الفجر، وبندقية لا تقوى على قتل الجوع، وحصان يحمله إلى الشقاء.
ثم تشتبك الأكف ويدورون في حلقتهم راقصين، وتغني في الظلمة بنية صغيرة كأنما صوتها النحيل بلور سائل فتصيح في كبرياء:
أنا الأرملة الفتية.
أرملة الكونت أوريه!
نعم. نعم. يتغنى أطفال الفقراء، وعما قريب في يقظة الشباب، يخيفكم الربيع كأنه ابن سبيل يتستر بزي الشتاء! - هلم بنا يا بلاتيرو!
الكسوف
على غير قصد منا دسسنا أيدينا في جيوبنا، وأحسسنا على جباهنا لمسة ظل برود، كأننا نخطو إلى غابة من الصنوبر غبياء،
1
وطفقت فراريج الدار تصعد إلى الأكمة التي تؤويها واحدة بعد أخرى، والتفت جوانب القرية بوشاح مضرج كأنه حجاب المحراب، وبدا البحر من بعيد كأنه حلم، وتراءت هنا وهناك نجيمات شاحبات، ويا للعجب! أي بياض هذا الذي اكتست به السقوف بعد بياضها المألوف!
وجعلنا نحن على السقوف نتنادى بما يخطر على اللسان من مقال، أشباحا صغارا في سكون الكسوف المحيط بنا أجمعين.
ومضينا ننظر إلى الشمس بكل ما اتفق لنا: منظار المسرح، ومجهر الرصد، وزجاج القوارير، وزجاج مغشي بالدخان، وندير النظر من كل زاوية وإلى كل وجهة، تارة من جانب المخدع، وتارة من جانب السلم، خلال ألواح الفضاء بين حمراء وزرقاء.
وعندما احتجبت الشمس - وهي التي كانت منذ لحظة تضاعف كل شيء حسنا وبهاء، مثنى وثلاث، بل مائة مرة بما تفيض عليه من نور وذهب - حالت الأشياء دون أن تعبر بتلك النقلة الطويلة من ألوان الشفق، فاستكانت إلى العزلة والفاقة، كأنما تبدل الذهب فضة، ثم تبدلت الفضة نحاسا بين نظرة وأخرى، وصارت البلدة كلها كأنها فلس من النحاس الممسوح. فيالله ما أعتم وما أبخس ما تبدو الطرقات والرحاب ومسالك البرج والجبل!
وبلاتيرو هناك في رحبة الدار كأنه كائن مريب، يتضاءل ويختفي ويلوح كأنه حمار غير ذلك الحمار!
الخوف
يصاحبنا القمر مستديرا صافيا، ونلمح على المروج الناعسة أشكالا من الظلال كأنها المعيز بين شجيرات التوت، ونمر فإذا بشيء هنا وهناك كأنه يتردى في سكوت، وعلى الطريق شجرة ملتفة من أشجار اللوز يعلوها من نوارها الأبيض إكليل كأنه نسيج من الثلج الناصع وأشعة القمر الساطع، تحت سماء الربيع المرصعة بالنجوم، وتنتشر في الجو رائحة نفاذة من عطر البرتقال، ومعها البرد والسكون، ومسارح الجنة والأطياف.
إنه البرد يا بلاتيرو!
ولا أدري أكان يحفزه خوفي أو خوفه، فيركض فيجنح إلى مجرى الماء، ويطأ على بساط القمراء فيمزقه، ويبدو كأنه فوج من الرياحين البلورية المتوردة تشتبك بقدميه لتعوق خطاه.
ويعدو بلاتيرو صعدا وقد لم عقبه كأنه يخشى من خلفه أحدا يلاحقه، وعلى البعد ذلك الدفء الناعم في القرية المقتربة، يحسه ويخيل إليه أنه يبتعد منه فلا سبيل إليه.
روضة الأطفال
لو أنك - يا بلاتيرو - ذهبت إلى الروضة مع أولئك الأطفال لتعلمت «أبجد هوز»، وعرفت كيف تكتب، ووعيت ما لا يعيه حمار الشمع صديق عروس البحر الذي تزينه ضفائر الأزهار، خلال البلور الذي تأوي إليه عروس البحر في لحيتها الخضراء، لعلمت إذن يا بلاتيرو ما ليس يعلمه في القرية القس والطبيب!
على أنك - وما عدوت الرابعة - كبير على غير نسق، فكيف يتسع لك الكرسي الصغير؟! وعلى أي لوحة تخط يداك؟ أو أي قلم وأي صحيفة تجديك؟! وأي فرقة تترنم فيها بأناشيد التسبيح؟!
كلا يا صاح. إن (دونا دومتيلا) في مسوحها الناصرية، وزنانيرها الصفراء على طراز الكساء الذي يلبسه (ريسي) السماك، سوف تسومك الركوع ساعتين - على الأقل - في ركن من أركان البستان، أو تلهب حوافرك بعصاها القاسية، أو تأكل غذاءك من السفرجل، أو تضع الورقة المشعلة تحت ذنبك حتى تحمر أذناك كما تحمر أذن ابن الفلاح قبيل المطر! ...
كلا. يا بلاتيرو. كلا، بل تعال معي أرك نوار الأرض ونجوم السماء، لا يسخر منك أحد كما يسخرون من الصبية الأغبياء، ولا يضع أحد على رأسك تلك القبعة التي تحكي رءوس الحمير، بأذنين أطول من أذنيك مرتين!
الأبله
أخال أنني منظر غريب في هذه اللحية البنية، تحت القلنسوة الصغيرة السوداء، فوق ظهر بلاتيرو.
أخرج من أطراف الطريق، في طريقي إلى الكرم، كأنها في لألائها مغسولة بيضاء بأشعة ذكاء، فإذا بأطفال النور تنكشف أطمارهم - الخضراء والحمراء والصفراء - عن بطونهم التي لوحتها الشمس، ويمدون أصواتهم بالصياح: المخبول! المخبول!
إننا نستقبل الخلاء المكشوف وجها لوجه تحت قبة السماء المتوجهة الزرقاء، تتفتح عيناي وما أقصاهما عن أذني! وتتلقيان في خشوع تلك السكينة التي لا تسمى، في ذلك الصفاء الإلهي الذي تتجلى به آفاقه الأبدية.
وهناك على البعد على الحقول والمروج، أصوات تصيح، ترن، تتكسر، تخفت، تزول: المخبول! المخبول!
يهوذا
لا تخف يا صاح. ما بالك؟! تعال. تعال على مهل، إنهم - أيها الغر - إنما يقتلون يهوذا.
أجل، يقتلون يهوذا، ويقضون عليه واحدا في كل شارع: واحدا في شارع أنميديو، وآخر في شارع منتوريو، وواحدا في كونسيجو. رأيتهم أمس معلقين، كأنما تشدهم قوة من عالم الغيب، فلا تلمح العين موضع الحبل المفتول الذي يتدلى بهم من الشرفات.
أي مزدحم هذا من القلانس والأكمام والشارات والمآزر تحت بريق النجوم.
تنبحهم الكلاب وهي تحلم أن تبرح مكانها ولا تكاد، وترتاب الخيل بهم فتأبى أن تعبر الطريق تحتهم، وها هي ذي النواقيس - يا بلاتيرو - تعلن أن حجاب المحراب ينجاب، ولا أحسب أن بندقية واحدة في القرية فاتها أن تنطلق على يهوذا؛ فإن رائحة البارود تسري حتى على ذلك البعد السحيق، وهذه طلقة، وهذه ثانية، وهذه أخرى وأخرى!
اليوم. اليوم فقط - يا بلاتيرو - يتلبس يهوذا بالنائب، بالمعلم، بالجابي، بالعمدة، بالداية، ويطلق كل إنسان قذيفته قبل مشرق العيد على من تخيل من الأعداء، كأنهم يصطنعون التمثيل والإخفاء.
بواكير التين
كان مطلع الصبح فجا مشتملا بالضباب، أصلح ما يكون لبواكير التين، وخرجنا إلى (ريكا) من ثم عند السادسة نجتنيه.
وهذه عروق الشجر المعمر تدور جذوعه كأنها عضل مفتول في الظل البرود، يجللها كالرداء المسدل حيث يهجع الليل لا يزال، وحيث يندى الورق العريض بالظل المنحدر عليه: ورق كالذي كان يكتسي به آدم وحواء، وعليه لآلئ تبيض بها خضرته اليانعة، ننظر من خلاله، فنرى ضياء الفجر يصبغ ستار الشرق بصبغته الحمراء.
واهتاجنا المرح فانطلقنا نستبق لنرى أينا يدرك الشجرة ويجتني الثمرة، وأخذت روسيلية معي أول ورقة، ثم جذبت يدي في ضحكة محتبسة، فوضعتها على قلبها الذي يعلو عليه نهدها الصغير ويهبط، وهي تقول: هنا. هنا. ضع يدك! ولم تكد أويلا تجري لأنها سمينة قصيرة، فجعلت تسخط من بعيد، وجنيت ثنيات من هنا وهناك وضعتها لبلاتيرو على دالية كرم عتيق، لعله يغالب الملل، فلا يضجر!
وسخطت أويلا من ثقلتها، فأثارت معركة التين وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها دموع، ورمتني بتينة فانفجرت على جبهتي، ثم اقتحمنا المعركة أنا وروسيلية، فالتهمنا من التين بعيوننا وأنوفنا وأكمامنا أضعاف ما التهمناه بأفواهنا، وتساقطت الضحكات مع فروع التين على ورق الكرم النضر، فأصابت بلاتيرو تينة، فأصبح هدفا ينهال عليه الضحك والمزاح، ولم يكن في وسعه أن يدفع عن نفسه أو يرد الهجوم بمثله، فانضويت إلى جانب وتوليت القتال باسمه، وترامى في الجو طوفان من الثمر كأنه ينهمر من مدفع رشاش، وارتفعت من جانب الأرض ضحكة مزدوجة رخية، تعلن من فم الأنوثة نداء التسليم.
صلاة العذراء
انظر يا بلاتيرو، كيف تتناثر الأزاهير في كل صوب زرقاء. قرنفلية. حمراء. لا لون لها. يخيل إليك أن السماء تمطر الورود والرياحين، وهذا جبيني، وكتفاي، ويداي، تغمرها الورود، ما تراني أصنع بكل هذه الورود؟
أحسبك تعلم من أين تأتي هذه الخلائق اللطاف؛ فإنني أنا لا أعلم ينبوعها الذي تفيض منه كل يوم، وتنضر به وجه هذا الأديم فتشيع فيه حلاوتها، بين بيضاء وزرقاء. وإليك ... إليك هذا مزيد من الورود، ومزيد من الورود، كأنها لوحة من صنع (فرا انجليكو) تنبت رياضها في مواقع الركوع والسجود.
يخال الناظر أن الرياحين تلقى علينا من عليين في السماء السابعة كأنها صيب من الثلوج الدفيئة تهبط على الأبراج، على السقوف، على الأشجار. ألا ترى إلى كل شيء خشن الملمس ترق حواشيه ويحلو مرآه بزينتها الساحرة في كل مكان؟! ورود. ورود. ورود.
وإني لأحسب - يا بلاتيرو - أن النواقيس تدق، وهذه الحياة - حياتنا كل يوم - تنضو عنها قسوتها، وتتنزل في مكانها حياة غيرها أحكم منها وأرفع وأنقى، يمدها ينبوع من النعمة المباركة يسمو بها إلى تلك النجوم، تلك التي أخذت تلمع بين أشتات الورود. مزيد من الورود، وإن عينيك يا بلاتيرو - وأنت لا تراهما - لوردتان جميلتان أراهما، وأنت ترفعهما إلى السماء في خشوع واتضاع، بين تلك الورود.
الحفرة
بلاتيرو العزيز، إنك إن أدركت أجلك قبل أجلي، فلن تحمل إلى مستنقع الموت، ولا إلى تلك الهاوية، ولن تحملك عربة الدلال إلى طريق الجبل، كما تحمل الحمير والكلاب والخيل التي ليس لها من يحبها ويرعاها، ولن تبدو ضلوعك المحمرة من نقر الجوارح والغربان كأنها عروق الزورق الماثلة تحت سماء الشفق الأرجواني، منظر نافر على طريق السالكين إلى محطة القديس جوان في سيارة الساعة السادسة، كلا ولن تظل هنالك وارمة منتفخة بين الأصداف الغضة في قاع الحفرة تخيف الأطفال الناشطين في طلب الجلبة والسورة بين صفوف أشجار الصنوبر متطلعين إلى الهاوية من حافة الطريق.
هون عليك يا بلاتيرو وعش في سلام. إنني سأدفنك عند ساق الصنوبرة الكبيرة في ذلك البستان الذي تهواه، وتنام ثمة على مقربة من بهجة الحياة والجمال، يلعب الأطفال إلى جوارك، وتتعلم البنات الصغار تطريز الثياب على كراسيهن الصغار في جانبك، وتطلع على أشعاري التي توحيها إلي الوحدة، وتسمع أغاني الغاسلات عند حديقة البرتقال، ويزيدك ضوضاء البئر فرحا وبردا في رقادك الطويل، ويدور الحول وأنت تسمع شدو القنابر والبلابل والعصافير، كأنها بين خضرة المروج الخالدة وقبة السماء قبة أخرى وجيزة من النغم والغناء دون تلك القبة الأبدية الزرقاء.
الحسكة
أخذ بلاتيرو يظلع عند مدخل الأرض الخضراء، فترجلت مسرعا لأرى. - ما بالك يا بني!
فرفع بلاتيرو يده اليمنى، وتعلقت تلك اليد لا وزن ولا قوة، ولا تكاد تلمس الرمل المتقد تحتها، ليكشف عن باطن الحافر، وأراه!
ونظرت مواسيا له، مترفقا به فوق رفق طبيبه داربون ولا مراء، فلمحت في باطن الحافر الجريح حسكة خضراء من حسك البرتقال، كأنها خنجر زمردي دقيق، سحبتها مشفقا من إيلامه، وقدت المسكين إلى بركة السوسن؛ عسى أن تلمسه من مائها الجاري ببسلم يبرد جرحه الصغير، ثم أقبلت إلى ناحية البحر، أقوده ويتبعني متعثرا، فيصدمني خفيفا كلما تعثرت به خطاه.
عصافير الجنة
تلك هي - هناك - يا بلاتيرو، سوداء طروبا في عشها الرمادي على الإفريز الذي استوى عليه تمثال العذراء، عذراء مونتماير، وقليلا ما اقتربت منه يد مخلوق.
إن الطائر المسكين لحائر، وأحسبه هذه المرة قد وقع في غلطة، كما غلطت الفراريج قبل أسبوع وهي تأوي إلى مبيتها عند كسوف الشمس تحسبه الغروب. وقد شاء دلال الربيع أن يفد إلينا مبكرا هذا العام، ولكنه على رغم منه يرتعد في عريه الرقيق ويقفل به راجعا إلى مهاد شهر مارس الغائم، وإن القلب ليحزن إذ يرى أزاهير البرتقال تموت في الأكمام.
عادت عصافير الجنة - يا بلاتيرو - وهي على هذا قلما يسمع لها صوت كذلك الصوت المترنم الذي نسمعه منها كل عام؛ إذ تروح وتغدو بالتحية والسلام لكل ما ألفته من معاهد الديار، وكأنها تتأمله وتعيد النظر إليه تستوثق من بقائه كما كان، وتظل توسوس للأزهار بكل ما شهدته في أفريقيا، فتروي لها كيف كانت تنام على الماء بجناح، وتبسط الجناح الآخر كالشراع، وكيف كانت تستريح على سواري السفين، وتقص عليها العجائب عن مغارب أخرى ومشارق شتى وليال كثيرة في آفاق بعيدة بين رحلة في الذهاب ورحلة في المآب!
إن عصافير الجنة لا تدري ما تصنع تطير هنا وهناك حائرة، صامتة، كما تحار النمال إذا وطئت صفوفها قدم طفل لعوب، ولا تجسر على الصعود والهبوط من جانب الشارع الجديد، ماضية على سواء إلى موطن الزحام، وكأنها تهاب الطواف بأعشاشها عند العيون، وتجفل من الهبوط على سمط منسوق فوق أسلاك البرق حيث تطن الرياح، وأحسبها ستهلك بردا يا بلاتيرو!
الإسطبل
أذهب إلى بلاتيرو عند الظهيرة، فأرى على ظهره الفضي شامة مذهبة من أشعة الشمس في سمت السماء، وعلى الأرض السوداء تحته إلى اخضرار، يدر السقف العتيق نقودا مجلوة من النار.
هناك تلعب (ديانا) بين أقدام بلاتيرو فتقبل إلي راقصة، وترفع يديها إلى صدري تحاول أن تلحس فمي بلسانها الأحمر، وتنظر إلي العنزة من مجثمها في أعلى المذود مستطلعة متفرسة، تميل برأسها يمنة ويسرة بدلال كدلال النساء! أما بلاتيرو فقد سبقني قبل دخولي، فأطلق نهيقه بتحية القدوم، واجتذب حبله يحاول الفكاك منه، واستحال بجملة كيانه ألوانا من الألاعيب.
وينفذ الشعاع من الثقوب بألوانه القزحية، فأرفع البصر صعدا على ذلك الدرج النوراني إلى قبة السماء بعيدا من هؤلاء الأصدقاء، ثم أعود إلى الأرض بعد هنيهة، فأعلو الصخرة لأنظر من فوقها إلى المروج. إنها تعوم في فيضان مشرق من وهج الظهيرة، ومن بعيد في أوج الصفاء المحفوف بإطار من الجدران يسمع رنين ناقوس.
المهر الخصي
كان أسود، له شيات من القرمز والعشب والفيروز، سواد مفضض كالجعل والغربان، وتومض في عينيه الفتيتين لمحة بعد لمحة، نار متقدة بالحياة، كالجمر في موقد (رامونا) بائعة القسطل بميدان المركيز. وكم له من طرقات متداركات بحوافره الصلاب، وهو يخب إلى المدينة من جانب الرميلة إزاء صوى
2
الشارع الجديد. ما أخف! ما أسرع! ما أنفذ وأمضى! وهو يشيل برأسه الصغير ويعدو بقوائمه الدقاق.
ويمضي على نمطه الرائع في طلاقة وكبرياء ولعب، على باب المعصرة الوطيء، وهو أحلك سوادا منه قبالة الشمس المحمرة: شمس القلعة التي شخصت هناك كأنها بطانة الروات. ثم جاوز أرومة الصنوبر التي وضعوها مكان العتبة، فملأ الرحبة في المعصرة بهجة وطربا وزقا، من أفواه الدجاج والحمائم والعصافير، وترقبه ثمة رجال أربعة عقدوا أذرعتهم الشعراء على قمصان شتى الخطوط والنقوش، فاحتملوه إلى شجرة الفلفل، وألقوا به على كومة المعصرة بعد فترة من العراك العطوف لم تلبث أن استطردت إلى عراك عنيف، وجلسوا عليه إذ مضى البيطار (داربون) ينجز عمله، ويختم محاسن المهر الجميل، كما قال شكسبير لصديقه الذي لم يتزوج: «جمالك البديع يموت معك وتبذله فهو جلادك القاضي عليك ...» وصار المهر حصانا وديعا يتصبب عرقا، في حزن وإعياء، ولم يكلفهم غير رجل واحد يقوده ويغطيه ويسير به على مهل في الطريق.
سحابة مجدية كانت بالأمس مشحونة بالبروق، فإذا هي اليوم مروضة ذلول، وإنه اليوم كأنه كتاب غير مضموم، وإنه لا يخطو على الأرض بعد أن عزلت الحدوة بينها وبين حافره بعنصر غريب، وتركته لا يحس وقع قدميه؛ شجرة مجتثة كالذكرى في حومة ذلك الصباح من أيام الربيع.
بيت في عرض الطريق
بلاتيرو! إن ذلك البيت في عرض الطريق قد كان في صباي يلقاني أبدا بسحر عظيم.
وبدأت (أولا) في سكة (ربيرا) بمنزل (أربورا) السقاء ورحبته إلى الجنوب مذهبة أبدا بأشعة ذكاء، أطل منها علي كلما علوت جدار البستان، ويأذنون لي من حين إلى حين أن أدخلها ومعي ابنة السقاء، أحسبها يومئذ امرأة - وهي اليوم كذلك بعد الزواج - فتمنحني هنالك سفرجلا حلوا وقبلات.
ثم يأتي الشارع الجديد، ثم كانوفاس، ثم جوان فراي پيريز، مسكن دون جوزي حلواني إشبيلية الذي كان يبهرني بحذائه الأصفر من جلد الجداء، ويزين الشجر المعمر بقشور البيض، ويطلي باب الدهليز بلون الكنار موشعا بالخطوط الزرقاء، وربما زارنا بالمنزل حيث ينقده والدي شيئا من المال، ويستمع إلى حديثه عن مروج الزيتون، وكم من أحلام صباي هزته شجرة الآس العتيقة تلك التي كنت أراها من شرفتي مزدحمة بالعصافير فوق سقف دون جوزي. وكانت هناك - في نظري - شجرتان للآس لم أحسبهما قط شجرة واحدة: إحداهما التي كنت أغانيها من الشرفة قمة عالية بشمسها وهوائها، وأخرى كنت أراها في رحبة دون جوان من جذعها إلى أعلاها.
وفي المساء الصحو، وفي الظهيرة المطيرة ، وفي كل لحظة تتبدل مع جو النهار والليل على حالة من الحالات، تسترعيني بأي هوى وأي اشتياق، من شرفتي. من نافذتي. من عرض الطريق.
الشبح
كان أمتع اللهو عند أنيلا - صانعة الزبدة - التي كان شبابها اليانع المتدفق ينبوع فرح لا ينضب، أن تتزيا بزي شبح مخيف.
فهي تضفي على جسدها ملاءة بيضاء، وتمسح وجهها السوسني البياض بطلاوة من الدقيق، وتغطي ثناياها بفصوص الثوم، وبعد تناول العشاء نجلس في حجرة المائدة مهومين، فتظهر لنا فجأة من ناحية السلم الرخامي، وفي يدها شمعدان مشتعل تخطو على مهل في رصانة ووقار، وإنها - بهذا الزي - لتجعل من عريها كساء، وتبعث الفزع بما استعارته من مثال أهل القبور، ولكنها - على هذا - تسحر العيون ببياضها الناصع سحرا تداخله غوامض الرغبات.
ولن أنسى يا بلاتيرو! تلك الليلة من شهر سبتمبر، حين ثارت العاصفة تخبط المدينة كأنها ضربات قلب مريض، وتصب شآبيب الماء والسقيط تتوالى بينها نوازل البروق والرعود، وقد فاض الحوض فأغرق الرحبة، وانقضت معالم المساء الأخريات من دقات الساعة التاسعة، إلى مركبة السيارة، إلى نواقيس المساء، إلى ساعي البريد. ومشيت وأنا أرجف من الخوف إلى حجرة المائدة لأشرب، فلمحت على ضوء عقيقة زاهية من البرق كافورة بيت فيلار - شجرة الوقواق كما ندعوها - وقد وقعت منقصفة على سقيفة المخزن. وعلى حين غرة سرت بيننا نأمة يابسة، كأنها ظل صدمة من صدمات البرق المدوية خطفت أبصارنا وزلزلت جوانب الدار. فلما ثاب إلينا وعينا بعد تلك الصدمة إذا بكل واحد منا في مكان غير الذي كان فيه منذ لحظة، منفردا مشغولا بما هو فيه عن سواه: هذا يشكو الصداع، وهذا يلمس عينيه، وهذا يتحسس قلبه بين حنايا صدره، ويعودون واحدا واحدا إلى حين كنا مجتمعين!
ثم هدأت العاصفة، ولاحت أسارير القمر بين الغمائم تفضض صفحة الماء الذي يغمر رحبة الدار، وذهبنا نتفقد حولنا كل شيء، وانطلق (لورد) يعدو إلى السلم ويعود وهو ينبح نباح الجنون. ثم اتبعناه - يا بلاتيرو - إلى الكرم المتلألئ من حيث تنبعث إلى الأنوف رائحة تغثي النفوس. وهناك يا بلاتيرو رقدت (أنيلا) في ثوب الشبح، ولا يزال شمعها يشتعل في يد - من لفحة الصاعقة - سوداء.
الأبله الصغير
كلما عبرت بشارع دون جوزي رأيت الأبله الصغير يجلس على عتبة داره يرقب العابرين.
لقد كان واحدا من أولئك الصغار المساكين الذين لم يرزقوا قط نعمة الكلام ولا نعمة الجمال، فرح بينه وبين نفسه، حزن لمن ينظر إليه، كل شيء عند أمه، لا شيء عند الناس.
ويوما من الأيام، بعد ذهاب الريح السوداء، لم يظهر الطفل على باب داره، وظهر مكانه عصفور يغرد على عتبة الدار، فذكرت (كروس) ذكرى الوالد قبل ذكرى الشاعر الذي راح يبحث عبثا عن روح وليده الفقيد بين فراش جليقية: (أين الفراشة ذات الجنيحات الذهبية؟!)
والآن وقد عاد الربيع، أتذكر الأبله الصغير الذي ارتفع إلى السماء من شارع القديس جوزي، وأحسبه على كرسيه الصغير، إلى جانب النوار والريحان، ينظر بعينين، فتحتا بعد إغماض، فيرقب العابرين من أهل النعيم.
دون جوزي القس: الآن يا بلاتيرو، يمضي مجللا بالقداسة مترعا بالكلم المعسول، إلا أن الشيء الملائكي حقا في أتانه: أنها سيدة!
وأخالك لمحته يوما في شبانه بسراويل الملاحين وقبعة الرحالين، يقذف باللعنات والحجارة معا أولئك الصغار الذين يختلسون برتقال البستان، وقد رأيت - ولا شك - ألف مرة خادمه البائس (بلتزار) يسحب قدمه المتورمة كأنها نفاخة البهلوان؛ ليذهب إلى البلدة أيام الجمع يبيع هنالك مكانسه الحقيرة، أو يصلي مع الفقراء رحمة بالموتى من أقارب الأغنياء.
وما رأيت قط إنسانا أطلق منه لسانا بالدنس، وأدعى إلى غضب السماء بما يثيره من لعنات.
ومن الحق - كما يقول على الأقل في صلاة الساعة الخامسة - أنه يعرف كل شيء أين يكون وكيف يكون، فوق ... في عليين! الشجرة، المدرة، النبعة، النسمة، زهرة القسطل. وهي كلها آية في الحسن والنعمة والنضارة والصفاء والإشراق، تبدو لعينيه مثلا للخلل، والقسوة، والجفاء والغلظة ، والدمار. وفي نهاية كل يوم تتبدل مواقع الحجارة في بستانه، كلما قذف بها في ثورة الغضب أسراب الطير والصبية والغسالات والأزاهير.
فإذا حان موعد الصلاة حالت الحال، وسمع صمت دون جوزي خلال صمت الخلاء، وأسبغ كسوته على جسده، ووضع قلنسوته على رأسه، ونفذ إلى القرية لا يكاد يرى، وهو على متن أتانه كأنه شبح المساخر على هيكل عظام.
الربيع
يا لها من لمعات، يا لها من نفحات!
في مروج فرحات، عمرت بالضحكات.
أغنية شعبية
أقلقت هجعة الضحى صيحات أطفال عفاريت، فانتبهت متبرما ضجرا، ولم أستطع أن أعود إلى الرقاد فتركت الفراش يائسا، ونظرت من النافذة المفتوحة، فلم أجد أطفالا أقلقوني، ولكنها العصافير!
وهبطت إلى الحديقة أتغنى بنشيد الشكر لرب النهار الصحو والسماء الزرقاء.
ومن حيث أصغيت سمعت فرق الغناء الطائرة طليقة المناقير، ترسل موسيقاها مبتكرة سخية بغير انقطاع.
عصفور الجنة في غرابة أطواره يغرد إلى ناحية البئر، والشحرور يصفر على جنى البرتقال، والصفير الذهبي يزقو ويتوثب من خضراء إلى خضراء، والزمير الأزرق يسترسل من ضحكة إلى ضحكة بين غصن وغصن من شجرة الكافور، ولا تزال الزرازير في حوار على ذؤابة الصنوبرة الفرعاء.
ياله من صباح: شمسه الساطعة تنثر الذهب والفضة على الغبراء، وألوف من الفراش في حلل الزخارف والألوان تتطاير في كل مكان، تجول بين الأزهار مرة من المنزل، ومرة إليه فوق الجدول الثرار، وحيثما أدرت البصر رأيت جوانب الريف تنبض متفتحة لحياة وافرة وعيش طريف.
لكأننا نعيش في خلية كبيرة من الضياء، لعلها قلب وردة أرجوانية هائلة، تنفح بأريج الحياة.
الخبز
قلت لك، يا بلاتيرو، إن بلدتنا مقرة روحها الخمرة.
أتراني قلت لك ذلك؟ كلا. إن زوجها لهو الخبز، فضي في الباطن كاللباب الطري، وذهبي في الظاهر كالقشر الناعم.
عند الظهيرة - ووهج الشمس على أحره وأحماه - تدخن القرية، وتفوح بمزيج من روائح خشب الصنوبر والخبز الساخن، وتفتح القرية كلها فاها، كأنها فم واحد كبير يلتهم رغيفا واحدا مثله في الكبر.
الخبز الحياة، يؤدم به كل مأكول: الزيت، الحساء، الجبن ، العنب ... ومن قبلاته نكهة تسيغ مذاق الخمر، والمرق، واللحم، وتسيغ مذاقه بمذاقه، بين خبز ينفرد انفراد الأمل، وخبز له إدام، وهم من الأوهام.
ويقبل صبيان الخبازين على المطايا الرواكض يقفون أمام كل باب موصد، فيصفقون ويصيحون: الخبز. الخبز.
وتمتد المعاصم العارية بالسلال، فيصطدم فيها الرغفان بالأطواق والفطائر بالأقراص.
وسرعان ما يقبل الصغار المحرومون يطرقون الأبواب، ويسألون: كسرة من الخبز لله!
الفتاة المسلولة
كانت تجلس مستوية على كرسي هابط وضيع، يعلو وجهها بياض ميت كبياض السوسنة المهصورة، في وسط الحجرة الباردة.
وكان الطبيب يوصيها بالنزهة في الخلاء، تتلقى شعاع الشمس - شمس مايو البرود - ولكن الطفلة المسكينة لا تستطيع.
قالت: إنني إذا وصلت إلى القنطرة - وهي قريبة كما ترى - لهثت من الإعياء، وخذلها صوتها الهزيل المتقطع، كما تنخذل النسمة الخافقة في حرارة الصيف.
وعرضت عليها بلاتيرو لرحلة قصيرة، فركبته وسرى الضحك على صفحات وجهها الذابل، تفتر عنه الثنايا البيض والعينان الكحيلتان.
وتتطلع النسوة من الأبواب ينظرن إلينا عابرات، ويسير بلاتيرو على هينة، كأنه يعلم أنه يسير بحمل من قوارير، والفتاة على ظهره في ثوبها النقي - كعذراء تتماير - تسري فيها روح الأمل ونفحة الحمى، فتلوح للعين ملكا يعبر القرية إلى سماء الجنوب.
صندوق الدنيا
على حين غرة، وعلى نغم رتيب، سمعت في الشارع الصامت دقات طبل صغير خشن الرنين، وتبعته صيحة مزعزعة مرتعشة، وطرقات أقدام صغار، وصبية يتصايحون: صندوق الدنيا. صندوق الدنيا.
في زاوية من الزقاق صندوق أخضر تعلوه رايات أربع صغار، ماثلا على قائمته في انتظار.
ويدق الشيخ، ويدق، ويحيط به جمع من الصبية المفاليس، أيديهم في الجيوب أو وراء الظهور، وهم ينتظرون صامتين.
ويهرع من بعيد طفل يقبض كفته على دريهم عزيز، فيتقدم وينظر في ثقب الصندوق.
وينادي صاحب الصندوق وهو يدق طبله بصوت ملول: والآن. تتفرج وتشوف، القائد (بريم) على صهوة جواد.
وبعد دقات وصيحات يعود فيقول: ميناء برشلونة، تتفرج وتشوف.
ويهرع أطفال آخرون فيسرعون إلى الشيخ يسلمونه دريهماتهم، وينتظرون تهويله المألوف.
قلعة (هافانا) تتفرج وتشوف.
وكان بلاتيرو قد ذهب مع طفلة الجيران وكلبها إلى زفة الصندوق، فدس رأسه بين رءوس الأطفال، وخامرت الشيخ لفتة عارضة من الفكاهة، فأخذ بأذنه يسأله: وأين درهمك؟!
فتضاحك الصبية (المفاليس)، ونظروا إليه مستعطفين!
لورد
لا أدر يا بلاتيرو هل تفهم الصورة الشمسية؟ أو أنت كأبناء الريف الذين أريتهم صورا منها فلم يفهموا منها شيئا؟
حسنا. هذا هو لورد يا بلاتيرو، ذلك الكليب من فصيلة الكلاب عدوة الثعالب الذي حدثتك عنه فينة بعد فينة. انظر إليه. إنه ... أتراه؟ إنه على إحدى الوسائد في الباحة المرمرية يستشرق، وينعم بشمس الشتاء بين أزاهير الخزامى.
مسكين لورد. إنه جاء من إشبيلية يوم كنت هناك أعمل في فن الرسم، كان أبيض كأنه بلا لون في ذلك الضياء الناصع، وكان بضا سمينا كأنه فخذ امرأة رداح، متوثبا جامحا كأنه دفاع الماء من فم صنبور، وربما تناثرت فيه الشيات المتفرقة كأنها فراشات سود، وعيناه السوداوان تلتمعان كأنهما في حيزهما الضيق مددان جياشان بالعطف الكريم، وتعروه أحيانا لوثة من جنون، فيمضي مهرولا - لغير سبب - بين زهريات الساحة التي تزين كل شيء في الربيع بين حمراء وزرقاء وصفراء تحت الأشعة التي تنبعث من بلور الفضاء كأنها الحمائم التي يرسمها (دون كاميلو)، ويصعد تارة أخرى إلى سطح الدار، فيثير اللغط واللغو في أعشاش الطيور، وتغسله (مكاريو) كل صباح غسلة جيدة بالصابون فيقابل الشمس يا بلاتيرو بضياء كضياء السقوف اللامعة بجصها النقي.
ولما مات أبي لبث لورد طول الليل إلى جانب تابوته يرعاه، ومرضت أمي فلزم سريرها شهرا لا يصيب من طعامه غير القليل الذي يمسك الرمق، وجاءنا بعضهم ذات يوم ينبئنا أن كلبا مسعورا عضه، فأخذناه إلى حوض القلعة وربطناه إلى شجرة البرتقال بمعزل من الناس.
إن نظراته التي كان يرددها وراءه يودع بها الدار يوم احتملناه إلى مربطه لتنفذ في أعماق قلبي الآن كما نفذت فيه يومذاك، وإنها لتبقى بعده كما يبقى الكوكب خبا منه الضياء في عليائه مدرجا في ظل أفوله الحزين، وكلما شكني ألم في الجوانح تجدد في فؤادي ألم النظرة التي طرحها لورد بيد طويلة مسترسلة على طريق الأبد. أي يا بلاتيرو، على مدى الطريق من البركة إلى صنبورة كورنا، كأنها آثار أقدام مختلجة تنم على الأسى والعذاب.
الحمارية!
قرأت في معجم للكلمات الغريبة «حمار جرافي» حمارية. صفة تطلق تهكما على من يشبه الحمار.
مسكين أيها الحمار، بكل ما فيك من الكرم والطيبة والدراية، ويقال تهكما ولا يقال جدا ما ينسب إليك من الأوصاف، فلم هذا التهكم؟! ألا يبلغ من قدرك أن تستحق صفة جدية، وأنت الذي يوصف فتكون صفاته أشبه بصفات موسم الربيع.
لماذا يقال عن الرجل الطيب إنه حمار؟ لماذا لا يقال عن الحمار الرديء إنه إنسان؟! لم هذا التهكم؟ التهكم منك أنت المفكر، صديق الشيوخ والصبية، وصديق البركة والفراشة والشمس والقمر والكلب والزهرة. أنت الصبور المتأمل، الشجي المحب (ماركوس أوريليوس) المراعي والمروج!
وبلاتيرو يفهمني ولا شك، ويرمقني بعينين تتراءى فيهما الشدة واللين، وتنعكس فيهما الشمس من قبتها التي تخضر إلى سواد.
آه! لو درى رأسه الكبير الأشعر - الشعري - أنني أنصفه، وأنني أعرف ما لا يعرفه كتبة المعاجم، وأنني أضارعه أو أكاد في الطيبة والكرم.
لقد أضفت على هامش الكتاب: إن الحمارية وصف ينبغي أن يطلق - تهكما بالطبع - على الحمقى الذين يكتبون المعجمات.
صراع الديكة
لست أدري بم أشبه ذلك الانقباض الذي اعتراني يا بلاتيرو؟!
رابية أرجوانية، مذهبة، ليس لها سحر رايتنا القومية في مقابلة البحر أو مقابلة السماء.
بلى. لعلها راية إسبانية تقابل سماء حلبة الثيران، وتبدو دخيلة لها منظر المحطات على سكة الحديد بين والبة وإشبيلية. احمرار واصفرار يترجمان عن وحشة وانقباض، كأنهما الألوان في كتب جالدوس، أو الألوان على لافتات مخازن التبغ فيما يمثلون به الحرب الإفريقية من صور شائهة.
إنها وحشة كتلك التي أحسها كلما نظرت إلى بطاقات اللعب منقوشة بوشم كوشم الرعاة، أو نظرت إلى أصباغ علب التبغ وصناديق الزبيب، أو اللصائق على قناني النبيذ، أو أنواط الجدارة من مدارس الملاجئ، أو الرسوم الصغار على قطع الشوكلات!
ما بالي هنا في هذا المكان ؟! من الذي قادني إليه؟! إن الدفء في هذه الظهيرة الشتوية يتمثل لي كالنفير الفرنسي في فرقة البهلوان. تنتشر منها رائحة كرائحة الخمر الجديدة، أو جشاء المقانق، أو أنفاس الطباق. وكان النائب هناك، ومعه العمدة، ومعهما (متري) مصارع الثيران القديم من والبة.
وكانت حلقة الصراع صغيرة خضراء، تحف بها وجوه محتقنة كأنها أحشاء الماشية الذبيحة، وجوه تتمثل فيها جلافة القلوب من لحظات العيون، ويعلو فيها الهتاف من النظرات!
وكان الجو حارا، والحلقة الضيقة - حلقة الديكة - مقلقة كأنها عالم محبوس.
وفي شعاع الشمس الذي تحركه سحب من الدخان كأنه ينعكس من زجاج كدر، يلوح الديكان الإنجليزيان - زهرتان خشنتان - يمزق كل منهما أخاه، وينقر عينيه ويواليه بالهجوم الرتيب لحظة بعد لحظة، بعداوة إنسان وأظافر مسمومة أو محمضة، لا يسمع لهما صوت ولا هما يبصران أو يعيان ما يصنعان.
وأنا ... ما بالي هنا على ما يخامرني من غثيان ونفور؟ لا أدري.
ومن حين إلى حين كنت أنظر من خلل الستار الممزق الذي يضطرب في الهواء كشراع الزورق، فأبصر وراءه شجرة البرتقال البريئة تعطر الجو بما تحمله من ثمرات وأزهار.
قلت لنفسي: ما أطيب خلقة هذه البرتقالة! ما أطيب خلقة الهواء! ما أطيب خلقة ذكاء!
ولم أنصرف مع هذا من ذلك المكان.
الحساء
في شفق القرية الهادئ المكبوت، كم من الشعر في تخيل ما هنالك على البعد، وفي تذكر المنسي الخفي الذي قلما يبرز من طوايا الضمير، لكأنها عدوى سارية من رصد قديم يمسك القرية كلها على صليب من هاجس مهجور.
هنالك نفحة من الحبوب النقية التي تجمعت في أهرائها تحت أنجم السماء، يا لسليمان!
هنالك الحراثون يهمهمون في سآمة ناعسة، والأرامل عند الأبواب يفكرن في أعزائهن المفقودين الذين يرقدون على مدى قريب وراء الدور، والأطفال يعدون من ظل إلى ظل عدو العصافير من شجرة إلى شجرة، ولعل ذلك البصيص الخافت على جدران البيوت المتطامنة حيث المشاعل الغازية قد أخذت تحمر قبل الخمود، لعل أطيافا أرضية تدب هناك مشيحة صامتة؟ بين متسوشل طارئ، أو غريب يمشي إلى أرض الحراث، أو لعله لص يتسلل، وكلهم في مرآهم الكئيب المريب نقيض لتلك الوداعة التي يضفيها الشفق على كل شهود من منظر معهود . ويدخل الأطفال من الأبواب المظلمة، فيستمعون - لعلهم - لنجوى الحديث عن أولئك الرجال الذين يستنزفون الشحم من أجساد الأطفال ليشفوا به بنت الملك من داء السلال.
الخاتم
كان على مثال ساعة يا بلاتيرو، وتنفتح العلبة المفضضة الصغيرة، فيدوس به على لبد مشبع بالمداد يستقر عليه كالطائر في عشه. وما كان أعظم فرحي بعد أن تناولته بيدي أن أطبعه عليها، فيظهر على بياضها الاسم المكتوب:
فرنسسكو رويز
مقرة
كم حسدت زميلي في مدرسة دون كارلوس على ذلك الخاتم، وحاولت أن أصنع مثيله من بقايا في نفايات البيت فلم أفلح ولم ينطبع منه شيء! فلم يكن هذا الخاتم كذلك الذي كان في يسر وفي كل مكان يترك تلك الدمغة المقروءة:
فرنسسكو رويز
مقرة
ويفد إلى منزلي - ذات يوم - مع الصائغ الإشبيلي (أرياس) بائع جوال يبيع أدوات الكتابة، فما كان أوفر ثروته المعروضة من المساطر والبراجل والروايات من جميع الألوان والطوابع والأختام. فكسرت حصالتي ونقدته ربع الريال الذي كان فيها ليصنع باسمي خاتما كالخاتم المرموق، واستمهلني أسبوعا وما كان أطوله من أسبوع، وكم تلاحق خفقات القلب عند وصول البريد! وكم من خيبة خامرتني كلما وصل الساعي في الطريق ولم يقف على باب الدار!
وبعد لأي وصل الخاتم المنشود، هنة صغيرة وقلم وريشة وحروف، وضغطت على لولب فبرز الخاتم جديدا يتلألأ، فهل بقي في الدار شيء لم ينطبع عليه؟ وهل في الدار ما ليس بملك لصاحبه؟!
جوان رامون خيمنيز - مقرة
حريق الغاب
الناقوس الهائل:
ثلاث دقات. أربع دقات ... حريق!
تركنا مائدة العشاء، وصعدنا الدرج الضيق وفي صدورنا ضيق، وعلينا غاشية من الصمت المجهود، إلى السطوح.
صاحت (أنيلا) وقد سبقتنا إلى رأس السلم قبل انتهائنا إليه: إنها في حقول لوسينا!
دنج. دونج ... دنج. دونج. سمعنا الناقوس يجلو دقاته، ويجيلها في أسماعنا ويرن أو يرين بها عل صدورنا، وخرجنا إلى الطريق، يا للغوث!
ما أعظم! ما أهول! إنه حريق جسيم!
وعلى مدى النظر من أفق الصقور يتأجج اللهيب المكبوح كأنه طلاء من القار والسيلقون، أشبه شيء بصورة السباق من عمل (بيير دي كوسيم) حيث ترتسم النيران سوداء، حمراء، بيضاء. تسطع حينا، وتتورد حينا، وتعود أحيانا في شحوب الهلال الوليد.
سماء أغسطس عالية هادئة، والنار فيها تلوح كأنها عنصر من عناصرها الدائمة، وفي جانب منها يسري شهاب ثاقب ثم يهوي فوق مونجاس. وليس من حولي أحد. وحيد!
وأسمع نهيق بلاتيرو فأثوب إلى نفسي، وقد ذهبوا جميعا فتعروني رعشة الليل في هزيعه الأخير، ويخيل إلي أن الماجن الذي حسبته في صباي يضرم النيران في الآجام قد عبر بي في تلك الساعة. إنه طراز من (أوسكار وايلد) مقري، يدب الآن شيخنا موخوط الفودين بالمشيب، يلف سمنته ويدرج في سراويله الموشعة بالبياض ولون القسطل منتفخة بعيدان الثقاب الطوال.
صراع الثيران
أراهن يا بلاتيرو، أنك لا تعلم ما يريده هؤلاء الصغار.
إنهم يسألونني أن أعيرهم إياك ليذهبوا في طلب مفتاح الحلقة، حلقة الصراع التي ستنعقد عصاري اليوم، فلا تبال. لقد قلت لهم: لا يخطرن شيء من ذلك على بال.
إنهم كانوا في لهفة جامحة يا بلاتيرو، والبلد كله يتلهف مثلهم على رؤية الصراع: تعزف الفرقة من مطلع الفجر على أبواب الحانات حتى كلت من العزيف، والمركبات مصعدة منحدرة ومنحدرة مصعدة، على الشارع الجديد، وهناك ينقشون (الكنارية) مركبة المصارعين الصفراء التي يطوفون عليها أنحاء القرية ويهيم بها الأطفال الصغار، وقد عريت الحدائق من أزهارها التي تزف إلى السيدات الراعيات، وإنها لأمسية كثيرة الأشجان يرى فيها الفتيان وهم يترنحون في الطريق بقبعاتهم العراض وسجائرهم المشتعلة، وقمصانهم التي تفوح منها روائح الخيل والخمور.
وعند الساعة الثانية يا بلاتيرو - تلك الساعة التي تنفرد فيها الشمس بعزلتها، ويتهيأ المصارعون والراعيات للظهور بحلل الميدان - سأخرج أنا وأنت إلى الخلاء من وراء الطريق كما صنعنا منذ عام. وما أجمل ما يكون الخلاء حين يخلو حقا من عابريه! إن الكروم مهجورة، والبساتين مقفرة، وما من أحد هناك - ولو شيخا هرما - يحنو على عنقود، أو يميل إلى جدول. وعلى البعد في المدينة تعلو جلبة الصراع من هتاف الحناجر، وتصفيق الأيدي، ودقات الطبول، ونفخات الزمور. وإن الروح يا بلاتيرو، لتبسط ملكها على ساحة الطبيعة بما رحبت حيث تسخو لمن يمنحها حقها من التحية بكل ما لديها من كنوز الزخرف والجمال.
قطوف الكرم
قليلا ما وفدت الحمير بقطوف الكرم هذا العام يا بلاتيرو، وعبثا يخطون على ألواح الإعلان أرقام الأسعار والأثمان.
ستة ريالات!
أين هي حمير لوسينا، وحمير المنث، وحمير پالوس؟
أين هي موقرة بالرحيق الذهبي الأسود يطل من العناقيد على الجانبين؟ أين هو ذلك القطار المتصل من البغال ينتظر دوره في المعصرة ساعات بعد ساعات؛ إذ يسيل النبيذ الحلو وتمتلئ منه طاسات وجرار، يحملها النساء والصغار؟
ما كان أجمله موسما يومذاك! ما كان أجمل الموسم في ديثمو يا بلاتيرو تحت شجر السمور! إذ يهزجون ويهرجون، وهم يغسلون الزقاق إذ يقبل الرجال عراة الأقدام؛ ليفرغوا فيها عصيرهم الحلو وهو يفور بالزبد، وإذ دقات المطارق على أخشاب الدنان تتردد من قبل الطنف القريب.
وعلى صهوة (أميرال) تنبعني نظرات الود من أعين الحصاد، وألج من باب إلى باب، حيث يتقابل البابان، يفضي كلاهما إلى أخيه بفيض من الحياة والنور.
يديرون عشرين معصرة بالليل والنهار، وكم من جنون! كم من سورة! كم من رجاء!
أما في هذا العام يا بلاتيرو فالنوافذ كلها مغلقة، ومعصرة واحدة كافية، وعصار واحد أو اثنان، يقضيان ويزيدان.
ولا بد لك من عمل يا بلاتيرو، فليس بالحسن أن تستسلم إلى الكسل طوال النهار.
إن الحمير الأخرى - بأوقارها الثقال - ترمق بلاتيرو بنظراتها، فلا تنظرن إليه شزرا ولا تضمرن له سوءا، وعلي أن أحمله بوقر من الكرم فأقوده على مهل إلى المعصرة، ثم أعود به ثانية وهم لا ينظرون.
النيازك
في سهرات شهر سبتمبر نجلس على الرابية وراء حائط البستان، نصغي على البعد بين أعطار الزنبق على شط البركة، إلى ضجة المدينة في محفل العيد، ويجلس - قبالتنا - (بيوزا) حارس الكرم العتيق مخمورا يعزف على ربابته في ضوء القمراء.
وتبدأ ألعاب النيازك أخيرا: تبدأ بفرقعتها الصماء، يتلوها صاروخ واحد يمضي مصعدا، ثم يتنهد عن نفثات من الشظايا كالشرر في المقلة الزائغة؛ إذ يضاء لها الخلاء في أفواف من النور حمراء وقرنفلية وزرقاء؛ وإذ تنحني أقواسا كأنها العذارى يطرقن للسجود. أو شجر الصفصاف يتدلى بالزهر المنضود وما أبدعها ثمة منة!
وتسري القشعريرة في أوصال بلاتيرو، كلما ارتفعت فرقعة جديدة من صاروخ طواويس متوهجة في جنة من النجوم.
وتسري القشعريرة في أوصال بلاتيرو كلما ارتفعت فرقعة جامحة من صاروخ جديد، وكلما تناثرت شظاياها فتطاول تحتها ظله وتقاصر على سفح الرابية، أكاد ألمح الخوف بين حدقتيه السوداوين!
فإذا انتهى المحفل إلى أوجه، وارتفع من الشظايا المتفرقة إكليل القلعة الذي يبهر النساء فيغمضن العيون ويضعن الأصابع في الآذان؛ بلغ القمة عند بروج الكواكب، وخرج بلاتيرو ينهق كالمجنون بين دوالي الكروم صوب أشجار الصنوبر الساكنة، كأنها روح يطارده الشيطان.
الراعي
على قمة الرابية التي يصبغها المساء هنيهة بعد هنيهة بظلمائه المرهوبة، يجلس الراعي الصغير كالشبح الأسود قبالة الأفق الأخضر، ينفث أشجانه في قصبة المزمار تحت الزهرة - ربة الحب - متألقة في سمت السماء.
وبين أريج الرياحين التي تكاد تتجسم بعطرها كلما اختفت ملامحها وغابت في ظلالها، تشتبك رنات الجلاجل من قبل الخراف المسرعات، متفرقات متقاربات قبل أن يتلاقين في وجهة القرية على جادة الطريق. - ليت لي ذلك الحمار يا سنيور!
كذلك صاح بي الصبي، أسود مما كان بين النور والظلام، كأنه واحد من عابري السبيل الذين ألفناهم في رسوم الإشبيلي الطيب برتلمي اسبتان.
ووددت لو نزلت له عن حماري، ومن لي أن أعيش بغيرك يا بلاتيرو؟!
لقد كان القمر يصعد إلى الذروة على دير منتماير يريق ضياءه برفق وحنان على الأرض التي يخيل إليك أنها من مغاني الأحلام تحف بها أهداب هفافة لا تمسكها الأوهام. والصخور تتطاول، تتقارب، تمعن في الشجى والحنين، كلما علا نواح الماء في الجدول المختبئ عن العيون.
ونسمع الصبي ونحن نبتعد عنه يناجي نفسه بطمعه المسموع: أي. أي. ليت لي ذلك الحمار!
أميرال
أنت لا تعرفه. إنه ذهب قبل أن تجيء، ومنه تعلمت النبل كما ترى، وتلك هي البطاقة التي تحمل اسمه، وعندها سرجه ولجامه ومثواه.
ما كان أبهج اليوم الذي رأيته فيه يخطو إلى الرحبة لأول مرة يا بلاتيرو، مقبلا من الكثبان يحمل بين جوانحه خزانة من القوة والمرح والحياة!
ما كان أجمله وأحلاه! أخرج به مبكرا كل صباح إلى الساحل، وأركض به بين العيون، وأثير بركضاته سحبا من الغربان حائمة حول الطواحين، ثم أقبل به على الشارع الجديد، يتخايل في خطو ثابت وئيد.
وفي أصيل شتاء، جاءني بالمنزل السيد ديبون يحمل سوطه في يده، وترك على المائدة بضع ورقات من ورق العملة، ومضى إلى الرحبة مع (لورد)، ثم أنظر من النافذة عند المساء، فإذا بمركبة السيد ديبون في الشارع الجديد يجرها أميرال.
لا أدري كم غبر من الأيام بعد ذلك وأنا محسور كسير، وجيء بالطبيب فوصف لي البرومود والأثير وما لا أدري من العقاقير لأنام، وما زلت أذكره حتى ذهب الزمن بذكراه، كما ذهب بذكرى لورد والبنية الصغيرة، وكما ذهب ويذهب بكل ذكرى.
نعم يا بلاتيرو، كنتما خليقين أنت وأميرال أن تصبحا نعم الصديقين!
الأسطورة
منذ صباي يا بلاتيرو أكن في ضميري فزعا من الأسطورة، ومن البيعة، ومن الشرطة، ومن مصارعي الثيران، ومن أرغن اليدين!
إن الخلائق المساكين التي تنطق بالهذر من أفواه القصاصين قد خلفت في نفسي نفرة منها، كنفرتي من أجسامها المتجمدة في متاحف التاريخ الطبيعي، وكل كلمة تفوه بها كانت تقع عندي موقع العين الزجاجية والجناح السلكي والأعضاء الملفقة من بضاعة التزوير المصنوع. فلما رأيت هذه الخلائق المروضة في والبة وإشبيلية لاحت لي هناك كأنها بقايا كابوس منسي من أيام صباي.
وكبرت يا بلاتيرو، فتعلمت من لافونتين كاتب الأساطير الذي طالما حدثتك عنه كيف أطمئن إلى الحيوان الناطق؟ وكيف أحسب بيتا من أبيات قصيدة كأنه هو الصوت الذي يفوه به الغراب والحمامة والعنز؟! وتعودت أن أعرض عن ختام القصة حيث تتعلق القطة، كما تتعلق الريشة المنبوذة والرماد المذرو في الختام.
ولا يخفى عليك يا بلاتيرو، أنك لست بالحمار بمعنى الكلمة الشائعة، ولا بالحمار في تعريف المعجم الذي وضعته الأكاديمية الإسبانية. إنما أنت حمار بالمعنى الذي أفهمه، ولك لسانك الذي لا ألحنه، ولا ألحن مثله لسان الوردة، ولا الوردة - هي أيضا - تلحن لسان البلبل، أو البلبل يلحن لسانها. فلا تخش حين تراني أنظر إليك، وأقرأ في كتبي أن أجعلك بطلا من أبطال الأساطير، يجاوب بلفظه المزعوم حوار الثعلب أو القنبرة، ويتشدق آخر الأمر بعظة الختام على منوال هاتيك الخواتيم.
لا يا بلاتيرو. حاشاك!
المساخر
اليوم جميل يا بلاتيرو!
إنه (إثنين) المساخر، والأطفال يتنكرون بالأقنعة الملونة والحلل الزاهية، وقد ألبسوا بلاتيرو عدة الركوب المغربية، مزركشة بالأحمر والأزرق والأبيض والأصفر من النقوش العربية.
والمطر، في صحبة الشمس، في صحبة البرد، في صحبة الشآبيب من قصاصات الورق أشكالا وألوانا من الشرفات تتماوج مع رياح الأصيل، والمعربدون بفرحة العيد يدسون أكفهم يبحثون عن الدفء في طيات الجيوب، وجمع من النسوة يلقانا في الميدان بثياب فضفاضة، يحكين بها ثياب اللائي مسهن عارض الجنون، ويقبلن مرسلات الشعور، مزدانة غدائرهن بالرياحين والعطور، محدقات ببلاتيرو يدرن حواليه ويهربن منه وإليه، وهو بينهن كالعقرب التي أحدقت بها ألسنة اللهيب، يتلمس سبيل الهروب، ولا سبيل للهروب. ويستصغره النسوة فلا يخفنه ولا يبتعدن منه، ولا يزلن به عابثات لاهيات، ويقتدي بهن الصبية فيسخرون من حيرته وضيقه، ويركضون كركضه، ويصدعون الفضاء بنهيق كنهيقه، ثم يصفقون إذا أجابهم، ويغدقون عليه إعجابهم، ويضطرب الميدان كله حولهم، خليطان من النهيق والضحك، ونفخات المزامير ودقات الطبول، وأصداء الأناشيد.
وبعد جهد جهيد يعتزم بلاتيرو عزمة رجل، فيخترق الحصار ويفلت من الإسار، ويدنو مني مقشعر البدن، عاريا من العدة والرسن، ما له وما لي بهذه الألاعيب؟! كلانا في نبوة منها، وكلانا في جوارها غريب.
الموت
ألفيت بلاتيرو مضطجعا على فراشه من الهشيم، ذابل العينين جد حزين، وذهبت إليه وربت كتفيه، وحدثته ألاطفه وأواسيه، وأحاول أن أنهض به على قدميه.
وجاهد المسكين أن ينهض وهو يرتعد، فثنى قدما ووقف بقدم، إنه لا يقوى على القيام، فربت كتفيه مرة أخرى ودعوت بالطبيب.
ونظر إليه الشيخ داريون ففتح فمه الأدرد، وهز بصلة رأسه ذات اليمين وذات اليسار، وراح يقول: لا أمل!
ولا أدري بم أجاب، فالمسكين يموت، ولعله جذر من الجذور السامة أكله في العلف بين الحشيش.
وعند الظهيرة قضى بلاتيرو، وانتفخ بطنه القطني كأنه كرة، وامتدت قوائمه متخشبة، وتساقط شعره كما يتساقط شعر العرائس الباليات، وأتلفت في الحظيرة الصامتة، فلا أرى إلا فراشة مثلثة الألوان تمر بالشعاع النافذ من الثقب، فتبدو كلما مرت به كأنها شرارة من اللهيب.
إلى بلاتيرو
بلاتيرو العزيز، حماري الصغير المحبوب، الذي حمل روحي - ليس إلا روحي - بين تلك الدروب من شجيرات الصبار والتين والعلند والياسمين.
إليك يا بلاتيرو، هذا الكتاب، منك ولك، وأنت قادر على فهمه الآن في ظلال النعيم. حيث تقيم روح الأرض الخضراء - أرض مقرة - التي لا بد لها من روح صاعد في جوار عليين، وعلى متنه من الورق ترتفع سريرتي، وتمعن يوما بعد يوم في عالم الصفاء.
نعم إنني لأعلم كلما درجت في المساء على مهل بين شجر البرتقال إلى الصنوبرة التي تسهر على مرقدك الأخير، إنك في غبطة المروج الأبدية تلمحني من وراء تلك الزنابق البيض التي نبتت من فؤادك، كلما وقفت لديها أحييك.
إلى بلاتيرو في ثراه
إلى جانبك - لحظة - أقبل يا بلاتيرو لأسكن إليك، لم أعش، ولم يحدث شيء. كل ما هنالك أنك حي وأنني معك.
أعود إليك وحيدا.
إن البنات والبنين اليوم نساء ورجال. وقد صنع البلى صنيعه بثلاثتنا - وأنت تعلم - فانطرحنا في صحرائه غانمين أنفس ما يغتنم. تلك ما نملك من قلوب.
قلبي! أجل عساه يكفي صاحبي معي. عساهم يفكرون كما أفكر. لا. بل معاذ الله. وحماهم الله أن يحملوا ما حملت من آلام وأوزار وسيئات.
بأية غبطة، وبأية راحة، أبثك ما أقول وأنت وحدك به عليم.
سأنظم أعمالي فأجمعها كلها في حاضر يرجعون إليه في عالم الذكريات، فلا يبقى لديهم من الماضي غير زهرة كالزهرة البنفسجية ذات لون وحيد تبث رياها في ظل ظليل.
إنك وحدك يا بلاتيرو في عالم الماضي، وما يغنيك من عالم الماضي؟ وأنت في العالم الذي لا زمان فيه، أنت الذي تملك ثروتك وافية - كثروتي أنا - وما هي إلا الشمس التي تتوهج كل صباح وتنبض بسرمدية الله.
مقرة 1916
آراء وخواطر
في الولايات المتحدة، التي لا ترزح مثلنا بأثقال التقاليد من بقايا الأرستقراطية الخاوية أحيانا، أو أثقال الديمقراطية المبهمة في كثير من بلاد العالم القديم، حيث لا حاجة إلى التخلص من بعض الصعوبات الموروثة للنفاذ إلى جوهر الحقيقة التي تحيط بها تلك التقاليد، يتسنى لي أن أوضح لنفسي ما موضع الاثنتين - الأرستقراطية والديمقراطية - في المجال الاجتماعي، وما هي الصفة التي لا تتوافر لهما على حسب المفهوم منهما في القارة الأوروبية.
إن الذي يسمونه الشعب هنا يترقى في درجات من المعيشة الحسنة، ويحصل على قسط عادل من الثقافة الميسرة أثبت وأظهر مما يتاح لأمثالهم في سائر أنحاء العالم التي أعرفها، حتى لو أدخلنا في حسابنا خطر التعرض للركود الذي يصيبهم من فقدان الأمثلة العليا والمبادئ الوجدانية، الذي يجنيه عليهم هذا الرخاء نفسه؛ إذ ينقلهم إلى طبقة برجوازية من قبيل الطبقات المعهودة في العالم القديم، ويبتعد بهم على السواء من الشعب ومن طبقة الوجهاء.
فالوجاهة، أو الارستقراطية الحقة - كما أفهمها - هي حالة يتفق فيها للإنسان على مثال رفيع أن يهذب وجدانه أو كيانه الباطن، وأن يؤمن ببساطة المعيشة الخارجية، فيجمع بين المثالية والتدبير المقتصد، وبهذا يصبح أنبل الوجهاء إنسانا، أقل ما يكون افتقارا إلى شيء يأخذه من العالم الخارجي، فهو لا يزهد في الضروريات، ولكنه كذلك لا يتعلق بالعوارض والنفايات.
أما الديمقراطية فما هي؟ إنها في مشتقات اللغة تعني حكم الشعب، ولا بد للشعب الحاكم من أن يصلح نفسه جسدا وروحا، ويعنى بصحة تكوينه وصحة تفكيره، ومتى تم للشعب هذا التهذيب فهو في الواقع ند للارستقراطية، لا توجد معه طبقة دونه ولا منازعة بين طبقات. فإنما هي برجوازية متعفنة تلك التي تريد أن تحكم من دونها دون الشعب ودون السراة، وليس من العدل أن يظل الشعب كتلة جافية من الدهماء على حاله في كثير من البلدان بفضل الصخابين من حماته. فلست أومن بإنسانية متراصة على هذا المثال، متساوية بالمزية التي لا يحسن الاكتفاء بها والبقاء عليها، ولكني أومن بالمجتمع الذي تتلاقى الشخصيات الفردية فيه على سنة المساواة.
ولا أراني الآن بحاجة إلى تعريف الديمقراطية؛ لأنها - فيما أراه - سبيل متوسط، وطريق للوصول منه إلى ما بعده؛ للارتفاع بالشعب إلى الحالة المهذبة التي ينبغي أن يصير إليها. فإن كان لا بد من التعريف، فلتكن الديمقراطية الحقة هي صاحبة الصفات الأرستقراطية التي لم تتحقق لأدعياء هذه الطبقة.
وكثيرا ما تخرج الأفكار إلى الحياة وتنتهي، وهي على خطأ وضلال وتلفيق مصطنع، كما حدث لفكرة «السلفية» مثلا؛ فإن كل أثر فني يصبح (سلفيا)
Classic
إذا بلغ من قبوله أن يثبت ويعيش مع الأجيال، وبهذا كان أدب الإغريق في القرن الخامس (سلفيا)، ووجب إذن ألا يختلط العمل الذي تغلب على الزمن، والعمل الذي يدعي أصحابه مزية السلفية ولم يتغلب على شيء. ومما يزيد الاختلال أن يسمى عمل من الأعمال سلفيا جديدا
New Classic ، وما هو في الحقيقة غير سلفي مدعى، أو سلفي زائف.
وإن شيئا شبيها بهذا ليحدث على نحو آخر ووضع مختلف في أمر الديمقراطية والأرستقراطية.
فليس الديمقراطي ديمقراطيا، ولا الأرستقراطي أرستقراطيا؛ لأنه يحكي أحدا قبله كما يحكي السلفي المدعي من أصبحوا سلفيين بحكم الغلبة على الزمن.
فالرجل الممتاز بجميع عيوبه - ولا يخلو إنسان ممتاز من عيوب - قد يستوفي حظه من الإدراك، على نحو ما اتفق لرجل مثل ليورنادو دافنشي جمع بين التهذيب وسعة الصدر، وحقق وعيه وحياته كل يوم عاش فيه، ولكن ذرية هذا الرجل لا يصبحون ممتازين لمجرد انتمائهم إليه ومحاكاتهم له في أحواله، فما من أحد يصير أرستقراطيا متقدما، أو ديمقراطيا متقدما إلا ذلك الذي يصير كذلك بمجهوده وتحقيقه لوعيه ووجوده. وإذا صح هذا بالنسبة إلى النوابغ الممتازين ، فما بالنا بالذرية الخاوية من النكرات التي تلتصق بأشجار النسب عارية من الورق والثمر؟!
وأعيد وأكرر أن الأرستقراطي لا يسمى أرستقراطيا لأنه حلقة من سلسلة ميزها العرف في الأزمنة الغابرة، ولا يسمى الديمقراطي ديمقراطيا لمجرد دعوى يدعيها عن مبادئ التقدم في المستقبل، ولا بد من إعادة النظر في الحالتين لوضع الأرستقراطية والديمقراطية معا على أسسهما القويمة، فالديمقراطية على نحوها الشائع بقية من الماضي؛ لأنها تطلع إلى الغد يقوم على مظالم الأمس وسيئاته، والأرستقراطية - كما أفهمها - ينبغي أن تكون أملا مقبلا لأنها مصير الشعب الذي استوفى حقوقه وتهذيبه. وخليق بذلك أن يقنعنا بأننا لسنا أرستقراطيين لأننا سلالة بيت من أصحاب الأدمغة الثورية أو الثعبانية، وأصحاب الشارات الموسومة بالطنين دون أن توسم باللحن الموزون، أو سلالة سلف ملتبس الخلائق قتل كذا من العرب، أو أعان ملكا من الملوك بالذهب المغتصب. كلا، ولن نكون ديمقراطيين؛ لأننا سلالة كائن مستذل من بقايا العجز والزراية، ولكننا نصبح أرستقراطيين لأننا نرتفع أو نطمح إلى الارتفاع إلى حالة نصنعها جميعا، ونرتقي بها إلى غاية الوسع من الرقي في الزمن المقبل، ولن نصبح أرستقراطيين بإسناد ظهورنا إلى ماض يتراجع ويتهدم باسم بطل بهيمي من حملة السيف أو التابوت.
وليست الأرستقراطية - لغة - إلا أن يوكل الحكم إلى الأحسن والأفضل ممن عرفت لهم هذه الصفة بالخبرة والتجربة، وينبغي أن تكون الديمقراطية بهذا المعنى؛ وإلا فهي كلمة خاوية بغير معنى إذ كان الشعب خليقا أن يكون أحسن الطبقات وأفضلها.
وإذا قيل كما يقول الأرستقراطيون التقليديون: إن الله كان في البداية، فنحن جميعا من عند الله، والله هو القبلة التي علينا جميعا أن نسعى إليها، وأن نجعله أمامنا غاية المسعى، أليس إلى الله مصيرنا أجمعين؟! أليس الله أمل الإنسان المأمول؟! •••
في هذه المحاضرة أقصد البلاد الإسبانية بالكلام؛ لأنها البلاد التي أعرفها وأعرف بلاد العالم القديم من طريقها. فأقول: إن الفلاحين - ولا أذكر الصعاليك فإنهم جماعة أخرى - هم على العموم الأرستقراطية البدائية، وهم يمثلون الوجاهة والشعبية معا، ويثبتون خطأ الذين يعرفون الطبقتين بالكلمات والمصطلحات، وقد عرفت بلدي وتنقلت في أرجائه، فلقيت في عزلة الريف نماذج حسنة للوجاهة التي تنشد التقدم، وأعزو ذلك إلى التطبع العام في البيئة، وإلى الملابسة الفردية بين الإنسان وبين حياة طبيعية صاحية طيبة على مثال الحياة في جملة البلاد الإسبانية، وأنوه بهذه الملابسة - على وجه خاص - لاعتقادي أن الشرف إنما يتوافر لكل فرد، ولكل جماعة، ولكل أمة، بمقدار الوفاق فيما بينه وبين الحياة الطبيعية من وشيجة متصلة، أو فيما بينه وبين الطبيعة على الجملة؛ لأننا عند الطبيعة - في الواقع - نلتقي بالعواطف والمعاني التي تترجمها إلى لغة الحياة الاجتماعية المثلى، فلا شيء كالطبيعة يروض النفس على اعتدال المزاج وحفظ التناسب بين الأمور، ولا شيء مثلها يلغي الخسة ويبطلها، كما أنه لا شيء مثلها يميزنا ويرفعنا إلى العظمة. وقد يلوح لنا أننا عند الطبيعة أصغر منا عند المدنية (خلافا لكم في نيويورك حيث المدنية مأوى طبيعي من النبات)، ولكننا نحس على هذا بأننا نضارع طبيعتنا التي نعيش فيها سعة وكبرا، ويحس هذا كل من وهب نفسه للطبيعة، وقابل بين موقفه منها إنسانا أمام اتساعها وكبرها. وإن الإنسان الحضري لكالشجرة المقتلعة التي تنمي الورق، وقد تنمي الزهر والثمر، ولا تزال كل ورقة وكل زهرة وكل ثمرة آية من آيات الحنين إلى أمه الأرض التي فارقها.
وإن الفلاح الإسباني في شعوره بالحلول الطبيعي والبواطن الخفية يتسم باللطف والدعة والكرم؛ لأنه يحب. وليس الشعور بالوحدة بين الإنسان وبواطن الطبيعة إلا شعورا بألفة الحب، وهو هو سمة النبل الصحيح.
إنه يحب عناصره من الأرض والهواء والنار، وبهذا الحب تتناسق حياته والسماء الزرقاء، وإذا أراد أن يتمم وجوده بالعدل الاجتماعي، فليس يتطلب إلا أن يوضع في وضع اقتصادي له كرامته وبساطته على نحو يختلف بعض الاختلاف من تلك العناصر التي ينفخ فيها كل يوم من مدد حياته، والشعب الإسباني - من ثم - يكمل كما يكمل اليوم شعب هذه البلاد بنهجه على سبيله المثالي من وحي شعوره العميق ومسلكه المطبوع.
ولكن ما أقل ما نفهم نحن الإسبان عما يقال له طبقة عليا؟! وما أسوأ ما نجري مجرانا مع تلك الطبقة الخارقة منا؟!
ما أقل ما نصنعه بعون الجماهير النبيلة لمعاونتها على إنشاء حريتها وتقريرها؟! •••
إن الكاتب الإسباني الأندلسي سلفادوري رويدا الذي حاول جهده أن يصور بالشعر حياة الحضر والريف في إسبانيا، قد كان أخلق أن يعظم فوق عظمته بين الأمة لو أنه - وهو ابن الشعب - حاول أن يصوغ نفسه في هذا القالب بدلا من صوغها في القالب الأجنبي الذي هو غريب عنه. وقد ذهب مرة إلى حفل شعبي بمدريد فسر به سرور الطفل، وبذل جهدا جهيدا لكي يبدو مع الشعب في حفله ولا يلوح غريبا عنه كما أخبرني، ولما وضع نفسه في هذا الزي لم يشأ أن يزورني لأنه حسب أنه يجرح بهذا الزي ما يسميه بذوق الأرستقراطية عندي، وقلت في خاطري: أي رأي لهذا سلفا دوري رويدا الذي يظن أنه يجرح شعوري إذا لبس النعال، ويجرح شعور الشعب إذا لبس الحذاء؟!
ولقد كنت يومئذ ناشئا، وكان هو في الخمسين، فاجترأت مع ذلك أن أقول له: إنني أوثر أن تحضر لي وفي قدميك نعال إن كنت ترى أنها لائقة بك، ولا يسرني أن تدوسها لمجرد اعتقادك أنها مناسبة للمقام. وأحسب أن المكان الذي لا ينبغي أن تذهب إليه بذلك النعال إنما هو ذلك الحفل الذي كنت فيه. والحق أنه لم يبد كأنه واحد من آحاد الشعب لأنه لبس نعالهم، ولكنه بدا كذلك لتلك الملامح الطيبة التي تشبه ملامح الصناع، ولا تتفق وما كان يتزيا به ليذهب إلى المحفل الأدبي الذي رأيته فيه عند دون جوان ڤاليرا، ذاك الكاتب الذي كانوا يعدونه من أبناء الطراز الأرستقراطي في معيشته وفي القصة كذلك، ويا للأسف والأسى!
كلا. يا رويدا حيث أنت الآن ترى في ثرى وطنك ولديك روح الشعب الذي لم يتمثل فيك ... كلا. لا بالنعال لتبدو في زي الشعب، ولا بالحذاء الأنيق لتبدو في زي النخبة من السادة المجمعيين. فلا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة الشعب، ولا إلى الرياء لمجاراة النبلاء، ولا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة نفسك؛ فإن النعال البسيطة المريحة النظيفة التي تعيش أطول زمن هي التي نحتاج إليها جميعا من ديمقراطيين وأرستقراطيين.
إن الرجل الشاعر بكيانه ووعيه يبدي نبله بغير إخفاء نفسه بين الشعب، وبغير شعور منه بفقدان الاحترام الواجب لذلك الشعب الذي عليه أن يعاونه في هذه الشئون وفي سواها، وعلى الإنسان أن يبدو حيث كان كما كان، وكما صنعته ثقافته وتربيته، غير نازل عن حقيقته من أجل شارة لم يبدعها بمشيئته، وإن اجتناب حب الظهور لعلامة حسنة في الإنسان، ومثلها في الحسن أن يلتزم الإنسان ما يناسبه ولو تعرض لاعتزال غيره.
إن دون ميجويل دي أنامونو، وهو رجل عظيم ونصير عظيم للفردية، كان بنشأته القسطلية مزيجا من الشعبية والأرستقراطية على نمط مرعب لا يتقبل التبديل، وكان منذ رأيته لأول مرة يلبس جاكتة تزرر إلى العنق، ولا يلبس معها قلادة، ولا يضع على رأسه غير قبعة صغيرة مفرطة في الصغر، كأنها مشط نحيل مغروس في حمالة ضخمة، وكنا نراه ونتمثله على هذه الصورة دون أن نلقي بالنا كثيرا إلى غرابة فيها. وحدث ذات يوم قبيل وفاته وبعد أن تقرر مكانه وتقررت تصانيفه، أن دعي أثناء قيام الجمهورية الإسبانية الثالثة إلى القصر لمقابلة رئيس الجمهورية، فخلع تلك الجاكتة وتلك القبعة، ولبس الطوق والقلادة وما كان قط يلبسهما في عهد الملك - الذي سماه مرة في دار الحكمة: ملكي - لدهشتي ودهشة سامعيه يومذاك.
وقد لاح لي أنامونو مبتذلا ممسوح الملامح يوم رأيته في صورته الشمسية، يحف به الصحفيون وهو خارج من قصر الرياسة، متنكرا على ذلك المثال من صورته المعهودة، غريبا في مرآه عن كل ما ألفناه، وما اقترن بصورته من جهاده وتجاريبه.
كلا، يا دون ميجويل أنامونو الذي أضر به كثير من الناس وأضر بنفسه!
ما كان بك من حاجة أن تخدع أولئك العلية بخداعك لسواد شعبك، وإن كسوة بسيطة كالتي يلبسها كل أحد، أو كالتي تبررها منزلتك الشخصية في غير أناقة ولا كلفة لتصلح لك في كل قصر وفي كل مقصورة، ما دام هناك قصور ومقاصير. وما كان بك من حاجة إلى لبس القلادة أو خلعها أنت الذي علمتنا كثيرا، والذي كنت طوال أيامك محاسبا لنفسك، ما أغرقت في ضحك قط، ولا أغرقت في نحيب قط، وما زدت على أن تبتسم أو تتأوه في سمت الأرستقراطية الصحيحة. كيف نسيت كل هذا؟
نعال، جكتات، قلائد، أطواق ... تلك على ما يظهر أشياء ضرورية جوهرية لوجودنا.
ونذكر الآن اللحية الإسبانية؛ فإن اللحية في إسبانيا محك آخر وعلامة أخرى، وما أكثر ما عرف الإسبان من اللحى التقليدية. ما أكثر اللحى فيمن نعرفهم من طبقات الشعب والعلية! ولم لا؟ لم يجوز للغني أن يحمل لحية ولا يجوز للفقير أن يحملها؟! لم يجوز ذلك للطبيب ولا يجوز للنجار؟ لم يجوز لراسم السحب ولا يجوز لراسم الأبواب؟ إن كاتبا إسبانيا في الخمسين الآن نشأ في بيئة برجوازية، وعاش أياما كثيرة من حياته بين طبقات الشعب، يحمل لحيته كما يرى من الصورة التي رسمها له يواقين سوين في مدريد. ولما نشبت الحرب غير المدنية وغير القومية خلافا لمن يسمونها بالمدنية والقومية مع ما قذفتنا به من البرابرة من كل نوع ومن كل صوب ليمزقوا إسبانيا ويمعنوا في طعنها. لما نشبت تلك الحرب الوحشية كان بعض الموظفين يحملون اللحى شعارا أرستقراطي؛ أعني شعارا كاذبا لأن الطرف الآخر كان فيه كثير من القادة والرهبان يحملون اللحى. وجعل الفوضيون الذين يرون في الصور بلحاهم، أو مهملين الحلاقة، ينظرون شزرا إلى جماعة الملتحين بأعين تطل من وجوه بقيت فيها من اللحى بقية كبقية أعواد السنابل المحصودة في حقولها، وإني الآن لتال عليكم نبذة مسلية من رواية - حربية - بقلم أرنستينا دي شمبرشين حيث تقول:
في عرف بعض الأذكياء الألباء أن كل من عبر عن نفسه بأسلوب مصقول وعلى نحو مهذب، فلا بد أن يكون من جماعة الفاشيين، وأستطيع أن أذكر لذلك مثل الشاعر الذي انضوى من اللحظة الأولى بباعث نفساني كريم إلى صفوف الدهماء، واهبا قواه الروحية والمادية بلا قيد ولا شرط في سبيل تلك القضية، ولم يكن في الواقع إلا ضحية لاختلاط ذهني محزن، وقد سألته أفريقية صديقته المعجبة به أن يزور ملجأ الأطفال ليسليهم بأحاديثه؛ إذ كان مشهورا بالإفاضة والتجلي حين يشعر حوله بالأطفال الصغار، إلا أن العاملين في الملجأ لم يقدروا جميعا قيمة هذا التبرع الصغير، وحدث أن الحرس الجديد الذي حل في نوبته محل الحرس السابق وصل إلى الملجأ في تلك الساعة وليس فيه من يعرف الشاعر، فاستقر في روعهم أن إنسانا بهذا المظهر المقبول وهذه اللحية السوداء الممشوطة لا يمكن أن يكون إلا واحدا من زمرة الفاشيين. فقال أحد الحراس: إذا لم يذهب هذا الرجل توا فإني حالق لحيته لا محالة. وقلقت إفريقية نفسها من هذه السخافة، فبسط الشاعر جناحيه وطار يبغي له مطارا أصلح من هذا المطار.
وكذلك نرى الشاعر - على حسب هذه الرواية - لا يعنى بإخفاء نفسه بين قومه، بعد أن قضى حياته الأولى متشبها بالأرستقراطيين، فلم يخطر له - وقد رآهم في حرب - أن يزيل لحيته؛ لأنه عد إزالتها عملا من أعمال الجبن والنذالة، سواء أكان بين فوضيين أم غير فوضيين. والعجيب كما جاء في الرواية أن (لنين) كان يحمل لحية، وكذلك كان ماركس، وإن كان أصحابه لم يروهما بأعينهم. وقد نشأت بعد الحرب أزياء مختلطة وتقاليد متشابهة، فحمل الفريقان اللحى غير مستثنى منهم حتى (كامبزنيو) نفسه. وقد قال كاتب آخر إنه لا يبالي أن يحلق لحيته اتقاء للخطر، فإذا هو يعود إلى إرسال اللحية بعد شيوع اللحى مرة أخرى في كل مكان، لعله يخدع الثائرين وغير الثائرين.
وهذه الشواهد وغيرها مما لم أقرأه عليكم إنما أسوقها للعبرة النافعة، ولا أعني بها مجرد التسلية والفكاهة.
إننا نعيش بالأمثلة، ولأجل الأمثلة أكتب محاضراتي لأفكر فيها قبل إلقائها، وأجعلها محاضرات بالمعنى الصحيح. فلنعلم أن المعركة في إسبانيا تدور حول أمثال تلك الصغائر، فلا يتغير هنالك شيء ذو بال، وإنما هي صيحات وأراجيف حول إرسال اللحية وحلاقة اللحية، وحول ربط القلادة والاستغناء عنها، وحول النعال الساذجة أو الحذاء الملمع. ويجري مثل هذا - على ما أحسب - في بلاد العالم القديم الأخرى. فهل يا ترى تسري هذه العدوى أيضا إلى بلاد العالم الجديد؟
الشعر والأدب
الشعر المكتوب - فيما لاح ولا يزال يلوح لي - إنما هو نمط من أنماط التعبير، كالموسيقى وما إليها، عن المعاني التي لا تدرك ولا يحيط بها الوصف، وأرجو المعذرة إذا لجأت إلى الكلمات الطنانة فقلت إنه عبارة عما يفوق العبارة ولا تلحق به الأوصاف.
أما الأدب فهو التعبير عن المحسوس وعما يدرك وينال.
ولما كنت ممن يدينون بأن الروح شيء لا يدرك ولا يوصف، فمن البديه إذن أن يكون الشعر فيما أحسب تعبيرا غير محسوس أو محصور، وإن الأدب لا يفرض ذلك على نفسه ولا يحاوله؛ لأن له مجالا غير هذا المجال.
وموضوعات التعبير عما يفوق الوصف هي وحدة الوجود، والصوفية ولا أقصرها على الصوفية الدينية، والحب وأعني به النفاذ إلى أعماق الطبيعة وكشف الحجاب عنها لرؤية ما يرى وما لا يرى، وإلى الازدواج في كل شيء حيث يكون لكل شيء موجود ظله الذي ليس له وجود.
وإن الإنسان لمفطور على الجنوح إلى هذه الأشياء بالشعور والتأمل والطموح، ونتيجة ذلك - صامتة أو مكتوبة - هي العاطفة الشاملة، وندع هنا كلمة الكونية لأنها من ألفاظ المشاع في الآونة الحاضرة.
ويكون الشعر إذن امتزاجا حميما - عاليا عميقا - بيننا وبين أنفسنا ليلتقي فينا الصحيح الذي نحسب أننا نعرفه وندركه، والبعيد الذي نحسب أنه أرفع وأنزه من أن يحده الإدراك؛ ومن ثم يصبح في وقت واحد مزيجا من الغنيمة والفقدان.
هذه حالة موزونة مترددة كالقافية، ومن هنا وجب أن يكون الشعر موزونا مقفى، ولا يكون صورة منظورة؛ لأن الموسيقى والرقص يتطلبان الإيقاع، وتدور فيهما العين إلى أنفسنا لا إلى الأشياء المرئية. ولا يخفى أن الوعي لا يعمل في هذه الحركة المستغرقة، وأن الشعر يجب - من ثم - أن يكون إلهاميا وأن يكون بسيطا؛ لأنه هو موضوع نفسه، ولا حاجة به إلى التزويق واستعارة الزينة، وسواء كتب الشاعر أم لم يكتب فهو في الحالتين راقص مثالي، أو راقص في حالة التجريد، تقتضي المطابقة بينه وبين هذه الحقيقة أن يظل صامتا ولا يكتب، وإنما هي حالة ضعف تدعوه إلى الكتابة التي هي من عمل الأديب.
إن الأدب - وكل كتابة ضرورية - يعتمد على العين كالتصوير، ولا غنى له عن الزينة والفهم والمظهر؛ لأنه ليس بخلق ولكنه مقارنة ومشابهة.
الأدب ترجمة، والشعر أصيل، فإذا وكل الشعر بالبواطن العميقة، فالأدب خليق أن يوكل بالظواهر العارضة، وإذا كان الشعر وحيا بديهيا موجزا ملموما كالزهرة والثمرة، فلا جناح على الأدب أن يستقصي ويفصل ليدمج فيه الظواهر، ويتصيد المتناسق منها والمتنافر.
وأعتقد أن الفنون - والعلوم أيضا - تنقسم إلى قسمين: خلاقة ومقلدة أو ممثلة. فالخلاقة هي الشعر والرقص، وفلسفة ما وراء الطبيعة؛ إذ كانت هذه الفلسفة أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم.
أما الفنون المقلدة أو الممثلة فهي التصوير والنحت والقصة، ويتراوح التمثيل بين الخلق والتقليد، فهو خلاق إذا وكل بالمجردات والمعاني، ومقلد إذا وكل بالنوادر والحكايات.
والشعر المكتوب - كسائر الفنون الخلاقة - طبيعي كائنا ما كان حظه من الإتقان، أو هو متقن كامل في الواقع لأنه طبيعي، على حين أن الأدب لا يكون إلا مصنوعا يزداد إتقانا كلما ازداد من الصنعة، ويستطاع بلوغ الأدب صفة الجمال النسبي، على حين أن الشعر ينبغي أن يطمح أبدا إلى الجمال المطلق، ولن ندرك شأوه إلا إذا تنزل علينا، وأصبحنا أهلا له بالطموح وحماسة الروح، وهذا الذي يراد به - على الأسلوب الأفلاطوني - أن الشاعر ممسوس، أي مصاحب لإله يستولي على وجدانه. وإنه لممسوس حقا ما دام هذا الإنسان يحتوي قبسا من الإلهية وهي الحق، ويخيل إليه أنه قادر على الحق، وأن صوره على صورته.
وواضح أن الشعر المكتوب لا يتسنى له أن يدرك الكمال؛ ولهذا يتعذر بلوغ الغاية فيه، وإن لم يكن بلوغها متعذرا في كتابة القصة أو صنع التمثال فإنهما مما يصلح للاستيفاء وللختام أعني للموت؛ ولهذا السبب عينه لا نرى الشاعر الحق يترخص كثيرا لمطابقة الأنماط السارية، بل يحدث أكثر الأحيان - أو يحدث حين يحسن ذلك - أن يخترع نمطا جديدا، أو يحول الأنماط التي تواضع عليها أهل الأدب من الصيغ الجامدة إلى صيغة بينة المرونة.
وقد جعل الأدب هذه الأنماط مسألة معقدة، وربما وقع الشاعر أحيانا في الأنماط المعيبة لقلة اكتراثه للظواهر، وهو شرك يعده له حسدته الطامعون من أهل الأدب والنقاد، فيستبدلون الشين الرديء بالزين الحسن.
إن بين الشعر والأدب لفارقا يشبه الفارق بين الحب والشهوة، أو بين الحساسية والرغبة الجنسية، أو بين الكلام والثرثرة؛ إذ كان الأدب يميل إلى الدعوى والمبالغة، و(الدون جوانية) ويخلق مواضع التوكيد والإلحاح عنده من مصطلحات جوه، أو يفصل عرفه على حسب أزيائه، ولكن الشعر لا يتعقد ولا يصعب إلا إذا كانت بلاغته وليدة الكلمة والقلم، ولم تكن وليدة الفكرة والروح؛ ولهذا خلق الأدب صناعة البيان والبديع، وهما لعبة حواة يخترعها مهرة الكتاب، وإن الشاعر ليعبث بنفسه أحيانا - غفلة منه - فيقع فريسة لتلك الآفة، ويتورط في تمثيل دور الأدباء بديلا من دوره، فيدرك من المعجزات ما يقصرون عنه؛ فإن الأديب قلما يخطئ في أحكام الصنعة، ولا يزال قديرا على تلقف الأطباق التي يقذف بها في الهواء، فإن سقط واحد منها سقط على رءوس الآخرين، ولكن الشاعر قد يفقد طبقا من أطباقه فلا يسقط على رأس أحد، بل يغيب متواريا في آفاق الفضاء، لتلك الصداقة التي بين الشاعر وبين سعة الآفاق.
وإن في الدنيا لكثيرا من البلغاء الحواة الذين يتوهمون أنهم - لعلمهم بالقواعد التي هي بضاعتهم - يمدون للشعر طعما مغريا، فيقبضونه روحا وجسدا بين أيديهم، ويجدونه قلبا وقالبا، ويكتبونه ويسجلونه ويقيدونه، ولكن الشعر - لحسن الحظ - لا يقيد ولا يقبل التحقق والضبط باليدين، والشاعر الحق هو الذي يدعه يفلت من الأوهاق؛ لأنه إنسان صادق يعيش مع الصدق، وما كانت النعمة الشعرية: نعمة النشوة الجياشة، والمعجزة النابضة التي ينجم منها النغم الصادق، إلا عملا من أعمال الطيران، وصورة من صور الحرية والطلاقة.
وليس يناقض الشعر والحب شيء، كما يناقضه الأدب المحكم المحبوك الذي يدعي الحق في الحب الكامل، فالأديب يسخر من العاطفة الجياشة في عمقها، ويستبدل بها مظهر العاطفة ليقول إن الشاعر - ذلك المخلوق المسكين الذي لا جدوى له - قلما يتحرك ويتقدم، ويسمع الناس ما يقال، فيبهرهم اللمعان الهازل والرنين الخالب، ويقولون كذلك إن الشاعر - البلبل - مخلوق مسكين لا نفع فيه.
والشعر الصادق إنما يعرف بعطفه العميق وتياره الزاخر وسبحاته الفطرية إلى ما وراء الطبيعة، وإذا قيل إن الناقد العليم أعمق من الشاعر المبدع، فالقائلون لذلك ينسون أن العمق أنواع وضروب؛ فهناك عمق الإدراك، وعمق الفكر، وعمق التخيل، وعمق الشعور، إلى غير ذلك من ضروب الأعماق. ومن قال ذلك فمثله كمثل من يقول إن البطيخة أعمق من الوردة، ولا وجه للمقارنة بين غير الأشباه التي تقبل المقارنة، فقد يكون الأدب غنيا بالعمق في الأسلوب وفي الصور والتشبيهات والأشباح والمجسمات، إلا أن هناك أعماقا أعمق وأبعد غورا من ذاك، هناك أعماق لا يسبر لها غور، ولا يدرك لها قرار؛ لأنها بغير قرار.
ولما كان الأدب يستمتع بالطنين الفخم ويشبه الأرستقراطية من هذه الوجهة؛ فلا عجب يتراءى بريش الطاووس وريش الببغاء، ويترك الشاعر البسيط يقنع بريش البلبل الذي أفلت من القفص، وهو البلبل الذي قال بعض الشعراء إنه ولد قبل مولد الأفعال والأسماء والحروف.
وليس في الوسع أن نستطرد في هذا الموضوع لأنه موضوع لا يؤدي الاستطراد فيه إلى نهاية، فليكن ختام الحديث تلخيصا لما قلت في كلمات معدودات، فأقول إن الأدب حالة من حالات الثقافة المصنوعة، وإن الشعر سمت لا كلفة فيه، يسبق التثقيف المصنوع ويتلوه.
التجديد في الأدب
كل من تقدم في مطلب من مطالب التهذيب، كالشعر - مثلا - أو الفقه، أو الفن، أو العلم، وغيرها وغيرها؛ فإنه متقدم لا محالة في سائر المطالب، وإن لم يعتبرها من مطالبه التي يعنى بها ويتفرغ لها. فإذا أراد أن يضيف مطلبا منها إلى مطالبه المحصلة فإنه سيبلغ فيه الطبقة التي ارتفع إليها في سائر المطالب، ولعله لا يحيط بالمطلب الجديد إحاطته بما عنده من قبل، ولكنه ولا شك يعامله ويخوله من الحق مثل ما تعوده مع فنه الذي توفر عليه؛ فإن الرجل المتقدم ينظر إلى العالم كله نظرته إلى مرتقى واحد، يستريح إلى صعوده، ويفرح برياضة نفسه عليه لإحساسه بقدرته على ارتقائه وإحساسه - مع هذه القدرة - بأن ارتقاءه هو الارتقاء العالمي في جملة نواحيه، ومن دأب الإنسان المطبوع على التقدم أن يدفع العالم إلى الأمام، وإن لم يخطر له أن يفعل ذلك، وهذه هي عقيدتي منذ صباي، ومنذ صباي عملت على تحقيق ما اعتقدت.
إن الشاعر المتقدم - أي الشاعر المتجدد - ابن عصره وأوانه إنما يصلح كذلك - أولا - بفضل روحه، لا بفضل بيئته العلمية أو الفنية على الإطلاق، ولا بفضل الموضوع الذي يشتغل به في عمله، وإنما يحدث التغيير في البيئة، أو في موضوع العمل أفقيا، ولا يحصل صعودا وارتقاء، ولا تزال الصنعة كفيلة بارتقاء التكوين المادي، دون أن تجاوز ذلك إلى ما بعده، وأن الشاعر ليستطيع أن يترنم كل يوم بلذة من لذات الحب المادية، كما يستطيع أن يترنم بلذة من لذات الطعام والمعدة، دون أن يرتبط ذلك بوشيجة من الوشائج الروحية أو الذهنية، أو الظواهر المثالية، أو يكسبه نصيبا من الثقة والكرامة، وإذا أخفق إنسان في إثبات نفسه بوسيلته الذاتية، فليس في الوسائل العالمية ما يعينه على إنتاجه وخلقه. والشاعر الذي لا عمل له إلا أن يحقق الواقع اليومي من شئون معيشتنا بغير تطلع إلى الأمور الموجودة أو المفقودة التي تخلقها بصيرته الأخلاقية بكهربائها النافذة، أو بغير الواقع الذي لا يكون على الأقل إلا من قبيل الواقع السحري؛ فليس في وسعه أبدا أن يصبح شاعرا جديدا.
وتقول حكمة إسبانية إن الواقعي يعني السلفي - الكلاسيك - يعني «الأبدي الخالد». فعلى الشاعر أن يكون أبدا جديدا؛ لأن الجدة هي الاستمرار بلا انقطاع، ومن العسير أن تتصور البقاء والدوام بغير تصور الحاضر الراهن، وأن الدوام - وإن تفرق في كل وجهة - لن يهرم ولن يرى نفسه هرما؛ ومن ثم يقال عن الأبدية مجازا إنها الوجود الذي لا يشيخ ولا يفنى، وإنما الشاعر تقدم باطني وخارجي في مجرى فترة من الزمان والمكان، ومن أحس أن الزمن أو الأبد قديم، فهو ذلك الذي لا يحس بزمنه،ولا يحس بما في استطاعته أن يدركه من دوام الخلود، أو هو ذلك الذي لا يحس برسالته في الحياة، وربما كان الشاعر التقليدي شاعرا حسنا يحسن المتاع بشعره، ولكنه لن يؤدي رسالته التي تعطي النور، وتنقل المشعل في يده من أمسه إلى يومه إلى غده، أو تنقل المشعل منه إلى غيره، وما كانت أسطورة الرجعة الأبدية، أو أسطورة الربيع الأبدي، إلا الشعر نفسه في الصميم.
والحياة إن لم تكن طموحا إلى الخلود ماتت، وهي تحيا وقتلتها الواقعية الراهنة في إبانها؛ ولهذا ترى كثيرا من الموتى راضين بأنهم موتى، راضين بموتهم لرضاهم بالحصر بين جدران أنفسهم، لا يتوقون إلى الخروج منها، ولا يتطلعون إلى التقدم في بواطنهم، ولا إلى التقدم في غيرهم، ولا بد لمن يريد أن يكون حيا وأن يستحيي نفسه أبدا وأن لا يزال جديد أبدا؛ أن يدرك ذلك بغريزة تسمو إلى المثالية الروحية وإن كانت لا تغفل عن تهذيب يوم بعد يوم وساعة بعد ساعة، وإلا فهو ناكص عن الصف الأول إلى الصفوف التي تليه.
وإنما الروح دوام في حركة لا تنقطع، ولن تفهم الحياة إلا أن تكون حركة تنتقل من الكينونة إلى الصيرورة، كأنها أمواج البحر التي لا تهدأ دون أن تفارق ماءها ودون أن تفارق سواحلها، وإنما هي جديدة لأنها لا تكف عن الحركة ولا تنثني عن التقدم، والشاعر الروحاني الذي يفهم الناس ويفهم نفسه بما في طويته من إشراق يسمو بذاته، ويسمو بموضوعه هو وحده الذي ينفذ ببصره إلى دخائل الحياة، ويوفق بين جوانبها ويسيطر عليها.
وقد بالغت الإنسانية خلال هذه الأعصر الأخيرة في «الواقعية» مما يرادف قولنا إنها شاخت وفقدت سجية الدوام وانحصرت في الزمن الذي هي فيه.
المثالية
المثل الأعلى، ولنتدبر ذلك لنعلم أن الإنسان أو المجتمع الإنساني لن ينتهي أحدهما إلى الغاية القصوى؛ لأن كلا منهما يجوز أن يصبح خيرا مما هو ، ويرتفع إلى حالة أسمى من الحالة التي أدركها. وينبغي أن يرتفع إلى تلك الحالة لأن كل مرحلة ينتهي إليها تفتح مطارح النظر إلى ما وراءها، وما زال الوهم - على كونه مخالفا للحقيقة - كأنه من الجهة الأخرى مرآة، تعرض لنا جانبا من حقيقة منشودة إذ كانت النتيجة المادية أن نسعى إلى غايتها، وعلينا أبدا أن ندور وندور حول هذا الكوكب من أفق إلى أفق ما دمنا نحوم في فضاء هذا الكون، ولا نصطدم هنالك بالكارثة القاضية، وليس الإنسان ولا المجتمع الإنساني في الواقع إلا مرحلة دائمة من مراحل التقدم والنقلة الموقوتة بين حاضر وحاضر، وهذا هو مصدر قوة الإنسان العظمى.
وإن فضيلة الشوق إلى التقدم جديدة أبدا، فكل ما يشوقنا يتمثل لنا بمغناطيسية جديدة، فلا سبيل إلى بلوغ المثل الأعلى؛ لأننا نحن أيضا نتجدد وننتقل من جديد إلى جديد، سواء شعرنا بذلك أو لم نشعر، وسواء انتفعنا بهذه الجدة أم تركناها تذهب سدى.
المساواة والآراء
إن أعلى صورة من صور المساواة بين الناس نفهمها من طريق الشعور، أو نعبر عنها بلغة الشعور، وربما صح أن الغريزة التي يروضها التقدم الصناعي تسمو على الغريزة التي لا رياضة لها غير ضرورات الساعة، إلا أن الذكاء لا يصح أن يتخذ سببا لشعورنا بالتفوق على سوانا، ولا للشعور بهذا التفوق على حساب غيرنا، أو للتفرقة بيننا وبين الآخرين؛ إذ الواجب على الذكاء والفهم أن يكونا سببا لفهم الآخرين والتفاهم بيننا وبينهم من طريق التهذيب الباطني والنفاذ إلى أدب السريرة. ولا يحسن أن يتخذ الفهم سببا لانقسامنا إلى عناصر أو أجناس أو ألوان أو طبقات أو درجات من الثقافة والعرفان، بل الحسن من الفهم أن يكون سببا للتعاطف بيننا وبين الناس بكل وسيلة من وسائل العطف والمودة. وإذا كانت حواسنا الخمس سواء نحن بني الإنسان، فكيف يشق علينا أن يماثل بعضنا بعضا؟ إن حقا علينا أن نبذل لكل أحد ما كسبناه من التقدم المختار، ولا نخفيه أو نموهه على أولئك الذين يلوح لنا أنهم «عمليون» واقعيون غير متقدمين، وأن نتقبل جهلهم ونسوسه، ونرضي فيهم نزعة التطلع الساذج كما نصنع في معاملة الأطفال - أطفالنا على الخصوص - ولا ينبغي أن نحكم عليهم بما يبدو من تقلب أطوارهم،على مثال من الطفولة النابية التي تمعن في نبوها كلما تشبهوا بنا على جهل منهم بمعنى هذا التنبه أو بالغاية منه.
وإنه لمن الشائق أن نستطرد في هذا البحث لعلنا نرى أن الذي يفرق الناس ليس هو الذكاء والفهم على وجه اليقين، وإنما هو ما يسمى بالمبادئ سواء منها ما يعتقد للخير أو للشر؛ لأن المبدأ الذي يقال عنه إنه خير يعزل الإنسان الذي يقال عنه إنه شرير، كما يعزل المبدأ السيئ من يوصفون بالخير، والظاهر أن المبادئ السيئة أو الأفكار السيئة هي التي تثير الحروب بين الناس، وأن الشعور وحده هو الذي يستطاع تنبيهه لتلطيف الشر الذي ينجم من تلك المبادئ أو الأفكار، فإذا كانت الغازات الخانقة - مثلا - لم تستخدم في القتال، فإنما امتنع استخدامها احتراما للشعور مما يصح أن يفهم منه أن الشعور يفوق الذكاء، وأن من اليسير علينا أن نقترب من الآخرين بالاحتكام إلى الشعور، وأن المذاهب الفكرية - أي الأيديولوجية - هي التي تحتاج إلى المعالجة لتيسير الاتصال من جانبها، فلا يخفى أن الأفكار والمبادئ لذاتها، لا تكون خيرا أو شرا، ولا توصف الأسلحة والسموم لذاتها بالخير أو بالشر، وإنما يأتي خيرها أو شرها من جانب المفكرين أو الأيديولوجيين الذين عجزوا عن الشعور، وإن الديانات لهي خير - جد خير في الحياة العملية - كلما رجعت إلى الشعور وليست كذلك لأنها ترجع إلى «الأيديولوجية» والتعليلات الذهنية. وما يعتري الديانات من تخلف وهبوط إلا أن يكون ذلك إلى العلوم الكهنوتية أي إلى المحاولات العقيمة للتخريج والتفسير وتمثيل العواطف الباطلة على صورة تلائم مصيرها. ومن ثم يمكن أن يقال إن التقريب بين الناس مستطاع من طريق العلوم قبل الفنون، وإننا ينبغي أن تتطلع إلى فهم العلم الأجنبي والمخترعات الأجنبية، كما رأينا أننا نستطيع أن نعتمد على الشعور لتحقيق هذه الغاية، ويبقى - بعد هذا - أن نوجه أنفسنا راشدين.
إن جميع الأفكار التي يدين بها جميع الناس جديرة بالاعتبار صالحة لأن يستفاد منها على أسلوب الاستفادة من الفكرة المشتركة على وفاق ، ولا شك أن الديمقراطية إذا نظرنا إليها على أنها أمل ميسور التحقيق فكرة رفيعة، أو أنها هي الفكرة الإنسانية الرفيعة التي ينبغي أن تقوم عليها حياة الإنسان الكاملة كما لخصها مفكرنا الواقعي أرسبرست دي هيتا
Arcipreste de Hita
حيث قال إنها هي الحصول على العيش والعشرة الرضية. وكذلك تكون الديمقراطية المترقبة تحولا مستمرا إلى الشرف الصحيح شرف الأرستقراطية الجديرة بالكرامة التي تورث كل إنسان ميراثا من الثقافة الروحية والمادية، فلا تكون الديمقراطية على هذا الاعتبار مرضا متقدما كما يراها بعضهم في العصر الحاضر، بل تكون هي المناعة المتقدمة، وتستمد عناصرها جميعا من الصحة والقوة واللطف والسمت والجمال، ولن تنال الديمقراطية حقا إذا طلبناها على أنها مزية لأمة خاصة أو لأناس معلومين، ولكنها تنال وتستحق الطلب حين تفهم أنها حق لجميع الأمم وجميع البلاد. وسيكون الديمقراطي - أو أرستقراطي المستقبل بعبارة أخرى - هو الإنسان من سواد الناس أو عامة الناس. وفي كلمة العامة دليل على مدلولها المستكن فيها، وهو معنى العموم والتعميم (أي المعنى الذي لا يتفق مع التخصص والتمييز).
واجب الشباب
خير قدوة يستطيع الإنسان الكبير أو الصغير أن يقدمها للدنيا التي يعيش فيها - كما يلوح لي - هي التفوق الذي يأتي من طريق المحبة العالمية الواعية، فإذا تقدم بهذه القدوة لم يكن اتباعه فيها مقصورا على شركائه في العاطفة والشعور، بل يتبعه كذلك من هم دونه في عالم الأحياء.
وقد سألني منذ فترة قصيرة طائفة من الطلاب الشبان في برجواي: ما هو واجب الشبان في العصر الحاضر؟ هل يجب عليهم أن يصبحوا مناضلين مجاهدين أو أن يقفوا موقف المراقبين المتفرجين؟
فأجبتهم قائلا: إن الدنيا تدور في فلكها إلى القبلة الوحيدة التي يؤدي إليها دورانها، وهي قبلة التقدم والمثالية، وكل ما عدا ذلك فهو جولة تائهة أشبه شيء بالتمرينات الرياضية، ولكن كل دورة عضلية تضيف قوة مثالية إلى القوة المادية الزائدة.
وأهم الطوائف اليوم - بحكم كثرتها - هي جمهرة الشعب، كما يرى كل من فتح عينيه على الواقع، وهي الجمهرة التي لم تدخلها الطائفتان الأخريان في حسابها من قبل، وهما طائفة الأرستقراطية وطائفة البرجوازية.
وقليلا ما تستطيع السياسة أن تدفع حركة التطور، أو حركة الثورة في بلادها، أو في البلاد الأخرى. ولكن جمهرة الناس هي التي تخلق ذاتها، وإنما الجمهرة في عملها شبيهة بالكوكب الأرضي في عمله، تارة هي زلزال واضطراب وبروق ورعود، وتارة هي تطور وانتقال من حال إلى حال، وإن شبان برجواي، بل شبان أمريكا الإسبانية جميعا، بل شبان العالم بأسره لمنساقون بمشيئتهم، أو بغير مشيئتهم، إلى القيام بحركة التطور، كما يحتمل أن ينساقوا أحيانا إلى حركة الاضطراب والزلزال. والمهم في جميع الأحوال أن يشعروا بما هم فيه، وأن يساعدوا جهدهم على الاتجاه إلى قبلة التطور، إلا في حالة الاختناق والكظم، فلا حرج من الاتجاه إلى الوجهة الأخرى، وماذا عسى أن يبقى من علاج غير هذا العلاج؟!
على أننا حريون أن نذكر أن الارتقاء الإنساني قد يحدث - فرديا - في بعض الأحايين دون أن يحتاج الأمر إلى شيء محسوس مجسم، كأنه ظاهرة كهربية في الكيان الاقتصادي. وعلينا ألا ننسى كلمة الهنود الحمر: إنك إذا رفعت قبضتك فقد ودعت عقلك.
ونحن منذ منتصف القرن ننتقل إلى فترة من (الدينامية) أو الدفعة العاجلة، يكاد تكرار الكلام فيها أن يكون من قبيل تكرار القوالب المحفوظة والجمل المعادة. فليست هي مسألة أفكار بل وقائع وأفعال، ولا ينقضي يوم دون أن نهرول فيه من هنا وثم كيفما كان الاتجاه؛ إذ تصوغ الفترة الجديدة ذاتها بلهيبها الصاعد وبطولتها الصاعدة، وإن بطولة الرشد في ثباتها وحريتها وتضامنها - على مثال غاندي - قد تصنع الكثير، وقد تكون في ترقبها أفضل ثورة وأقربها إلى الصحة والإقناع، ولا يسعني - وقد ذكرت غاندي - أن أغفل الذكريات التي تعلق بذهني من تحية مجلة الجنوب
Sun
في مدينة بوينس أيرس لهذا الرجل، الذي ينتمي إلى قوم آخرين في ظروف أخرى، فإن القلب ليحزن حين يقابل بين هذه التحية وبين التعقيب الذي شفع به بعض الأوروبيين على غير وعي منهم نعي غاندي ملخصين إياه بقولهم: إنه ختام الصراع بين وجبة اللحم - الروستبيف - وبين الطبخة الهندية!
فهو عندهم صراع طبقات آخر هذا الصراع بين الروستبيف وبين الطبخة الهندية!
إن واجبنا - نحن بني الإنسان في مسعانا نحو أنفسنا نحو مصيرنا - أن نتعاون على تكوين وعي جامع شامل بين تلك الأمم. المفروض أنها على حظ وافر من الثقافة، وتلك الأمم المفروض فيها أن الثقافة تعوزها؛ لندرك العالم بهذا الوعي إدراكا يلائم الزمن الذي يحيا فيه إنسان اليوم في جميع الأوطان.
قصائد ومقطوعات
ربة الشعر
جاءتني أول الأمر على استحياء طفلة بريئة تكسوها براءتها، طفلة صغيرة أحببتها.
ثم راحت تزين نفسها بما يحلو لها من حليها، فكرهتها ولا أدري كيف كرهتها؟!
ثم بايعوها ملكة، وجللوها بالجواهر من فرعها إلى قدمها، فكانت سخافة مرة من النقائض لا معنى لها.
وعادت تعرى من دثارها فابتسمت لها، ولم تزل حتى تجردت من أوقارها، وثابت إلى التفضل على سجيتها، فعدت كذلك مؤمنا ببراءتها.
وخلعت لبسة المتفضل أخيرا، ولم يبق لها حجاب غير براءتها العارية.
آه يا ربة الشعر المجرد: بغيتي من حياتي ... أنت لي الآن مدى الحياة.
اللب
أيها اللب العليم.
هب لي من الأشياء أسماءها في صميمها.
هب لي الاسم الذي هو الشيء تخلقه نفسي لأول مرة، ويصل إليه - من قبلي - من جهلوه، فلم يصلوا إليه.
واجعل من نسى الأشياء فلاذت منه بالخفاء، ومن قبلي يهتدي فيلقاها.
حتى الذين يعشقونها من قبلي يبحثون عنها ويعرفونها.
اسمها الصحيح - أيها اللب العليم - تمنحني إياه، وتمنحني اسمي واسمك واسمه، وسائر الأسماء لجميع الأشياء.
وددت
وددت لو أن أشعاري جميعا، تلوح كما تلوح السماء ليلا، حقيقة لساعتها بغير تاريخ.
وددت لو أنها - كالسماء - تعطي في كل لحظة كل شيء، بكل ما عندها من نجوم، لا طفولة ولا فتوة ولا هرم، ولا لمحة من كل هذا تختلس منها شيئا، أو تلقي بظل من الظلال على جمالها العميق في غوره السحيق.
روعة ... لمعة ... نغمة ... تستقبل عيني وتطبق من فوقي!
والروعة، واللمعة، والنغمة، معا ماثلة بين عيني.
السماء كلها في جناني، السماء كلها في خلدي .
كتاب مفتوح.
غن
صوتي. غن. غن. إنك إن تركت شيئا لم تقله، لم تقل شيئا.
أنا
أنا لست أنا.
أنا هو.
هو الذي يمشي إلى جانبي ولست أراه.
هو الذي أوشك أن أراه بعض حين.
هو الذي أوشك بعض حين أن أنساه.
هو الذي أتكلم وهو صامت صاف.
هو الذي يغفر وأنا ناقم، وهو الذي يسعى حيث لا أكون.
هو الذي سيبقى وقد أدركني الفناء.
السرعة
إن أسرعت مهرولا عدا الزمن أمامك وسبقك، كأنه فراشة تطير أمامك.
وإن تأنيت متمهلا، مشى الزمن وراءك كأنه الثور الذلول.
لا أحد!
لا أحد.
لكنه الماء. أترى الماء لا أحد؟ كيف يكون الماء لا أحد؟!
لا أحد. إنها زهرة. أليست الزهرة أحدا؟!
لا أحد. بل هناك الريح، فالريح ما بالها؟ أليست أحدا؟!
ليس إلا الوهم هناك.
ليس إلا الوهم. أليس الوهم بأحد؟!
بحق السماء
صمتا بحق السماء
إنك لن تعرف كيف تقولها.
دع أزاهيري مفتحة
ودع معها الأحلام •••
يسير على القلب أن يستمع لحروف حنانك، وأن يستمع لديه إلى الماء يترقرق بين لمعات السلسبيل، وإلى ذلك الضباب يسري معه حالما، والقمر المورد، والصدى من أعماق تلك الطاحون.
بحق السماء لا تطفئ ذلك اللهب المتوقد بين جوانحي، وصمتا بحق السماء؛ فإنك لن تعرف كيف تقوله حين تقول.
أغنية الشتاء
غناء. غناء. أين هو الطير الذي يسمع منه الغناء؟!
إنها تمطر، ولا ورق على الأعواد، ويسمع غناء، ولا يرى السرب الذي يرسل الغناء.
ليس في القفص طير، ولا أطفال تبيع الطير، وغناء يسمع ولا طير. والوادي بعيد، جد بعيد، فأين، أين ذلك الغناء؟!
لست أدري أين هاتيك الطيور التي تغني، تغني، تغني، أين؟ أين ذاك الغناء؟!
رماد ورد
دعوتك باسمك، وأجابني منك صدى وئيد كلما دعوت.
ولكن أين أنت - تلك المرأة - التي هي الآن ملك يدي؟!
أين أنت. فإنني لا أراك؟!
يا بستانا من الذكريات لا تذوي.
يا قبلة من أحلام مضت، ومن أحلام ستمضي.
يا نسيما يدنو بأطياف الأماني، وهن بعيد.
أترينني الآن أسلك دروب الحياة كالضرير يتحسس طريقه في الضياء؟!
نعم. كل آهة مني أجابتها آهة منك، وأنت هنا. أجل هنا. تسكرينني، وأحسك معي. ولكن أين أنت؟! تلك المرأة التي هي ملك يدي.
أين أنت فإنني لا أراك؟!
الطرف الآخر
من الذي يعلم ما في الطرف الآخر من كل ساعة؟!
كم من مرة توارى الفجر وراء الجبل!
كم من مرة توهج الأفق بأرجوانه الملكي، وبين أحشائه الذهبية تكمن الصاعقة!
كم من مرة كانت الوردة سما، وكان السيف واهب حياة!
وكم حسبت أن المرج يزدهر في أعقاب الطريق، فإذا بالمرج بركة حمئة!
وكم حلمت بمجد إنسان، وفتحت عيني على حفرة الهية!
افتحوا الأبواب
افتحوا الأبواب.
دعوها الليلة مفتوحة لذلك الذي فارقنا مع الموت، لعله ينوي الليلة أن يعود.
افتحوا كل سبيل.
لعله يعود ليرى مثال جسده في أجسادنا، ليرى قبسا من روحه بقية باقية في أرواحنا، ليرى الأبد العظيم يرتفع بنا حين يهبط علينا، ليرى قليلا منا يتسرب وراء نفوسنا يوم نسلم الروح.
افتحوا الدار كلها كأنها احتوته حاضرا في زرقة الليل.
معنا كأنه قطرات من دمنا، ومع النجوم كأنها زهر يحوم.
حياتي وحريتي
هذه حياتي.
تلك التي في أوج العلا.
تلك التي تهفو مع النسيم.
تلك التي تصحب الطائر إلى أقصى المطار.
تلك التي تستوي على قمة الظلام.
هذه حريتي. •••
أشم الوردة، وأشق الماء بيدي العابثة، وأقطف المرج حتى يعرى، وأقبس الشمس أبدية الشعاع.
مرة أخرى
سأولد مرة أخرى حجرا.
وسأحبك أيتها الأنثى. •••
وسأولد مرة أخرى إعصارا.
وسأحبك كذاك، أيتها الأنثى. •••
وسأولد مرة أخرى موجة طافية.
وسأحبك، سأحبك نعم أيتها الأنثى. •••
وسأولد مرة أخرى نارا.
وكذاك أحبك أيتها الأنثى. •••
وسأولد مرة أخرى رجلا.
وأحبك مرة أخرى أيتها الأنثى.
الربيع الأصفر
أقبل أبريل مترع الكئوس بكل ريحانة صفراء.
وجري الجدول أصفر، وسفح الهضبة أصفر، وحاشية البستان صفراء.
والمقبرة التي تضم صغار البنين.
الحديقة التي ألف الحب مأواها.
تتنزل عليها أشعة الشمس صفراء، تقطر أهدابها، صفراء صفراء.
واها للزنابق من نضار!
واها للماء الدفيء من تبرموار !
للفراشة الصفراء خافقة، تحوم.
على الورود الصفراء!
ضفائر من أصفر تلتف بالأغصان، ونهار معطر بالذهب، نعمة مفاضة في يقظة الحياة، بين رفات الذاهبين.
ويد الله تتفتح مملوءة بالثروة الصفراء.
جنة العريف
من آثار العرب في غرناطة
لا أحد، كلها مفتحة خالية.
لكن، لا شيء مفقود!
وما هن بنساء، وما هم بأطفال، وما هم برجال.
إنهم دموع.
ومن ذا ينهض بوقر تلك الدموع، فائضات، مرتجفات، يغرقن أنفسهن في غمار الماء؟ •••
وكان الماء يتكلم، وكان الماء ينوح.
تحت المرمر. تحت الرخام.
ينوح. يترنم.
بين الأسى المزدهر، والسلسبيل المعتكر، ينوح ويترنم. •••
جنون بالبكاء. جنون بالغناء.
أرواح ودموع، بين جدران أربعة، ماء يتعذب، كأنه لهيب.
أرواح تتكلم، تتبرم.
ودموع منسية تتحطم.
والماء يترنح وينوح.
أرواح سجينة، تغدو وتروح. •••
هنالك يخنقونها.
هنالك يحملونها، يجرونها.
عارية يبصرونها.
بدار. بدار. إنهم يهربون بها.
روحها تمنت لو تفيض.
لو تصبح غرفة من الماء.
تجري هنا وهناك، فيضا من كلمات.
فيضا من عبرات.
بين رشاش الماء، روحا مع الأرواح. •••
على السلم.
كلا. بل يهبطون الدرج.
يا لها من خليط، من أرواح، من أمواه، من دموع.
يا لها من آكام شاحبة، من فرار واكفهرار.
ومن ذا يدري؟ أين القرار؟ •••
أين ترف القبلة، أيتها الروح.
كيف ننظر فلا نرى أرواحا، ولا نرى دموعا، في حنايا الماء؟!
لا انفصال، ولا افتراق.
دعهم يفروا. دعهم يذهبوا.
أتراهم ذهبوا يتنسمون الأنوار؟! يطلون وراء الأسوار؟! يختبئون في أغصان البان، يتحدثون إلى النبع الفوار؟!
سكوت. سكوت. إنهم الآن لا يتوهون.
اسمع. اسمع. إنهم الآن لا يتكلمون.
إن الماء ينام ويحلم. إنهم يمسحون عنه الدموع. إن الأرواح المأسورة لم تكن بالدموع. إنها أجنحة تطير.
طفلة حلوة في شبابها.
فتاة بوردتها الموردة.
وليد يحملق في الدنيا.
خطيب وخطيبة.
هذا الذي كان الغناء والمراح.
هذا الذي كان الأنين والنواح.
في وهجات الشمس الغاربة على ذؤابات الشجر، بين أعطاف الريح.
أعلى ما يكون الصياح.
من روح جريح.
فاترة، هاجعة، كسيرة. •••
أمواه بيضاء علوية، أشتات وأوصال تتمطى على ذراعيها.
تهمس لأشجانها وأحلامها.
أحلام هربت من عذابها.
وسكون، وتسليم، واستسلام.
يمينها تصافح روحها.
والنجم في أوانه حضرة أبدية، تضلها عن هواها، تضلها عن هداها. •••
وتعود الآن كرة أخرى.
تعود إلى قبلة عذابها.
تواري جبينها في كفيها.
لا تريد أحدا. لا تريد شيئا.
تريد أن تغني.
تهرب إلى غير مأوى.
وعلى غير هدى. •••
الأمواه تتكلم. تتألم.
الأرواح تنوح. تترنم.
يا له من عناء، هباء!
يا له من عناء، ولا عزاء!
هيام، وتجوال وتحوام، ولقاء في الركن القصي، ولا مقام.
وترديد بين الشفاه، كترديد النيام وبث على الأقدام.
رأس يصدمه الجدار.
ولا قرار، ولا سلام. •••
روح تذوب في سلسال.
وينطرح جسد، وتنزف أوصال.
ويفارق الجسم دموعه وآهاته.
يبقيها وراءه للجدول الرقراق، والماء الزلال.
تتألم. تتكلم. تترنم.
مع الأرواح. مع الأشباح. تتلوى في تيه العذاب، تحت الشفق اللماح.
والأسى عند نوافيره يجنح إلى سواد، والليل مطبق الجناح، في ساعة الرواح.
أمنية
ووددت لو سالت حياتي إلى منيتها، كهذا الجدول من الماء الزلال في صباحه المشرق، ثرارا، لامعا، حساسا، طروبا، كأنما هو ذوب الدنيا بما وسعت، يخفت بعيدا ويذهب وهو يترقرق على نغم رائق بهيج.
على ضريح ملاح
إلى قبة السماء ينظر الناظر ليرى مثواك.
إن منيتك من صيب كوكب.
إن الحجر لا يحجبك، ولكنه عالم من الأحلام يحيط برفاتك.
في المجهول تعيش، في كل موجود.
في السماء، في البحر، في الثرى، في أحضان الحمام.
البحر
الثرى يذهب بنا إلى الثرى.
ولكنك أيها البحر تذهب بنا إلى الآفاق.
معالم الطريق فيك رواسخ من فضة ومن ذهب عند لألاء تلك النجوم.
طريق البر سبيل الجسد.
طريق البحر للروح سبيل.
نعم هكذا نخال، فما للبحر غير الروح من عابر، بنجوة من التراب.
خضراء
خضراء.
خضراء كانت العذراء.
عيناها. غدائرها. خضراء! خضراء.
والوردة البرية في أجمتها.
لا هي بالحمراء ولا هي بيضاء.
إنها . إنها خضراء.
وبين نسمات الهواء الأخضر أقبلت إلي.
كل شيء على الغبراء، يخضر لها في الطريق.
إزارها اللامع ما هو بذي زرقة، وما هو بذي بياض . إنه ذو اخضرار.
البحر الذي أقبلت عليه أخضر.
والسماء - حتى السماء - من أجلها خضراء.
وهذه الحياة حياتي، لا يزال لها بابها الأخضر تنساب منه كلما أقبلت عليه.
تعالي!
إن عليين اليوم زرقاء، والطبول تبشر بعيد الربيع.
لتحيا الورود. لتحيا ورود الحب.
ولتدخل خضرة المروج مع الشعاع الوضيء.
تعالي إلى المرج. لريحانة الإكليل.
تعالي. تعالي.
للريحانة، وللحب. •••
سألتها: هل تدعينني أحبك؟
وقالت وهي تتوهج: إذا طلع نجم الربيع أحببتك بكل قواي.
تعالي إلى المرج. لريحانة الإكليل.
تعالي. تعالي للريحانة، وللحب.
صور أدبية
روبين داريو
Ruben Dario
1
خمس مرات. سبع مرات. ثلاث عشرة مرة. سبع عشرة مرة. أستعيد روبيني وداريي في هذه الصورة.
إن روبين داريو في وجداني كان ولا يزال حيا، مطردا، واضحا، وكان ولا يزال جديدا أبدا.
وقد رسمت له من قبل ظلالا متعددة، إحداها باسم روبيني وداريي، والأخرى باسم مع وعلى روبين داريو، وغيرها باسم روبين داريو. وغيرها باسم الإسباني ليس إلا، وهكذا وهكذا إلى أشباه هذه الصور، وليست واحدة منها بالصورة التي ترتسم له في الأسطر التالية.
وإن الصورة التي بعثها الآن نبأ وفاته تملؤني اليوم بالحزن، وأنا أتناول القلم لرسمها، كما ملأتني بالحزن حين أبحرت من إسبانيا إلى نيويورك (في سنة 1916) ذات يوم قارس من أيام شهر فبراير، مقلعا من نيوفوندلاند، يغشى على عيني الإعصار الجائح، ويحمل إلي المذياع ذلك النبأ الفاجع عنه في بعض الطريق.
واليوم أنا مقترب من موطنه في نيكارجوا، وهو قد ذهب جثمانه، وحامت في خلدي أمواج من ذكريات داريو - داريو البحر - كما أوحته إلي صورته التي أعارني إياها صديقه ألفونس ريس
Reyes ، قائما في الجو الغائم المطير على شاطئ فلوريد، في ثوبه الأبيض بزي الربان الملاح: ذكرى للأصيل الذهبي الدفيء!
لقد كان داريو دائم الذهول أمام الأمواج، أمام مولد الزهرة ربة الجمال. أمام الملح المشبع بالعافية، ولم يكن - لهذا - يعلم ماذا يصنع بكسوة الفروك، وبالقفاز، وبالقبعة العالية. وبزيه المتنكر في الحلة الدبلوماسية. فما كان هذا بزيه المفضل سفيرا لمليكته الشرقية، أو أميرا بحارا عند الإله نيتون، فقد كان يحتفظ بعري أشد من هذا العري في صوان ملابسه بحجرات الدار؛ ولهذا كثيرا ما كان يرى مستلقيا عند الميزاب متبرما بالكسوة الرسمية لأن استدارته السمينة على قدمه الصغيرة كأنه سمكة القرش واقفة على ذنبها لن تحتمل ضغط الصدار، وربما تخيلته أحيانا سلطانا من الدلفين ينعم بين حريمه الملتف به من عرائس الماء.
كلا. كلا. أيها السادة، إن ترنحه المنتظم لأقرب إلى هزات الموج الزاخر في البحر المحيط منه إلى دوار نوح، وكلما أخرج ساعته الأعجوبة ونظر إليها وإلى الجهات الأربع فهمت أنه يستلهم التوجيه من إبرة الملاح، لا من إبرة ساعة!
إن موطنه الحق هو جزيرة الأرجنوت. جزيرة كولمبس. وكلمته المحبوبة - الأرخبيل - تحسبه حين ينطق بها داخل حلقه كأنه يبتلعها ابتلاع بحار مدله له وزينة من المحار، ولا موجب عنده لخلق أرض القارات إلا أن تكون بمثابة فردوس لذرية الآلهة والناس من سلالة الزهرة ربة الجمال؛ فقد كانت الزهرة ترعاه منذ صباه كما قال: «إن الزهرة من أعماق الهاوية لترمقني بنظرات الشجى والحنين.»
ولقد أعدته أربابه الوثنية في ساعة التجلي ليأوي إلى جزيرة زمردية في صفاء لون السماء، يتجسم في نضرتها الخالدة طيف الأمل المستجاب، وما كان ينظر إلى الأبدية إلا كما ينظر إلى جزيرة تختتم عندها الحياة اليومية، كما تختتم السمفونية الإلهية في نهايتها، ويئوب إليها الحي مآب الملاح المشوق إلى الملاذ الموموق. وطالما رأيته في الحلم على صورة ربان قرصان يسيطر على ذخائر البحر جمعاء، بين رباتها وسحبها وآكام مرجانها، وعرائسها، ومنازل نجومها وشموسها ولآلئها ورياحها.
رياحها التي تحيل حرير السماء الأزرق وما تضرجت به أعلام أرباب البحر الحمراء.
روزاليا دي كاسترو
Rosalia De Castro
2
تمطر السماء في جميع أنحاء جليقية، وتشتبك الأرض بالسماء في ذلك القلب الرباعي التجاويف الذي تجري فيه دوافق الأمطار، وإن هذا القلب الموار ليحيط بجوانب جليقية جمعاء !
وفي القرى تتناسق الكنائس التي ضربتها الأمطار زمنا، فاسودت بين حالكة وأحلك منها تمج روائح الرطوبة من هذه الحظيرة الآدمية.
ووقفت روزاليا كاسترو على باب دارها في ثوب الحداد تفكر في حقلها: دلو من الذرة والعنب والغلال، يجري إلى جوارها الماء.
وترى روزاليا المطر يتدفق على الخضرة الناعمة، وعلى الثرى المبتل، وعلى الماء الوحل! وترى البقرة تخوض في ذلك الوحل، كما ترى ذلك اليافع الشاحب الذي يحييها وهو عابر في سبيله، وكما ترى الحاج الأشعث، والقس الأغبر، والطفلة المعتلة، والمركبة ذات الأنين، وتستمع إلى دقات الأجراس تكاد تغرق في الهواء المطير.
أجراس بسطابل.
أسمعك ترنين.
فأذوب من الحنين.
فقر وعزلة، وكرب وحزن، واختناق يرين على ما حوله من فرط ما ابتلي به من العزلة والضيق.
وفم واسع، وعطف دميم، وبكاء وقنوط ونشيج.
روزاليا كاسترو الشاعرة الجليقية الفاجعة، قانطة، باكية، ناشجة، لا تهدأ ولا تني في قنوط وبكاء ونشيج.
ثيابها كجوارح جسدها مهملة، تنطوي على روح ذهبي في حوضها! ويا له من روح محزون جميل مأسور! بل دفين بقيد الحياة، ويحدق بها قطيع من الآدميين، لا فارق بينه وبين القطعان من غير الآدميين، وكلهم سواء في البطء المنهزم، والرائحة اللاصقة والغريزة المستسلمة الذلول.
وروزاليا لا تعنى بنفسها، ولا يسعها أن تعنى بنفسها، ولكنها تجن بما في سريرتها من النغم الموزون، مزيجا من الدمع والمطر ونبضات أجراس الكنيسة، يندمج في فؤادها وما جليقية كلها إلا مارستان مرطوب تتعذب فيه، جليقية سجن من النوافذ والأبواب، وقضاء من الماء والضباب والدموع، تتأمل فيه روزاليا محيا روحها وضميرها، ولا ترى في مرآته غير القرار من غوره الدفيء.
الضباب في جليقية، يطفو ويستدير حول القطن، ويرغي كالزبد من الملح المخفوق، ويحدق بفروع الماء من قبل الخضم الرجراج، يحاصر الجدران، وينتشر على الشطآن، ويلف كل شيء في طياته الجون. وتأتي السقى فتدخل مغمضة العيون، أو هي لا تهتدي إلى المدخل. وهي هناك في سكنها، في حقلها، في شاطئها المجهول، حيث المواقع في أرضها قريب من قريب، تتمشى طويلا على هينة وقلق، حول الصخور الأربع والجدران الأربعة المبتلة، وعلى البعد منها، وعلى مقربة منها، في كل دار منعزلة، وفي كل صخر منفرد: ضريحان توأمان مملوءان أو فارغان، تحت أسداف المساء الأبدي من يوم كيوم الكفارة عن جميع الأرواح، وحيثما نظرت فهناك روزاليات أخريات، أكبر منها أو أصغر، أيامى الأموات والأحياء اللائي لا يعزيهن أحد، ولا يعرفن العزاء.
جوزيه مارتي
Jose Marti
3
قبل أن أرى كوبا لم يلتق بصري بجوزيه مارتي حق اللقاء، فلا لقاء له قبل لقاء وطنه ومآلف حياته، وإن رجلا لا بطانة له من نفسه أو من أنفسنا، لهو ذات ضائعة بغير ملامح وأوصاف، وسبيلي على الدوام أن أفتش عن بطانة وراء الأنفس، أو وراء الأشياء؛ فإن البطانة تكشف عن الكيان الصادق، وعن أطوار ذلك الكيان لشيء أو لإنسان، فإن لم أجد ما أفتش عنه فمن الخير أن أقنع بصورة لإنسان شفاف، أو لكائن شفاف.
ولقد رأيت مارتي الذي في كتبه، أو مارتي الذي في كتب المترجمين له، يوم رأيت مارتي في كوبا الخضراء الزرقاء الشمطاء بما يكتنفها من الشمس والماء وزوابع الهواء، وما يتناثر من الخيل منبسطا أو منزويا في واحة هنا وواحة هناك، وما يتفرق من أجم وأودية ونسمات وخلجان وجبال ملأى بما احتواه مارتي من طلاقة التقدم والنهوض.
من خلال هذا كله نفذت إلى مارتي في كتبه وكتب مترجميه.
إن ميجويل دي أنامونو وروبين داريو قد صنعا الكثير لتعريف إسبانيا بالمزيد من مارتي. مارتيهما الأثير لديهما، مذ كان مارتي خصم إسبانيا السيئة أخا لأولئك الإسبان، الذين يخاصمون إسبانيا عدو مارتي الغضبى عليه.
وداريو مدين له بالكثير.
وأنامونو مدين له بالجم المعدود.
وإسبانيا وأمريكا الإسبانية مدينة له بالمشاركة الشعرية من جانب الولايات المتحدة، وكان مارتي بهجراته إلى منفاه في نيويورك - وهي للإسبان الأمريكيين كباريس للإسبان الأوروبيين - أقدر من سعى لتقريب الولايات المتحدة من العالم الإسباني بين أصحاب الأقلام. وأحسب أن ويتمان - وهو أعرق أمريكية من مواطنه پو - إنما اقترب منا نحن الإسبان على يد مارتي الذي كتب مقاله عنه فأوحى إلى داريو تحيته إلى الشيخ الطيب، واجتذبني إلى شاعر بحيرات الخريف الرفيق العنيف.
وإن مارتي - بعد حياته لنفسه في نفسه لموطنه كوبا - ليحيا بشعره ونثره معا في نفس داريو الذي اعترف له بدينه منذ البداءة، وإن الذي تلقاه عنه ليدهشني اليوم بعد استيعابي لهذا وذاك. فيا له من عطاء! ويا له من قبول!
وأذكر منذ الطفولة، ولا أذكر أين، قرأت لمارتي هذه السطور:
إنني لأحلم بالصوامع المرمرية.
وهي في صمتها المقدس.
قائمة والأبطال لديها هاجعون.
وعلى ضوء من الروح أتحدث.
إليهم تحت جنح الظلام.
ولقد فكرت فيه، ولم يفارقني، ورأيته يومئذ غريبا مخالفا للإسبان الأمريكيين وليس لنا نحن، ورأيته أقوم وأخفى وأمضى وأغمض وأوفر نصيبا من الوطن، وأوفر نصيبا من العالم، وأبعد من معاصره جوليا ول كازال الكوبي الآخر على صورة أخرى من الدعوة العصرية الزائفة، التي على الرغم من ذلك جذبت داريو إلينا نحن الإسبان، ثم هناك سلفادوري رويدا، ثم فرنسسكو فلسبيزا بعد ذاك.
وما كان كازال قط ممن أسيغ على هواي. أما داريو فهو على فرط فرنسيته كصاحبه كازال في دور النكسة، فإن لهجته الهندية الإسبانية الفطرية في شعره المخصب على أحسنه لتسحرني وتستهويني. كلا! كلا. إن مارتي لشيء مختلف جد مختلف، وإنه لأقرب إلي وألصق بي، ومن ذا الذي يرتاب في مارتي المجدد المستحدث؟! ومن ذا الذي يفهمه فلا يحسبه عصريا كسائر العصريين من الإسبان الأمريكيين؟!
وكنت - إذ ذاك - لم أقرأ من مارتي غير القليل، أو قرأت منه ما يكفي للتعرف إلى معناه ومبناه، وكانت كتبه - وهي كغيرها من الكتب الإسبانية - غير مطبوعة في باريس، وقلما ترى في إسبانيا، ولم أعرف غير النادر من نثره الإسباني، بل المغرق في الإسبانية المنمقة، أو عرفته بعبارة أخرى، ولم أعرف أنه هو نثره؛ لأنني كنت أصادفه مضمنا فيما يكتبه داريو، إذ كان كتاب القشتيلي لداريو صالحا لأن يخرج من يراعة مارتي، لولا أن مارتي لم يكن قط من المأخوذين بذلك الرونق الإسباني المزخرف، الذي كان يبهر داريو فيفتح عليه كل عينيه كالطفل الريفي المشدوه، وقد ظل داريو في جميع حالاته خارجا من نطاق تلك الشخوص التقليدية، من ملك وأسقف وفارس وأستاذ فقيه مصطبغين بصبغة المراسم والشعائر، وما كان مارتي ليعرب أبدا عن المظهر الموشى حتى في حديثه عن النساء، وهن ما هن عنده على مثالهن عند داريو ولكنه على صورة أخرى؛ فليس لمارتي سلفية عريقة في غير مفردات اللغة وغير المفردات التي تمتاز بينها بالتعبير عن فكرة أو عن خالجة موقرة، وما كنت لأشعر بهذه الموازاة بين مارتي وداريو لو لم أذهب إلى كوبا، وليس من أربي - ولو في سبيل إنصاف مارتي - أن أغض من داريو العظيم أو أجور عليه؛ لأنني معجب به في غير هذه الناحية، بل معجب به أيضا فيما يشبهه من الصفات لصراحته واعترافه بالاستفادة من مارتي في تلك الصفات، وإنما الفرق بينهما في غير ما يختلف به وجودان مستقلان راجع إلى أعماق التجارب المختلفة التي ابتلاها كل منهما في حياته؛ لأن مارتي حمل في أطوائه جرحا إسبانيا لم يصب مارتي بمثله.
إن هذا جوزيه مارتي، هذا القائد العنكبوت الذي نسج خيوطه من الحب والبغض بين الورود والكلمات والقبلات البيض، منتظرا مصيرة المقدور، قد سقط في أرضه التي شهدتها الآن فريسة الهوى والحسد وقلة الاكتراث بعض الأحوال كما كان مقدورا له على سنة الفرسان المجاهدين صرعى الغرام في كل وطن وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وقد كان هذا الدون كيشوت الكوبي يحيط بالروحانية الأبدية والمثالية الإسبانية.
فيا معشر الكوبيين، إنكم أخلق من سواكم أن تكتبوا أنشودة مارتي وأقاصيص خياله، وهو بطل الحياة والموت الذي ذاد عن وطنه وعن قرينته وعن أمته ذودا جميلا بما أقدم عليه من التضحية بحياته الشاعرية الرفيعة، وقد كانت تلك الرصاصة التي أردته من نصيبه حقا، فجاءته - لهذا - كما تجيء كل رصاصة ظالمة من كل فوج ومن جوانب شتى ومن تراث القرون المسفة، فلم يبرأ من جريرتها غير القليلين من الإسبان والكوبيين، فكلهم مسئولون عن تلك الشظية التي نفذت إلى جثمانه، ولست أشعر - أنا أيضا - بخلوي من تلك الشظية، وإن لم تكن من حقي ومن سهمي. وقد شعرت به وبما كان يختلج من شعوره دائما، كما نشعر حيث نكون في النور إلى جانب الشجرة والماء والأزاهير ذوات المعاني والرعاية. وإنني لمن ذلك الطراز الواجد المبتهل الذي يؤمن بأن الخير يهلك ظاهرا، ولا يهلك جدا بما يقصده به الآخرون؛ لأن الشر يهلك نفسه بيديه.
بكوير
Becquer
4
بسط بكوير إحدى يديه وأسلم نفسه للريح البحرية حول كرمه المعسول، مأواه الأمين من بغتات الوابل الدافق المرعد في شهر مايو كلما حن إلى لحظة من لحظات الظل والعطر بين غيوم السوداء والقنوط. وإنه ليرتجف ويختلج ويسعل ويقبض بيده في الوقت نفسه على قبعته العالية، وهو يواجه هبات الرياح، وإنه ليجهد جهده ليلف الربابة الخيالية في ردائه القصير الذي يكاد لا يغطيه في هذه اللحظة من الربيع القارس المكظوظ بالزوابع السافية والغيوث الهامية. أتراه في ذلك الصباح في ركن مظلم من الحجرة قد انتزعها - تلك الربابة - بأوتارها العارية وأجنحتها الناعسة كأنها شجرة اللوز المزهرة؟ إلى أين يا ترى يحملها ليرسل نغماتها؟! وأي خليط هناك من العسل المشتار، والهم، والربيع، والمرأة، والقشعريرة، تحويه تلك الربابة المثالية؟
ربابة أو امرأة، وتر أو معصم. إنها جميعا تحلم بالحب الخفي: «يختم خيانته بقبلة!»
لقد طوى في صدره صدى مسمرا في دخيلة الروح، ومضى يتعذب به كأنه وخزة الشوكة من الثمرة المفخمة على شجرة البرتقال: ذبحة لا تطاق، ولكنها لا تقتل صريعها بطعنة واحدة.
مضى يحمل الألم الملتهب، ويرى هل يطيق أن يدفع به إلى البحر الواسع من نهر الدم الذي يسري في عروقه، وإنه ليدق ويدق في كل أنحاء سمعه، ومن قدمه إلى فرعه، تحت سحابة خانقة من خفقان قلبه الكليل.
قلق فاتر يقابل سبحات الخيال البيض المذهبات المتألقات بشتى الألوان، وبهذه النبضات القلبية يصنع نغماته، ويسمو إلى الأبد حيث تخفق الحياة في القصيد من وحي الإسبان: «واليوم تنزل الشمس إلى أعماق الروح». وحول بكوير - كالخلاصة الصفراء الفضية من الزهرة المثالية، وبين العصافير المتجمعات لتتويجها، والمنقار الغيور يغرد بها - تطير الأوزان والألحان في أحوال شتى قبل وبعد المبتذل من الأشياء، فريدا صادقا فيه؛ إذ ليست هي إلا سجعاته القاسية الشمطاء.
جرس وقافية - حقا - تمر السنون في إسبانيا، ولا يستخدمان بغير رجعة إلى بكوير.
جرس. قافية. قافية. جرس. قافية. قافية النهد الأسود والأبيض المحفوظ على صفحة الطغراء، طغراء الرواق على حجر القبر، على جدار الدير، على الشرفة المغلقة بسماء إشبيلية الغربية: خضرا وقرنفلية، ومعها الماء والشمس على صفحات الزجاج.
ذكريات
نيويورك 5 من أبريل
الفتاة الزنجية تنام وفي يدها وردة بيضاء.
والوردة والرؤيا تبددان ما تناثر من زينتها الحزينة كأنهما غشاوة من السحر منبسطة عليها: تلك الزينة من الجوارب المطرزة، والمئزر الأخضر، والقبعة الذهبية، بخشاخيشها الأرجوانية.
وإنها لتحلم - وهي مستسلمة للمنام - بالوردة البيضاء في يدها السوداء.
ما أشد قبضتها عليها!
لكأنها تحلم بأنها تحميها وتحرسها، وإنها لتعنى بها عناية السائر في نعاسه، وتتخيل - على ما يرى - أنها ولدتها في ذلك الصباح، وأنها أصبحت أما والدة لروح وردة بيضاء. ومن حين إلى حين يخنق النعاس إكليل الوردة المطوي التي لو كانت ذهبية لسطعت في أشعة الشمس فتنغض رأسها وتلمس نهد الفتاة أو كتفها. فلا تلبث الكف التي تمسك بالوردة أن تذود عن كرامتها: كرامة حامل العلم لبواكير الربيع.
ويقابل هذا الحلم - غير منظور - واقع من الضجيج في الجوار القريب يغطي على كل شيء حيث يرين الحر والقدر وقلما يحسان.
وكل من هنالك ألقوا صحفهم وتركوا المضغ والصياح في غاشية من الملل والشجن مستغرقين في النظر إلى تلك الوردة البيضاء، كأنها الوعي الباقي في ذلك الجدار.
والوردة - بين ذلك - تشع بنفحة جميلة كأنها روح لا جسد له، أو حضور شامل يحيط بكل ما هنالك، إلى أن يتسربل الحديد والفحم والصحائف، كرامة للوردة البيضاء، بربيع أجمل، في خلود غير محدود.
القمر
نيويورك 23 أبريل
برودواي. المساء. روائع في السماء من صنوف الألوان تصيب النظر بالدوار. ... والقمر.
القمر ...
لننظر. لننظر إليه بين ذينك الصرحين العاليين فوق النهر ، على تلك الذروة الحمراء. ألا تراه؟ مهلا لنرى.
أهو القمر يا ترى أم هو مجرد إعلان عن القمر؟!
ليحيى الربيع
نيويورك
العجوز ذات الأظافر الملوثة تتيقظ .
وأقبلت السفن الداكنة إلى هدسون المضطرب في حلقة من حديد، كأنها كواكب الليل تقبل بعد الشفق نحو النور من جانب الظلام.
وجاء الربيع، بحنينه إلى الطهر، يعززه الفجر العائم في السماء، وعلى وجه الماء، نحو المدينة.
ويستوي النهار في مكانه، ويمينه على التليفون، من مركز برودواي.
وقضى - الربيع - ليلته كلها يتجمل ويزدان سابحا في ضياء القمراء، تندى وروده الدافئة برونق الفجر الذي لا يزال في طريقه يصارع (شركة الدخان والغبار والأوحال ليمتد) ليتلقاه مرشد بوغازها!
لكنه وا أسفاه! يعود الفجر فيسقط في الماء منهزما، حيث تمتد إليه أشعة من الشمس المحمرة لإنقاذه. فينتشلونه ويسعفونه بالتنفس الصناعي عند تمثال الحرية.
ويا للمسكين! ما أشد فرحته بالنجاة وهو مهزوم!
إن الذهب الشاحب من شعاع الساعة التاسعة كاف لتتويجه. نعم إن البراعم المتسخة على شجر الرصيف لتبتسم في سمت وضيء، وإن العصافير على المداخن لتغني غناء تشوبه ذكريات الثلوج، ومقابر الشاطئ ترسل الغبار الأسود نثارا كالشرار، وشريط من القرمز المشرق يصبغ أعالي الأبراج حيث تدق أجراس الخطر وأجراس المعابد في اختلاط.
انظر إلى الربيع الآن!
إنه الساعة قوي متجرد في ميدان واشنطون تحت القوس، يتأهب للمسير من الشارع الخامس نحو الحديقة، ثم لا يزال يدق قدميه تزجية لوقت الفراغ، ولا يتقدم!
إنه يحني رأسه، الآن.
وليحيى الربيع. وليحيى الربيع. وليحيى الربيع.
مقبرة برودواي
نيويورك
هذه المقبرة الصغيرة تؤدي إلى حي الأعمال، يصل إليها القادمون من أربعة مفارق متزاحمة، جو وترام وسيارات بالعداد ونفق. ولا يخذلها بين هذا كله صمتها الصابر الصغير.
ولا نهاية للعناوين المتألقة المتقابلة التي تعلن بالأحمر والأسود كل ما في نيويورك من (ال ... وشركائهم) تصوغها شمس الغروب، وتجمعها وتفرقها على أنماط وأشكال، بين اتصال وانفصال، فتصطبغ بها الأكتاف والظهور من حجارة الشواهد على القبور، وتتوشح هنا وهناك بوشائح من صبغ القلوب التي في الصدور .
مسكينة هذه البحيرة من عالم الفناء بما يلحق بك من معبد صغير - كأنه لعبة معبد - ترن أجراسه حالمة محاصرة؛ لما فيك من سكينة تحيط بها الأبواق والمطارق والصفافير.
إلا أن هذا الصفاء - على صغره وعلى انحصاره - خالد تحت ذلك العشب الحائل الذي نماه رفات جيل آفل. وما فيه غير زهرة واحدة ينحرف إليها شعاع الشمس الغاربة، فتغمر بالشعر هذه الرهبة من وحشة الساعة الخامسة، وتجلها التوأم الوحيد لشمس الغروب في جلالها السرمدي الذي انعزلت عنه المدينة العامرة.
مقبرة أيضا
بين نيويورك وفلادلفيا
مرة أخرى نعم.
بل مائة مرة. إن أعظم ما يستهويني من أمريكا كامن في سحر مقابرها.
إنها قريبة منا، لا يحيط بها حائط من حولها، وكأنها البلد الوحيد في كل بلد، يستهوينا إليه وحيه الشعري من سكينته المغردة بطيورها، أدنى إلى معترك الحياة من الحدائق والموانئ والمتاحف، تخرج الطفلة الصغيرة فتعبر بها من دارها إلى جوارها، وتتلبث هنالك هنيهة تلاعب عروسها، أو ترمق الفراشة التي تتطاير أمامها، وتنعكس صلبان الشواهد على زجاج النوافذ من حولها، فيجتمع البيت والضريح في ظل واحد، ويطير العصفور من شاهد القبر إلى نافذة الدار، آمنا أمان الطفلة الصغيرة في المقبرة.
يا له من نصر! هنا ينتصر به الجمال على الموت، ويا له من مثل مطمئن بين أمثلة شتى من العجلة والقلق فيما يليه!
أيتها الوردة طاب رياها.
أيها الماء ساغ شرابه.
أيها الحلم نعمت به أعين الحالمين.
ما أحرى الموتى أن تستريح بينك يا هضاب نيويورك، مطمئنة إلى الحياة الأبدية بين عوارض هذه الحياة اليومية!
مدريد
ما أقربها من الروح!
ما أقرب البعيد! البعيد، الذي لا يزال بعيدا من الأيدي، قريبا من الروح.
كأنه ضياء من كوكب سحيق.
كأنه صوت غير مسمى.
كأنه أحلام سارية، كأنه جواد نتسمع حوافره الراكضة بآذان على أديم الصعيد.
كأنه أصداء الموج من البحر المريج، في سماعة التليفون!
وتنشأ الحياة خلقا جديدا بين جوانحنا في ضياء لا يخبو، من نهار جميل يسطع في مكان ناء عن هذا المكان القريب.
آه ما أحلاه ما أحلاه! ما أحلى الحق ولما يبرزه التحقيق!
الإصغاء إلى الماء
أظلم المساء، وجلست على مقربة من سلم الماء الصغير بجنة العريف من غرناطة (مدينة الرمان).
جلست متعبا من مسرات الأصيل الذي انقضى في نعمة فردوسية متلاحقة، وهبطت كالطيف الذي لا ظل له ولا جسد، في أطوار الظلمة النامية التي تحلو لك كل لحظة، ولا تزال تشف عن سماء عرت فيها النجوم من سرابيلها.
وأحدق الماء بي مصطبغ الأصداء، برودا، قريبا وبعيدا، متسربا جاريا في كل قناة وكل جدول وكل شؤبوب، وكنت قريبا منه حيثما كان، فملأ مسامعي وهجس لي بأخفى وساوسه، وكاد يتمثل لي معزفا منسوق النغمات متجاوب الأصوات، بل لعله استغرق فغرق في نفسه موسيقى من الماء، بل موسيقى هي الماء.
وسمعت موسيقاه غامضة وواضحة: غامضة لأنها الآن لم تكن منعزلة عني، بل كامنة متنقلة في عروقي، ودمي الذي يسري في جوانبي، فمن خلال هذا الماء تمتزج بالدنيا الباطنة كل وشيجة منها إلى نفسي ومن نفسي إليها.
وواضحة لأنها صوت يعلو كلما راحت في الظلام شبحا لا يرى، وكلما ترددت في السمع وتجاوبت بالترداد صفت روحي وغرقت في الصفاء، حتى لا تسمع ولا تقول؛ لأنها هي المسموع والمقول.
ولمحت من جانب العين ظلا مديدا في قامة إنسان، منفردا، مصغيا، يجاور ظله على درج السلم، ويخطو رويدا رويدا مقتربا مني، ويقول لي بصوت سمعته وسمعت الماء معه: تصغي إلى الماء؟
قلت: نعم. ونهضت قائما وأنا أتحدث إليه قائلا: وأنت مثلي أراك تستمتع بالإصغاء إليه.
قال: لا حاجة بي أن أستمتع بالإصغاء إليه؛ فإنني أصغي إليه منذ ثلاثين سنة.
فهتفت به: ثلاثين سنة! وقلتها وأنا لا أذكر، ولا أعني أن أذكر، منذ كم من السنين كان إصغائي إليه.
ثم سمعته كأنه يقول: تخيل ما قد أخبرني به. وتخيل ما قد سمعت منه.
وانسرب في رفق فغاب في الظلماء، وغاب في الماء.
قنطرة
إلى قنطرة الهوى.
إلى الحجر الجاثم بين الصخرتين.
إلى موعد المواعد التي لا ينتهي موعدها.
أتيت ومعي قلبي. •••
وما كان لي عند القنطرة من حبيب غير الماء.
أبدا يجري ولا يخدع أبدا.
وأبدا يجري ولا يتغير أبدا.
وأبدا يجري ولا ينتهي أبدا.
نهر هدسون
ولكي أذكر كيف عشت عدت إليك يا نهر هدسون من بحري «العذب كعذوبة هذا النور يتجلى حبا.»
وتحت هذه القنطرة التي احتوت من نيويورك أكثر ما تحتويه، يجري جدول طفولتي المذهبة. طفولتي؟! أي نعم؛ فقد أعود طفلا مرة أخرى، وأنمو - كيفما أنمو - فيستوعبني صغيرا ما هو أكبر وأعرق وأبقى.
أيتها الأسطورة التي لا انتظار لها، والتي تعذب كعذوبة النور يتجلى حبا، إن نيويورك هذه لشبيهة بمقرة، شبيهة بإشبيلية، شبيهة بمدريد، وإني لأفتح الباب حيث أقيم لتدخل إلي الشمس حبا بهيجا كبهجتها، وألقى أحدا فأضحك، وأثوب كرة أخرى إلى ملاذي المدخر من العزلة والصمت، سواء في الطبقة التاسعة أو الطبقة التي على الأرض تستقبل السماء، حبا وضياء، والحب حلو كالضياء.
الصور من صنع موريلو
1
تنظر إلي خلل النوافذ، والعصافير العالمية تغرد على الأسلاك، وأنا والعصفور نتبادل الغناء ونتساجل الحديث، وأصغي فتهب علي ريح العالم الواسع بصوت امرأة. فما أملحه شارعا أرتضيه سكنا لأطيافي وأشباحي وما يحوم في رأسي من الأخيلة والأوهام!
إن الشمس تحرق الجانب الجنوبي من ركني، وهذا القمر المنقوش على الحصير يوقظني لأهرب من هذا الفقر الموشى مبادرا إلى قنطرة واشنطون، أصدق القناطر جميعا في نيويورك حيث يجري جدول طفولتي الموشاة.
وشبعت نفسي فرجعت إلى الشارع، تفتح الريح معطفي كما تفتح قلبي، فأبصر الوجوه الحسان، وأرى أشجار الحور في حديقة يوحنا الرباني آتية من مدريد. وأتحدث إلى كلب هنا وقطة هناك بالإسبانية، وأسمع صبيان الكنيسة يرتلون الصلوات باللسان العالمي الذي يتناجون به في جنات الفردوس وفي أفق القمر، وأحذو حذو النواقيس مع أشعة الظهيرة، حيث تعوم السماء في بحر تمازج فيه البنفسج والذهب على وفاق، كأنه قوس قزح على أبدع مثال.
إن الحب حلو كالضياء.
سطور
الأدب السلفي هو الأدب الذي تم في زمنه - أو لأنه تم في زمنه - أصبح فوق الزمن، غير محدود بزمانه دون سائر الأزمان.
ما مضى يوم دون أن أمحو فيه صفحة.
لن تجد في العزلة إلا ما حملته أنت إليها .
ما أشد النزاع في نفسي بين الحسن وما هو أحسن!
تشجع الشباب، تحاسبه.
تؤدب الناضج. تحتمل الشيخ!
إنني أخبئ عروس الشعر في داري لمتعتي ومتعتها، وما بيننا من صلة إلا الصلة التي بين المحبين المشغوفين.
حركة. نشوة. نعمة. مجد. شعري.
طهر، تجدد.
علامة الشعر الصادق العدوى.
حاذر! ليست العدوى بالمحاكاة!
الأسلوب.ليس بالقلم، وليس بالكلام.
ما يراه الشباب فينا مهم، فإنما الشباب أول المستقبل.
أحسن ما صنعت، ندم لما صنعت.
روحي: مرآة في الظلام، أينما حلت تقبس الشعاع.
دعونا نربي أولا: القدرة على الرفض.
النقد: لست أحتمل الرأفة، ولكنني أتقاضى الإنصاف.
جذور وأجنحة، ولكن دع الأجنحة تنمي لها جذورا، ودع الجذور تطير.
في حياتي وفي موتي، لا أسباب لي غير أسباب الجمال.
الدنيا لا تشيخ. إنها تسترد الشباب في كل جيل.
الإتقان في الموقوت أيضا، كأنه مفروغ منه.
لنفرح بالفرح الأكبر: فرح الإنجاز.
الإيجاز أدب الفن الرفيع.
تبقيه جميعا، ولكن بجهد جهيد.
طائر الماء على البر أوزة!
زهرة حزينة، تفتحت عنوة!
أن تنقح معناه أن تدبر المفاجأة!
القصيدة كالنجم، عالم يرى كأنه فص من جوهر.
الفجاجة، كالدقة، لا تطلب ولكنها مصادفة. أو هي ملاحة بلا تطرية.
صفحه نامشخص