آقای پونتیلا و خدمتکار او ماتی
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
ژانرها
وطبيعي أن يكون القيام بدور بونتيلا أمرا عسيرا؛ فالمشكلة هنا في تمثيل السكر الذي لا يكاد يفيق منه طوال المسرحية؛ فلو أن الممثل قام بدور سكير عادي مما نراه على المسرح، وعرض علينا حالة السكر كأنها حالة تسمم تختلط فيها الوظائف النفسية والجسدية؛ لبعد بذلك بعدا كبيرا عن شخصية بونتيلا؛ ذلك أن سكر صاحبنا من نوع خاص، ولا بد أن يبين لنا الممثل من خلاله كيف يقترب بونتيلا عن طريقه شيئا فشيئا من الحالة الإنسانية؛ فالسكر هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه نفسه، بل وجسده أيضا أن يسبحا في مياههما الطبيعية، ويكشفا عن معدنهما الأصيل الذي لا يلبث الوضع الاجتماعي المصنوع أن يبعدهما عنه. والممثل الذي يقوم هنا بدور السكير ينبغي أن يصون نفسه من أسلوب الأداء التقليدي الذي يجعل صاحبه يخلط في كلامه وحركات جسده؛ فلغته ينبغي أن تكون ذات إيقاع موسيقي لطيف، وحركاته أقرب ما تكون إلى الرقص؛ فهو يتحرك فوق المائدة الكبيرة المكتظة بالكئوس والزجاجات حركات خفيفة رشيقة تكاد أعضاء الجسد تقصر في التعبير عن خفتها ورشاقتها، وهو يصعد فوق جبل «هات يلما» الوهمي في نهاية المسرحية كأن له جناحين. إن كل حركة من هذا الوحش المضحك الذي آن أوان انقراضه تعبر عن الجهد اللاشعوري الذي تبذله روحه لتتحرر من قيودها وتعود إلى حالتها الإنسانية الحقة. إنه حين يرضى عن صديقه أو يثور غضبا عليه، وحين يظهر الكرم الزائد أو الجشع الدنيء، وحين يلح إلى حد الذل والاستجداء أو يدعي غطرسة الكبراء والأغنياء، إنما يكشف دائما عن عظمة حقيقية وبراءة مؤثرة. ألا يزهد في أملاكه زهادة بوذا، ويثور على ابنته ثورة الملك «لير»، ويدعو نساء كورجيلا المساكين كأنه أحد سلاطين ألف ليلة أو ملك من ملوك هوميروس؟!
أما ماتي فينبغي أن يحافظ من البداية إلى النهاية على اتزانه وبروده ونظرته الموضوعية النافذة؛ فمن المهم في تفسير شخصيته أن يظل مثالا للرجل «العملي» الذي لا يغتر في نوبات صديقه وسيده، فلا يفرح كثيرا بمعاملته الطيبة، ولا يغضب أيضا لثورات غضبه؛ ذلك أنه سينظر إليه دائما نظرته إلى «ضحية» من ضحايا المجتمع الرأسمالي مهما أتت من الفظائع، فالذنب في الحقيقة يقع على البناء الاجتماعي لا عليها . ويجب أن يحرص ماتي دائما على أن يتصرف «كما ينبغي» سواء كان يتحدث مع ابنة الإقطاعي وهو يفك إحدى عجلات العربة أو وهو يغازلها أو يكنس الأرض أو يدلك قدمي بونتيلا أو يحمل القاضي السكران إلى خارج المسرح أو يطالب بحق العامل الاشتراكي في العودة إلى وظيفته. إنه دائما العقل الواضح والعين النافذة، ومن العلامات الدالة على شخصيته أن مخرجي المسرحية في برلين وزيوريخ كانوا يضعون على وجوه بونتيلا والقسيس والملحق الدبلوماسي والقاضي والمحامي وزوجة القسيس أقنعة تبرز جانب السخرية في شخصياتهم وتجعلهم يتحركون على حسب الأحوال في عظمة الملوك أو سخف البلهاء. أما ماتي (ومعه نساء كورجيلا الفقيرات وخدم بونتيلا وعمال الضيعة وفلاحوها) فقد تركوا وجوههم عارية بلا أقنعة، كأن نفوسهم الحقيقية لا تحتاج إلى شيء يموهها أو يخفيها، فإذا كان الطفيليون على المجتمع يحتاجون إلى هذا التمويه، فإن جذوره وأعمدته تستطيع أن تستغني عنها. بذلك يتخذ المسرح الواقعي موقفه من الواقع، ويدعو المتفرج معه إلى تبني هذا الموقف والاقتناع به ورؤية الواقع على أساسه.
ولنأخذ موقفا ترفع فيه التناقضات الاجتماعية في لحظة من لحظات السكر الشديد؛ فها نحن في حفلة خطوبة إيفا على الملحق الدبلوماسي، على المائدة يجلس السيد إلى جانب خادمه، والقسيس مع الطاهي، والعروس المرفهة مع راعية البقر، والقاضي والإقطاعي إلى جوار العامل والسائق. إن بونتيلا يجلس ببذلته السوداء الفخمة وياقته المنشاة وإلى جانبه سائقه ماتي ببذلته الشاحبة الصفراء وقميصه الذي سقطت عنه ياقته. النجف البلوري في السقف يشع نورا فخما في جو الحفل المتخم الشبعان. ولكن بونتيلا الذي تشاجر مع عريس ابنته من لحظة مشاجرة هائلة قد قرر الآن - وهو سكران لا يعي - أن يزوج ابنته لسائقه الهمام. وبدلا من اللحوم المشوية والفاكهة النادرة يأمر بأكلة «رنجة» يؤتى بها على طبق من الفضة؛ ليمتحن العريس الجديد عروسه المدللة، ومعها سائر الطفيليين والمقنعين. إن ماتي يقف حاملا طبق الرنجة في يد وممسكا باليد الأخرى سمكة رنجة من ذيلها. لم يعد المتفرج في حاجة إلى الملبس ليفرق به بين إنسان وإنسان. تكفيه النظرة المتزنة غير المبالية أو النظرة المدهوشة المتعجبة ليعرف إن كان صاحبها من الأعلين أو الأدنين!
ويستغرق ماتي في النظر إلى سمكة الرنجة، يفحصها ويناجيها ويبتهل إليها. إنه ينظر إليها نظرته إلى شيء يعرفه من أمد طويل ويكتشفه في نفس الوقت للمرة الأولى، ويظل يمجد فيها شرف العمل وحب الأرض وشقاء العمال: «أجل. إنها هي. إنني أعرفها من جديد. أنت أيتها الرنجة، يا سمكة الكلب، لولاك لرحنا نطلب من أصحاب الضيعة لحم الخنزير. وماذا يكون حال فنلندا حينذاك؟» ويوزع السمك على الحاضرين بين ضحك البسطاء ودهشة الأغنياء. ويبدأ الجميع في الأكل كأنهم يقومون بعملية معقدة، ويخدمهم ماتي كما يخدم صاحب البيت ضيوفه الفقراء. وتتوالى عملية الكشف عن طبقات المجتمع، كأن هناك أثرا يهيل عنها التراب. بونتيلا يتناول لقمته بلا اعتراض وفي عينيه تطلع الرحالة الذي تطأ قدماه أرضا جديدة، وسمكة الرنجة تصبح في يده كأنها سمكة قرش أو بياض! وفينا الخادمة الطيبة تلتهم نصيبها وهي صابرة؛ فطالما أكلت منه راضية أو كارهة، والقسيس يناول ماتي شوكته وهو ساخط، في ملل يشبه ذلك الذي يلقي به موعظة الأحد، بينما تثور زوجته غضبا وترفض أن تمد يدها، وأما لاينا الطاهية فليس من العسير أن نلاحظ على وجهها أنها أكلت أو أعدت في مطابخ الضياع الفنلندية من هذه السمكة آلافا مؤلفة! أما القاضي والمحامي فيعرفان كيف يتفوقان على ماتي بفضل ذكائهما الذي اكتسباه من مئات القضايا. وأخيرا تأتي إيفا ابنة الإقطاعي، لقد اجتازت الامتحان عن جدارة. إنها تحيي الرنجة باحتفال، وتمد يدها مبتسمة لتتناول عطية الحبيب، وتلتهمها بصوت أقل ما يدل عليه أنها تتلذذ بطعمها، ويا لها من وجبة تعري الأقنعة وتفضح القلوب! •••
أما تمثيل دور نساء كورجيلا الفقيرات، اللائي يدعوهن بونتيلا حين يسكر إلى حفل زفاف ابنته، ويطردهن شر طردة حين يعود إلى نفسه، فيبدو أنه كان من أصعب الأدوار على مسرح برشت في برلين أو على غيره من المسارح؛ فشخصياتهن من أنبل شخصيات المسرحية، ولا بد للمخرج أو مصمم الأزياء والأقنعة أن يحاول تصويرهن على نحو يجمع بين الجمال والواقعية، ويرفع التناقض الذي قد يبدو بينهما. أراد المخرج في بداية الأمر أن يصور نساء كورجيلا في صورة أسطورية فخلع عليهن ملابس رقيقة ناعمة الألوان، ولكنه وجد أنها تضفي عليهن منظرا شاحبا بعيدا عن الواقع. وانتقل إلى الأسلوب الطبيعي الذي يسخر من كل جمال فألبسهن أحذية ضخمة تناسب الكادحات من أمثالهن، وجعل لهن أنوفا طويلة وملابس خشنة، حتى جاء الفنان المشهور «كاسبارنيهر» ليتفرج على البروفات فراح يرسم مجموعة من اللوحات التخطيطية التي تعد من أجمل ما رسمته يد للمسرح، وأزال التناقض بين سلوكهن الذي يتسم بالفطرة والبراءة وبين خبرتهن العملية التي اكتسبنها من حياتهن الشاقة وجعلهن يعبثن مع صاحب الضيعة عبثا يفيض بالمرح والسخرية. إنهن يدخلن المسرح وهن يتعمدن اللهو والتمثيل، ويداعبن بونتيلا كما لو كن عرائسه الخياليات، اللائي لا يطمعن في أكثر من فنجال من القهوة، ورقصة مع العريس. ووضع «نيهر» على رءوسهن أكاليل رخيصة من الزهور الصناعية، كما أعطى «لماتي» مكنسة هائلة يظل يخاطبها كما لو كانت هي المحكمة العليا في فيبورج، كما يزيل بها أكاليل الزهور التي يلقين بها على الأرض بعد أن يخرجن من الضيعة غاضبات لسوء استقبالهن. وجمعت الملابس رقة العرائس الخياليات إلى غلظة الفلاحات الخشنات، كما تمثل سحر الخيال وقوة الواقع في شخصيات هؤلاء النسوة الفقيرات اللائي استطعن أن يمنحن الإقطاعي الغني من مرحهن وطيبتهن ثروة لا تقدر بمال!
وإذا كان تصوير شخصيات نساء كورجيلا بهذه الصعوبة، فإن تفسير مشهد الحكايات الفنلندية أمر عسير على المخرج والممثلين على السواء؛ فها هي الطاهية لاينا تظهر أمام الستارة، كما فعلت بعد كل مشهد من المشاهد السابقة، وتعلق على الحدث بإحدى أغانيها القصيرة (وقد يجوز أن تكون إحدى مقاطع أغنية بونتيلا التي تتخلل المسرحية كلها)، ويفهم الجمهور أن نساء كورجيلا الأربعة اللائي خطبهن بونتيلا لنفسه في لحظة سكر ذات صباح جميل ودعاهن إلى ضيعته، قد طردهن الإقطاعي بونتيلا بعد أن أفاق من سكرته وهو يقول: «هل رأى أحد خروفا يلبس معطفا من الصوف، منذ أن بدأ الناس يجزون أصواف الخراف؟»
وتفتح الستار لنرى في مؤخرة المسرح على اليسار ثلاث نساء يقتربن من النظارة. ونلاحظ أنهن قادمات من سفر طويل؛ فملابسهن معفرة بالتراب، وستراتهن مفتوحة عند الصدر، وأقدامهن قد كلت من السير، حتى إن إحداهن قد حملت حذاءها في يدها وسارت حافية. وتتلفت عاملة التليفون وراءها لتنبه جارتها عاملة الصيدلية إلى زميلتهما المهربة «إيما» التي تأخرت عنهما ونراها تشير إليها بالانتظار. وتنتبه راعية البقر كذلك، ويقف الثلاثة لينتظروا «إيما» التي تدخل المسرح وهي تعرج فلا تكاد ترى سورا واطئا حتى تلقي بنفسها عليه. ويتجمعن حولها ليفحصن معا حذاءها المقطوع، ويشتركن في معالجته والتعليق على سوء صناعته التي جعلته لا يصلح للسير به خمس ساعات متوالية على طريق زراعي. وتطلب «إيما» حجرا لتدق به مسمارا برز في حذائها فتقتنع النسوة بحاجتهن إلى لحظات يسترحن فيها وينفسن عن غضبهن على السيد بونتيلا وأمثاله. ويجلس الجميع على يمين «إيما» ويسارها، لا ليدلين باقتراحاتهن عن أفضل طريقة لإصلاح الحذاء فحسب، بل كذلك ليستخلصن العبرة مما جرى لهن، أو يروين الحكايات التي تؤكد رأيهن ... في المصير التعس الذي ينتظر كل من تنسى نفسها مع هؤلاء السادة الذين يتقلبون دائما من حال إلى حال.
مثل هذا المشهد ينبغي أن يصور تصويرا يبرز رقته وغرابته في آن واحد، كما يبعده عن كل ما يمكن أن يثير الضحك أو التهكم. ولعله بذلك أن يكون واحدا من المشاهد القليلة في مسرح برشت التي يمكن أن نطلب فيها من المتفرج أن يتعاطف معه لا أن يقف منه موقف الناقد العلمي الفاحص المدقق!
إن عاملة الصيدلية التي تعلمت في المدينة وخبرت حياتها عن قرب تروي حكاية المليونير بيكا الذي يعود إلى الوطن بعد غيبة عشرين عاما، ويحتفل به أقاربه الفقراء ويقدمون له قطعة لحم مشوي يعلم الله وحده كم تعبوا في سبيل الحصول عليها، ولكن الغني العائد لا يجد أمام البؤس الذي يراه إلا أن يتذكر أن جدته كانت قد اقترضت منه عشرين ماركا ويأسف على أنهم في حالة من الفقر لا تمكنهم من رد هذا الدين، ولا بد أن تروى هذه الحكاية في لهجة تبين التهكم بغباء الفقراء، كما تكشف عن الرثاء لهم والتعاطف معهم. ولا بد أن تتخلل روايتها فترات من الصمت تسمح للسامعات بأن يتخيلن ما تعنيه قطعة من اللحم بالنسبة لمثل هؤلاء الفقراء، كما تصور كذلك مقدار كرمهم واستعدادهم للتضحية أمام المليونير الذي يتحسر على العشرين ماركا (أي ما يساوي جنيهين).
فإذا ضحكت النسوة على هذه النكتة علقت عاملة التليفون التي تعرف كل شيء بقولها: «إنهم يستطيعون ذلك.» ومضت تروي حكايتها عن المتسول الذي يقود الإقطاعي الغني على الثلج الخطر في حين تتضاءل وعود الأخير له بالتدريج حتى يصل إلى شاطئ الأمان، فلا يكاد يجد منها شيئا. إنها تتفرس في وجوه صاحباتها من حين إلى حين؛ لترى كيف تعبر عن سخطهن على الخديعة ومشاركتهن للمخدوع. وإذا كن يشتركن في الثورة على الظلم الذي أصاب المتسول المسكين كما أصابهن، فإنهن يخرجن منه بهذه السخرية التي تعبر عنها المهربة إيما بقولها: «كيف تمنعين نفسك عن الشرب من النهر وأنت تموتين عطشا؟» ويذكرهن هذا القول بجوعهن وعطشهن وبكسرات الخبز الجاف الذي توزعه عاملة التليفون عليهن، وبالمائدة الحافلة التي حرمن منها في بيت بونتيلا «كذلك يخرج أمثالنا خواة الأيدي».
صفحه نامشخص