وبعد بضع خطوات أخرى، دفنوه في جب تحت الأرض، طوله ثلاثة أمتار في مترين ونصف، وبه اثنا عشر رجلا محكوما عليهم بالإعدام، لا يتحركون لعدم وجود أي مكان، الواحد منهم إلى جوار الآخر كالسردين، يقضون حاجاتهم وهم وقوف، ويطئون فضلات أجسامهم مرارا وتكرارا. وكان «كرفخال» رقم 13. وبعد رحيل الجنود، ملأت الأنفاس الأليمة لتلك الجمهرة من المعذبين صمت الجب الذي كانت تعكره على البعد صرخات أحد المسجونين.
ووجد «كرفخال» نفسه مرتين أو ثلاث مرات يحصي في آلية صرخات ذلك التعس المحكوم عليه بالموت عطشا. اثنتان وسبعون. ثلاث وسبعون. أربع وسبعون ... وجعلته نتانة البراز الموطوء بالأقدام ونقص الهواء يشعر بالإعياء، وحملاه بعيدا عن هذه المجموعة من البشر ليجول على شفا جرف جهنمي من اليأس، محصيا صرخات السجين.
وكان «لوسيو فاسكيز» يروح جيئة وذهابا في زنزانة أخرى مجاورة، وقد كساه مرض الصفراء لونا معصفرا، وأظافره ومقلتاه بلون الجانب السفلي من ورقة أشجار البلوط الخضراء. وكان الشيء الوحيد الذي يسري عنه في شقائه هو أنه يوما ما سينتقم من «خينارو روداس»، الذي كان يعتبره مسئولا عما يلقاه من رزايا. كان هذا الأمل البعيد هو ما يبقى عليه الحياة، أمل مدلهم اللون وحلو المذاق كالعسل الأسود. إن بإمكانه أن يحتمل البقاء هنا إلى الأبد لو كان بمستطاعه أن ينفذ انتقامه فحسب. لقد عشت الليالي الحالكة السوداء في صدره الخسيس، لدرجة لم يعد معها من شيء يدخل بصيصا من النور على أفكاره الشريرة إلا صورة السكين وهي تقطع أحشاء «روداس» تاركة فيه جرحا كالفم الفاغر . وقضى «فاسكيز» ساعة وراء ساعة، ويده متقلصتان من البرد، يتذوق طعم انتقامه، كدودة مجبولة من الطين الأصفر. اقتله! اقتله! ... وكان يمد ذراعه في الظلمة، كأنما عدوه قد بات بالفعل في متناول يده، ويتحسس في خياله سكينه البارد كالثلج، ويهجم على «روداس» كأنه شبح يقوم بحركاته المعهودة. وأعادته إلى الواقع صرخات السجين، الذي كان يردد في صراخه بعض كلمات بالإيطالية: بحق الله، من فضلكم ... ماء! ماء! ماء! ماء! أيها الضابط ... ماء! ماء! بحق الله، من فضلكم ... م ... ا ... ء، ماء! ماء.
وألقى السجين بنفسه على باب زنزانته، التي عزلت تماما من الخارج بطبقة من الطوب الأحمر المثبت إلى الأرض بالأسمنت وغطيت جدرانها بالأسمنت أيضا. - «ماء، أيها الضابط، ماء، أيها الضابط، ماء! بحق الله، من فضلك أيها الضابط!»
وظل السجين، وقد نفدت منه الدموع، واللعاب، وكل ما هو رطب أو بارد، وقد استحال حلقه أكمة شوك حارقة، مترددا بين عالم من نور ورقاع من ظلمة، يقرع صرخاته التي لا تنقطع: «ماء، أيها الضابط! ماء، أيها الضابط! ماء أيها الضابط!»
وكان ثمة رجل صيني على وجهه علائم الجدري معنى بشئون السجناء. وكان يأتيهم «كل بضعة قرون» كأنما هو آخر نفس في الحياة. هل كان ذلك المخلوق شبه الإلهي يوجد حقا، أم كان خيالا من خيالات أحلامهم؟ كانت رائحة البراز الموطوء وصرخات السجين تجعل رءوسهم تدور؛ كما أنه من الممكن أن ذلك الملاك الحنون لم يكن سوى رؤيا خيالية من بنات أفكارهم. - ماء أيها الضابط! ماء أيها الضابط! بحق الله، من فضلكم، ماء! ماء! ماء! ماء!
وكان ثمة جنود يروحون ويجيئون، تدق كعابهم على الأرض المغطاة بالقرميد وهم يرتدون صنادلهم الجلدية، وكان البعض منهم يزأر بالضحك ويرد على السجين الصارخ بقوله: «أيها التيرولي، أيها التيرولي، لماذا قتلت الطائر الذي يتحدث كالإنسان.» - «ماء، بحق الله، من فضلكم، ماء، أيها السادة ماء من فضلكم!»
وكان «فاسكيز» يتدبر انتقامه، بينما تركت صرخات الإيطالي الهواء جافا عطشا كغلاف قصب السكر. وجعله صوت طلقة رصاص يحبس أنفاسه. لقد بدأ تنفيذ أحكام الإعدام. لا بد أن الساعة الآن الثالثة صباحا.
الفصل الثلاثون
زواج في ظلال الموت
صفحه نامشخص