المقدمات
مقدمة المؤلف
...
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين
أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأشكرك شكرا يليق بنعمك التي لا تحصى بلسان ولا تحصر بقلم تجرى به البنان ويبلغ إليه البيان والصلاة والسلام على رسولك الذي بين الناس ما نزل إليهم وعلى آله الكرام الذين أمرنا بالصلاة عليه وعليهم وعلى أصحابه الهداة الأعلام صلاة وسلأما يتكرران بتكرار لحظات الأيام وبعد.
فإن مختصر الأزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الأعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار وكان قد وقع في كثير من مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين أحببت أن أكون حكما بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم فمن كان أهلا للترجيح ومتأهلا للتسقيم والتصحيح فهو إن شاء الله سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعا ولما ينوبه ذخرا وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له مإذا بعشك يا حمامة فادرجي.
لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا هويت فعند ذلك عنف
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
وسنقف يا طالب الحق بمعونة الله سبحانه في هذا المصنف على مباحث تشد إليها الرحال وتحقيقات تنشرح لها صدور فحول الرجال لما اشتمل عليه من إعطاء المسائل حقها من التحقيق والسلوك فيما لها وعليها في أوضح طريق مع كل فريق.
وقد طولت الكلام في مسائل المعاملات وأبرزت مع الحجج والنكات ما لم يسبق إليه
1 / 7
سابق لخفاء بعض دلائلها على كثير من المصنفين كما ستقف عليه إن شاء الله تعالي واختصرت الكلام في مسائل العبادات لأنها صارت أدلة مباحثها نصب الأعين ولم أترك ما يتميز به الحق في كل مقام.
وأرجو من الملك العلام الإعانة على التمام وأن ينفع به المصنفين من الأعلام وينفعني به في هذه الدار وفي دار السلام.
وسميته "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار".
1 / 8
[مقدمة لا يسع المقلد جهلها
فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة] .
قوله: "مقدمة لا يسع المقلد جهلها".
أقول: المقدمة بفتح الدال وكسرها كما صرح به جماعة من المحققين وليس الفتح بخلف كما قيل وهي تصدق على ما ذكره أهل الاصطلاح من جعل المقدمة منقسمة إلي قسمين مقدمة علم ومقدمة كتاب.
فمقدمة العلم ما يتوقف الشروع على بصيرة عليها لأنها تكون مشتملة على الحد والموضوع والغاية والفائدة.
ومقدمة الكتاب ما يوجب الشروع بها زيادة في البصيرة ولا ريب أن شروع طالب علم الفقه بهذه المقدمة يوجب له زيادة في البصيرة لأنه يعرف بمعرفتها حقيقة التقليد وما يجوز التقليد فيه وما لا يجوز ومن يجوز تقليده ومن لا يجوز ونحو ذلك.
ومعلوم أن من عرف هذه الأمور يكون له زيادة في البصيرة لا يكون لمن لا يعرفها فلا يرد الاعتراض على المصنف بما قيل إن هذه المقدمة لم تشتمل على الحد والموضوع والغاية والفائدة فلا تكون مقدمة اصطلاحا لأنا نقول المقدمة تصدق على مقدمة الكتاب كما تصدق على مقدمة العلم وهذه مقدمة كتاب لما ذكرنا.
وقد ذكر أئمة اللغة أن المقدمة ما يتقدم أمام المقصود ومنه مقدمة الجيش فمقدمة الكتاب مقدمة لغة واصطلاحا أما اللغة فلما ذكرنا وأما الاصطلاح فلأن أهل العلم قد ذكروا انقسام المقدمة إلي القسمين كما تقدم وكما لم يرد الاعتراض على المصنف بما تقدم لا يرد عليه الاعتراض بما قيل إن هذه المقدمة ليست مقدمة علم ولا مقدمة كتاب لما عرفناك به.
إذا تقرر لك اندفاع ما اعترض به على المصنف في تسميته لما ذكره ها هنا أمام المقصود
1 / 9
مقدمة فاعلم أن محل الإشكال وموضع المناقشة هو قوله: "لا يسع المقلد جهلها".
ووجهه أنه قد ذكر المصنف ﵀ فيما سيأتي بعد هذا ان التقليد يختص بالمسائل الفرعية وهي التي لم تكن من أصول الدين ولا من أصول الفقه وأكثر هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة ليست بفرعية لا في اصطلاح المصنف ولا في اصطلاح غيره فهي مما لا يجوز التقليد فيه عنده وعندهم فكيف يصنع المقلد الطالب لمعرفة ما اشتمل عليه هذا الكتاب؟
إن قال المصنف يأخذها تقليدا فقد خالف ما رسم له من كون التقليد إنما هو في المسائل الفرعية فإنه قد ناقض نفسه قبل أن يجف قلمه ولم يتخلل بين قوله لا يسع المقلد جهلها وبين قوله التقليد في المسائل الفرعية إلا لفظة واحدة وهي قوله: " فصل ".
وإن قال يأخذها اجتهادا فالمفروض أنه مقلد ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر ولو كلف بالاجتهاد قبل التقليد لكان بلوغه إلي مرتبة الاجتهاد موجبا لتحريم التقليد عليه لا سيما على القول الراجح من كون الاجتهاد لا يتبعض لمعرفته لما اشتملت عليه هذه المقدمة لأنه لا يعرفها اجتهادا إلا وقد صار الواجب عليه العمل بما يؤدي إليه اجتهاده فهو مستغن عن معرفة هذا الكتاب الذي جعلت هذه المقدمة مقدمة له لأنه موضوع للمقلدين لا للمجتهدين ولا واسطة بين التقليد والاجتهاد ولا بين المجتهد والمقلد اصطلاحا والمصنف وكثير من أهل الأصول قائلون بنفي الواسطة.
وأما من قال إن الاجتهاد متعين وإنه لا يجوز التقليد على كل حال فهو يوجب الاجتهاد في مثل هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة وفي جميع مسائل هذا الكتاب ولم يكن المصنف من القائلين بتعيين الاجتهاد حتى يصح حمل كلامه هنا على ذلك على أن ثم مانعا من حمله على ذلك وهو أنه لو كان قائلا بذلك لكان تصنيفه لهذا الكتاب ضائعا ليس تحته فائدة لأنه لا ينتفع به إلا المقلدون وليس للمجتهد إليه حاجة بل يكون تصنيفه لهذا الكتاب مع قوله بتعيين الاجتهاد إيهأما للمقلدة بجواز ما لا يجوز عنده وتحليلا لما هو غير حلال في اعتقاده وحاشاه من ذلك.
وما قيل من أن المراد بوضعها تعريف المقلد كراهية جهل ما ذكر فيها وبيان حسن معرفته لها بالدليل لا وجوب تعين الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا لا يدفع الاعتراض على المصنف لأنه لم يثبت الواسطة بين الاجتهاد والتقليد حتى يحمل كلامه على هذا.
على أنه لو كان من القائلين بذلك لكان للمقصرين مندوحة عن الاحتياج إلي كتابه هذا وأمثاله لأنهم إذا قدروا على معرفة الحق في مسائل هذه المقدمة بالدليل من دون اجتهاد كانوا على معرفة الحق في المسائل المذكورة بعد هذه المقدمة أقدر لصعوبة هذه وسهولة تلك.
قوله: "فصل. التقليد في المسائل الفرعية القطعية والظنية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه".
1 / 10
أقول: الكلام على هذا من وجوه:
الأول: حقيقة التقليد اعلم أنه مأخوذ عند أهل اللغة من القلادة التي يقلد الإنسان غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد يجعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق المجتهد.
وأما في الاصطلاح فهو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقول رسول الله ﷺ والعمل بالإجماع والعمل من العامي بقول المفتي والعمل من القاضي بشهادة الشهود العدول فإنها قد قامت الحجة في جميع ذلك.
أما العمل بقول رسول الله ﷺ وبالإجماع عند القائلين بحجبته فظاهر وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك وأما عمل القاضي بشهادة الشهود العدول فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة وقد وقع الاجماع على ذلك ويخرج عن ذلك أيضا قبول رواية الرواة فإنه قد دل الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الرأوي بل قول المروي عنه وهو رسول الله ﷺ.
وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد أحسن من الأول.
وقال القفال: "هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من اين قاله".
وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور: "هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة".
الوجه الثاني: أورد الجلال في شرحه هنا بحثا فقال وربما يتوهم أن أحكام الشرع متعلقة بالعامي وأكثرها استدلال مظنون وليس من أهل الاستدلال فيجب عليه التقليد بدلا عن الاجتهاد كالتراب بدل الماء إذ هو الممكن وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.
والجواب منع تعلق الظنيات بالعامي للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف فهو شرط للوجوب وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب فإذن لا يتعلق بها إلا ما فهمه وليس ذلك إلا ضروريات الشرع والعمل بالضروري ليس بتقليد لأن الضرورة أعظم الأدلة ولهذا وقع الاتفاق على أن العامي يقر ما فعله ولا ينكر عليه ما لم يخرق الإجماع انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا الكلام ساقط فاسد فإن قوله للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف إن أراد فهم التركيب الذي وقع الخطاب به من الشارع فهذا يفهمه كل عاقل ولا يتعذر فهمه إلا على المجنون أو صبي صغير وهذا المعنى هو الذي أراده أهل العلم بقولهم الفهم شرط التكليف.
وإن أراد بالفهم فهم النفع المرتب على التكليف فهذا لم يقل به أحد قط ولو فرضنا أنه قال به قائل لكان ذلك مستلزما لعدم تكليف كل كافر وجاحد وزنديق واللازم باطل بإجماع المسلمين أجمعين فالملزوم مثله.
1 / 11
وإن أراد غير هذين المعنيين فلا ندري ما هو ولم يقل به أحد بالجملة فهذه فاقرة عظمى ومقالة عمياء صماء بكماء فليكن هذا منك على ذكر فإنه قد كرره في مواضع من كتابه.
وما ذكره الجلال ﵀ في آخر بحثه هذا جعله كالنتيجة له من كون العامي إنما كلف بالضروريات فهو من أغرب ما يقرع الأسماع لأنه خرق للإجماع وباطل لا يقع في مثله بين أهل العلم نزاع وكل من له نصيب من علم وحظ من فهم يعلم أن هذه التكاليف الثابتة في الكتاب والسنة لازمة لكل بالغ عاقل لا يخرج عن ذلك منهم أحد كائنا من كان إلا من خصه الدليل والضروريات منها هي بالنسبة إلي جميعها أقل قليل وأندر نادر والواقعون في معاصي الله المتعدون لحدوده الهاتكون لمحارمه من العامة لو علموا بهذا البحث من هذا المحقق لقرت به أعينهم واطمأنت إليه أنفسهم وأقاموا به الحجة على من أراد إقامة حدود الله عليهم وطلب منهم القيام بشرائعه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فإن غالب الواجبات الشرعية والمحرمات الدينية ثابتة بالعمومات وهي ظنية الدلالة وما كان ثابتا بما هو ظني التمن أو ظن الدلالة فهو ظني لا قطعي فضلا عن أن يكون ضروريا.
وإذا كانت العامة في راحة من هذه التكاليف وهم السواد الأعظم فإن الخاصة بالنسبة إليهم أقل قليل قد يوجد واحد منهم في الألف والألفين والثلاثة وقد لا يوجد فهذا هو تعطيل الشريعة.
الوجه الثالث: أن قوله الفرعية يخرج الأصلية أي مسائل أصول الدين وأصول الفقه وإلي هذا ذهب الجمهور لا سيما في أصول الدين فقد حكي الأستاذ أبو إسحق في شرح الترتيب: "إن المنع من التقليد فيها هو إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف".
قال أبو الحسين بن القطان "لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد".
وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء.
وقال إمام الحرمين في الشامل: "لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة".
وقال الإسفراييني: "لم يخالف فيه إلا أهل الظاهر".
ولم يحك ابن الحاجب الخلاف في ذلك إلا عن العنبرى وحكاه في المحصول عن كثير من الفقهاء واستدل الجمهور على منع التقليد في ذلك بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله سبحانه وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا والأخذ بقول من يقلده ولا يدرى أهو صواب أم خطأ؟.
واعلم أن ذكر الفرعية يغنى عن ذكر العملية وما قيل من أن قيد العملية لإخراج الفرعية العلمية كمسألة الشفاعة وفسق من خالف الإجماع فذلك غير جيد لأن هاتين المسألتين ليستا بفرعيتين فقد خرجتا من قيد الفرعية.
ودعوى أنهما فرعيتان علميتان باطلة وإن زعم ذلك بعض شراح الأزهار والأثمار وارتضاه
1 / 12
الأمير في حاشيته على ضوء النهار بل هما أصليتان من مسائل أصول الدين ولا خلاف في ذلك بين علماء هذين العلمين.
وهذه القيود مبنية على الاصطلاح والاعتبار بما وقع عليه التواضع بين أهله.
والمراد بالفرعية ما كان موضعها الفعل أو الوصف فلا يرد ما أورده الجلال على قيد العملية وكان الأولى له أن يذكر ما ذكرناه من كونه مستدركا.
وهكذا قوله الظنية والقطعية فإنه قد أغنى عن ذلك قوله الفرعية لأن إطلاق الفرعية بتنأول قطعيها وظنيها.
وهكذا قوله لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم له فإن عدم تجويز التقليد للمجتهد يفيد أنه لا يجوز له بحال لا لمن هو مثله ولا لمن هو فوقه لكونه قد حصل له باجتهاده ما هو المانع من التقليد على كل حال ولكل أحد.
وهكذا قوله ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة فإن هذا العملي هو من مسائل الأصول لا من مسائل الفروع فقد خرج بقيد الفرعية فلو قال المصنف هكذا:
"فصل: التقليد في الفروع جائز لغير المجتهد" لكان أخصر وأظهر وأوضح معنى فإن ما زاد على هذا من القيود التي ذكرها ليس فيه إلا مجرد التكرار مع إيهام التناقض في البعض من ذلك.
الوجه الرابع: في الكلام على جواز التقليد.
اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلي أنه غير جائز قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد ورواه مالك وأبو حنيفة والشافعي وروى المروزي عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره.
وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد لهم في الرسالة التي سميتها "القول المفيد في حكم التقليد".
والحاصل أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ومن اقتصر في حكاية المنع من التقليد على المعتزلة فهو لم يبحث عن اقوال أهل العلم في هذه المسألة كما ينبغي.
وقد حكي عن بعض الحشوية أنهم يوجبون التقليد مطلقا ويحرمون النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم.
وذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأربعة ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول من أتباع الأئمة يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون والمعتبر في الخلاف إنما هو قول المجتهدين لا قول المقلدين.
والعجب من بعض المصنفين في الأصول فإنه نسب هذا القول المشتمل على التفصيل إلي
1 / 13
الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين.
فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلا عن أن يقولوا بجوازه وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية.
وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم مصرحون بالمنع من التقليد لهم ولغيرهم ولم يزل من كان في عصرهم منكرا لذلك أشد إنكار وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة فقد عرفت أنه لا يعتبر خلاف المقلد فكيف ينعقد بقولهم الإجماع وإن أراد غيرهم فمن هم فإنه لم يزل أهل العلم في كل عصر منكرين للتقليد وهذا معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم.
والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فصلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط وقد أوضحنا هذا في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد وفي كتابنا الموسوم "بأدب الطلب ونهاية الأرب".
وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجأهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه.
وما أحسن ما قاله الزركشي في البحر عن المزني فإنه قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد.
وإن قال بغير علم قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة!!
فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك.
فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلي تقليد معلم معلمه وكذلك حتى ينتهي إلي العالم من الصحابة.
فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر واقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟.
وقد روى عن رسول الله ﷺ أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال: "لا
1 / 14
يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن أمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر" انتهى
وأقول: متمما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلي العالم من الصحابة يقال له هذا الصحأبي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلي عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله فتقليده أولى من تقليد الصحأبي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
واعلم أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له بلا خلاف في هذا ولا يجوز لغيره العمل به بحال من الأحوال فمن ادعى جواز ذلك فليأتنا بالدليل وهو لا محالة يعجز عنه وعند عجزه عن البرهان يبطل التقليد لأنه كما عرفت العمل برأي الغير من غير حجة.
الوجه الخامس: قال الجلال في شرحه "إن تجويز التقليد لغير المجتهد لا له تحكم لأن العامي كالمجتهد".
ولا أدري ما أصل هذه الدعوى ولا ما هو الموجب للوقوع فيها فإن هذه التسوية بين من بلغ في العلم إلي أعلى مكان وبين من هو بجهله في أسفل سافلين كالتسوية بين النور والظلمة وبين الجماد والحيوان ولعله أراد إلزام من يجرى على لسانه ذلك من مقصري المقلدة.
وأورد الجلال أيضا على قوله في الأزهار ولا في عملي يترتب على علمي بحثين.
الأول قد أجاب عنه والثاني أن الفقه كله عملي يترتب على علمي وهو أصول الفقه.
وأجاب عنه الأمير في حاشيته بأن المراد بالعلمي المذكور هو العلم بالمعنى الأخص وليس كل مسائل أصول الفقه كذلك بل المترتب منها على العلم بالمعنى الأعم أكثر وأنه شامل للظن هكذا قال.
وأقول: إن الفقه مترتب على علمي بالمعنى الأخص وهو إثبات النبوة بالدليل العقلي والنقلي وكل واحد منهما علمى بلا خلاف فالمقلد في جميع ما قلد فيه قد قلد إمامة في عملي مترتب على علمي وهذا يبطل التقليد من أصله ويجتثه من عرقه.
ثم أن الأمير ﵀ في حاشيته ها هنا رجح التفصيل في جواز التقليد لمن كان بليد الفهم جامد الفكرة بعيد النظر دون من كان فيه أهلية للنظر وإدراك للمباحث ولا يخفاك أن هذا التفصيل عليل ودليله كليل فإن ذلك البليد إن بقي له من الفهم ما يفهم ما به من كلام من أراد تقليده فهذه البقية الثابتة له يقوى بها على فهم كلام من يروى له الدليل ويوضح له معناه فليس به إلي التقليد حاجة وليس فهم رأي عالم من العلماء بأظهر من فهم معنى ما جاد به الشرع فما الملجىء له إلي رأي الغير البحث وهو يجد من يروى له ما هو الشرع الذي شرعه الله لعباده؟.
وإن قدرنا أنه قد بلغ من البلادة إلي حد لا يفهم معه رأى من يقلده فقد انسد عليه الباب من الجهتين وهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وليس عليه إلا العمل بما بلغ إليه فهمه ولا يكلفه الله فوق طاقته.
1 / 15
[فصل وإنما يقلد مجتهد عدل تصريحا وتأويلا ويكفى المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل]
قوله: "فصل: وإنما يقلد مجتهد"
أقول: الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه.
قال الرازي في المحصول هو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ ووسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ فيه.
وهذا سبيل مسائل الفروع وكذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هكذا حال الأصول انتهى.
وقد ذكرت في كتأبي الموسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول ما ذكره أهل الأصول وغيرهم في تحقيق الاجتهاد وشروط المجتهد وعقبت ذلك بما هو الراجح عندي وقد أطلت الكلام على ذلك في كتأبي الموسوم بأدب الطلب ومنتهى الأرب وذكرت فيه مراتب للمجتهدين ولما يحتاج كل واحد منهم إليه وهو تحقيق لم أسبق إليه.
وقد اختلف في رسم العدالة وأحسن ما قيل في ذلك أنها ملكة للنفس تمنعها عن اقتراف الكباشر والرذائل فمن كان كذلك فهو عدل ومن لم يكن كذلك فليس بعدل لأن الإقدام على كبائر الذنوب يجعل صاحبه مظنة للتهمة فهو غير مأمون على علم الشرع وأيضا مرتكب ذلك مسلوب الأهلية فليس من المتأهلين للاقتداء به في مسائل الدين.
وهكذا الإقدام على الرذائل فإنه يدل على سقوط النفس وانحطاط رتبة فاعله عن رتبة حملة العلم الذين جعلهم الله أمناء على دينه وأمر عباده بسؤالهم عند الحاجة.
وقد أورد الجلال هاهنا بحثا فقال إن العدالة والاجتهاد ملكة نفسية ولا سبيل إلي الاطلاع عليها إلا بقرائن نظرية إلي أن قال فلا بد من التقليد فيهما وهما عمليان وما يترتب عليهما عملي يترتب على علمي.
ويجاب عنه بأن هذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية ممن له قدرة على معرفة هذه الملكة الاجتهادية.
وأما ملكة العدالة فهي معروفة للمقصر والكامل والاعتبار إنما هو بما يدل عليها من الأفعال والأقوال ومن ترك ما ينافيها وذلك قبول رواية لا قبول رأي ثم إن مسائل الدين بأسرها مترتبة على علمي فتخصيص بعضها بإيراد الإلزام بها ليس كما ينبغي.
قوله: "تصريحا وتأويلا".
1 / 16
أقول: هذا تفصيل لمفهوم قوله عدل وهو مستعنى عنه لأن إطلاق قوله عدل يخرج من لم يكن عدلا سواء كان ملتبسا بما ينافي العدالة على جهة التصريح أو على جهة التأويل.
والحق أنه لا كفر تأويل ولا فسق تأويل ولا يدل على ذلك دليل.
والكلام على المقام مبسوط في غير هذا الموضع وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي قوله ويكفي المغرب إلي آخر الفصل عند من لا يثبت التأويل وذلك ظاهر وأيضا لا حاجة له عند من يثبته لأنه قد أغنى عنه إطلاق العدالة فإنها لا تكون عنده إلا لمن ليس من كفار التأويل ولا من فساق التأويل فلا بد من تحقيق عدم هذا المانع من ثبوت العدالة وكون الولاية لمن لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل هو مجرد قرينة ضعيفة ولا تثبت ملكة العدالة بمثل ذلك فلو اقتصر على قوله في هذا الفصل إنما يقلد مجتهد عدل لكان أخصر وأظهر لأن التفصيل إنما أخرج فاسق التصريح وفاسق التأويل والعدالة تنتفي بمجرد ارتكاب محرم وإن لم يبلغ بصاحبه إلي الفسق بالمعنيين.
وفي هذا الفصل ابحاث في ضوء النهار إذا تأملت ما ذكرناه هنا عرفت الجواب عنها.
[فصل وكل مجتهد مصيب في الأصح والحي أولى من الميت والأعلم من الأورع والأئمة المشهورون من أهل البيت أولى من غيرهم لتواتر صحة اعتقادهم وتنزههم عما رواه البويطي وغيره عن غيرهم من إيجاب القدرة وتجويز الرؤية وغيرهما ولخبري السفينة وإني تارك فيكم] [مسلم "٢٤٠٨"] .
قوله: "فصل: وكل مجتهد مصيب".
أقول: اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا وقد ذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم إلي أن المسائل الشرعية تنقسم إلي قسمين الأول منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها مصيبا بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطىء غير معذور بل آثم.
وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل مخطىء آثم وقيل مخطىء غير آثم.
القسم الثاني المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها فذهب كثيرون إلي أن كل مجتهد مصيب وحكاه المأوردي والروياني عن الأكثرين وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر
1 / 17
الفقهاء إلي أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد للشخص الواحد حلالا وحراما.
والكلام في هذه المسألة طويل وقد ذكرنا في مؤلفنا المرسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول أقوال المختلفين في هذه المسألة وذكرنا أن كل طائفة استدلت لقولها بما لا تقوم به الحجة.
وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق أيضاحا لا يبقى بعده تردد وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". [البخاري "٧٣٥٢"، ومسلم "١٧١٦"، وأحمد "٤/١٩٨، ٢٠٤"] .
فهذا الحديث قد دل دلالة بينة أن للمجتهد المصيب أجرين وللمجتهد المخطىء أجرا فسماه مخطئا وجعل له أجرا فالمخالف للحق بعد أن اجتهد مخطىء مأجور وهو يرد على من قال إنه مصيب ويرد على من قال إنه آثم ردا بينا ويدفعه دفعا ظاهرا.
وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني والحاكم من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وبلفظ: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور"
قال الحاكم صحيح الاسناد فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة"، وإسناده ضعيف.
وما ذكره المصنف ﵀ من أولوية تقليد الحي إلي آخر الفصل هو مبني على جواز التقليد وقد قدمنا أنه غير جائز.
[فصل والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب ولا يجمع مستفت بين قولين في حكم واحد على صورة لا يقول بها إمام منفرد كنكاح خلا عن ولي وشهود لخروجه عن تقليد كل من الإمامين] .
قوله: فصل: "والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب".
أقول: الأولوية مغنية عن قوله ولا يجب لأن كون الشيء أولى من غيره ما يفيد أن ذلك الغير جائز مرجوح كما أن الأولى جائز راجح فلو يأت قوله ولا يجب بفائدة بل هو مستدرك.
وقد أوجب جماعة تقليد إمام معين ورجح هذا القول الكيا الهراسي وقال جماعة ليس بواجب ورجح هذا القول ابن برهان والنووي.
1 / 18
ويالله العجب من عالم ينسب إلي العلم يحكم بأولوية التقليد لمعين جزافا فلا برهان من عقل ولا شرع.
وأعجب من هذا من يوجب ذلك فإنه من التقول على الله بما لم يقل ومن إيجاب البدع التي لم تكن في عصر الصحابة ولا عصر التابعين ولا تابعيهم.
وأعجب من هذا كله قول ابن المنير إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم فليت شعري ما هو هذا الدليل وقد صان الله أدلة الشرع أن تدل على هذا بل وصان علماء الدين من المجتهدين أن يقولوا بمثل هذا التفصيل العليل.
ولعله قول لبعض المقلدة فظنه هذا القائل دليلا.
[فصل ويصير ملتزما بالنية في الأصح وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلي ترجيح نفسه بعد استيفاء طرق الحكم فالاجتهاد يتبعض في الأصح أو لإنكشاف نقصان الأول فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد وإن فسق رفضه فيما تعقب الفسق فقط وإن رجع فلا حكم له فيما قد نفد ولا ثمرة له كالحج وأما ما لم يفعله ووقته باق أو فعل ولما يفعل المقصود به فبالثاني.
فأما ما لم يفعله وعليه قضاؤه أو فعله وله ثمرة مستدامة كالطلاق فخلاف] .
قوله: فصل: "ويصير ملتزما بالنية في الأصح".
أقول: لو كان هذا التقليد المشئوم قربة من القرب الشرعية وطاعة من طاعات الله لم يكن مجرد النية قبل العمل موجبا للزومه للنأوي ومقتضيا لتحريم انتقاله عنه.
والحاصل أن هذه المسائل هي بأسرها من التخبط فب البدع والتجرؤ على الشريعة المطهرة بنسبة ما لم يكن منها إليها بل بنسبة ما هو معاند لها ومضاد لما فيها إليها.
وقد ذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين الجويني.
وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي.
وقيل إن كان الذي انتقل إليه ما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام.
1 / 19
وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وألا يكون قاصدا للتلاعب وألا يكون ناقضا لما قد حكم به عليه واختاره ابن دقيق العيد.
وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق.
وكل هذه الأقوال على فرض جواز التقليد لا دليل عليها لكنها أقل مفسدة ومخالفة للحق من إيجاب التقليد وتحريم الانتقال بمجرد النية.
وفي الشر خيار.
قوله: "ولاجتهاد يتبعض في الأصح"
أقول: اختلف أهل العلم في ذلك فذهب جماعة إلي أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلي الأكثرين قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد.
وذهب آخرون إلي المنع واحتج الأولون بأنه لو لم يجز تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل واللازم منتف فإن كثيرا من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثيرا منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف.
واحتج آخرون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع.
وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلي ثبوت الملكة فإنها إذا تمت حصلت القدرة على الاجتهاد في جميع المسائل وإن نقصت لم يقتدر على الاجتهاد في شيء ولا يثق في نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك.
فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله.
قوله: "أو لانكشاف نقصان الأول".
أقول: المقلد لا يعرف الكامل من المجتهدين ولا الناقص منهم وإنما يستروى ذلك ممن له إدراك يعرف به الكمال والنقص فهذا المقلد إن انكشف له نقص من قلده بإخبار من أخبره باجتهاده وكماله فقد أقر على نفسه أن خبره الأول المتضمن لكماله غير صحيح وإن كان انكشاف النقص بخبر غير من أخبره بالكمال فقد وقع هذا المقلد المسكين في حيرة لأنه غير متأهل للترجيح في الأخبار المتعارضة عن مثل هذا الأمر الذي لا يعرفه إلا المتأهلون.
والمنهج الواضح والمهيع الآمن أن يقطع عن عنقه علائق التقليد وقد جعل الله له في الأمر
1 / 20
سعة بسؤال أهل العلم عن حكم الله سبحانه فيما يفرض له وتدعو حاجته إليه من عبادة أو معاملة.
قوله: "فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد".
أقول: لا تردد بل ينبغي أن يعمل بمزية الأعلمية والأفضلية ولا شك أنه يوجد في معاصري إمامه وفيمن قبله من هو أعلم منه وأفضل منه ثم كذلك حتى ينتهي الأمر إلي الإمام الأول الذي بعثه الله سبحانه برسالته وأنزل عليه كتابه وأمره بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه منتهى الكمالات ومنشأ الفضائل ومعدن الفواضل فيأخذ دينه عنه من الكتاب الذي أنزل عليه أو السنة المطهرة التي جاء بها.
قوله: "فإن فسق رفضه" إلي آخر الفصل.
أقول: إن كان قد عمل عملا وهو عند نفسه مقلد لعالم من العلماء فليس انتسابه إلي ذلك العالم مسوغا به ما لم يسوغه له الشرع فإن كان موافقا للدليل فقد أجزأه وتقبله الله منه وإن كان مخالفا للدليل فلا اعتبار به ولا حكم له سواء فسق المجتهد أم لم يفسق رجع أم لم يرجع وسواء كان للفعل ثمرة مستدامة أم لا.
فإن قيل قد يلحق المقلد في ذلك مشقة قلنا هو أدخل نفسه فيما لا يجوز له الدخول فيه فعلى نفسها براقش تجني.
[فصل ويقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل طلب الناسخ والمخصص من نصوصه وإن لزم المجتهد ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين فإن التبس فالمختار رفضهما والرجوع إلي غيره كما لو لم يجد له نصا ولا احتمالا ظاهرا.
ولا يقبل تخريجا إلا من عارف دلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به ولا قياسا لمسألة على أخرى إلا من عارف بكيفية رد الفرع إلي الأصل وطرف العلة وكيفية العمل عند تعارضها ووجوه ترجيحها لا خواصها وشروطها كون إمامه ممن يرى تخصيصها أو يمنعه.
وفي جواز تقليد إمامين فيصير حيث يختلفان مخيرا بين قوليهما فقط خلاف.
وبتمام هذه الجملة تمت المقدمة] .
1 / 21
قوله: فصل: "وتقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها".
أقول: قبول الرواية ثابت في كل شيء مع كمال ما يعتبر فيها وهي أمور قد استوفيناها في إرشاد الفحول.
وسواء كانت عن حي أو ميت وعن مجتهد أو مقلد في رواية أو رأي ولم يقل أحد من أهل العلم إن المقلد لا يقبل الرواية عن الميت والغائب حتى يحتاج إلي ذكر ذلك.
قوله: "ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل" الخ.
أقول: إذا كان هذا غير لازم له فليعدل إلي النص الصريح والعموم الشامل من كتاب الله وسنة رسوله ويعمل بهما ولا يلزم معه طلب الناسخ والمخصص كما لم يلزمه ذلك في رأي من قلده من المجتهدين وليس في محض الرأي الذي يأخذ به المقلد زيادة سهولة أو ظهور على ما في نصوص الرواية حتى يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
قوله: "ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين".
أقول: أما آخر القولين فيمكن المقلد أن يعرفه بأن يكون في كتاب لإمامه متأخرا عن الكتاب المشتمل على القول الأول أو بالتصريح من إمامه بأن أحد القولين متأخر والآخر متقدم.
وأما أقوى الاحتمالين فلا سبيل للمقلد إلي معرفة الأقوى منهما لأن القوة للقول أو الاحتمال يحتاج إلي علم لا يكون عند المقلد.
نعم إذا صرح إمامه بأن أحد الاحتمالين اقوى وأرجح من الآخر أو أخبر المقلد من له قدرة على معرفة الأقوى استقام ما ذكره هنا.
ولا وجه لما ذكره الأمير ﵀ في حاشيته من أن المقلد قد يتمكن من ذلك بأسباب يعرفها لمعرفته لقوة بعض المفاهيم على بعض لأنا نقول لو عرف ذلك كما ينبغي لم يكن مقلدا في هذا الحكم الذي توصل إلي تقويته بذلك السبب.
قوله: "ولا يقبل تخريجا" الخ.
أقول: إن كان التخريج هو ما ذكره من كون المقلد يعرف أنه لا فرق بين مسألتين نص المجتهد على إحداهما دون الأخرى فيجعل المقلد حكم تلك المسألة الأخرى حكم هذه التي نص عليها المجتهد فيقال أولا من أين لهذا المقلد المسكين معرفة عدم الفرق بين هاتين المسألتين فإن ذلك يرجع إلي علم ليس هو من علمه.
وعلى تقدير أنه عارف بدلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به وأنه بهذه المعرفة ألحق مسألة أخرى فهذا القياس بعينه وإن زعم زاعم أنه غير القياس فما هو والحاصل أن جعل التخريج نوعا مستقلا مغايرا للقياس هو مجرد دعوى لا برهان عليها أصلا ثم قد عرفت عدم جواز التقليد فيما هو مسائل صريحة واضحة فعدم جوازه في مثل هذه المسائل التي هي كما قيل ليست من قول المخرج ولا من قول المخرج له أولى.
1 / 22
وعلى تقدير احتمال أن يكون من قول أحدهما لا على التعيين فقد علمت أن أحدهما مقلد وتقليد المقلد لا يجوز بالإجماع.
وبالجملة فهذه ظلمات بعضها فوق بعض وتوسيع لدائرة التقليد المنهي عنه بالكتاب والسنة.
قوله: "ولا قياسا لمسألة" الخ.
أقول: إنما يعرف الأصل والفرع والعلة والحكم كما ينبغي المجتهد المطلق وأما من كان مقلدا فمعرفته لذلك مجرد دعوى لأن أصالة الأصل وفرعية الفرع وعلية العلة تستمرى من علوم لا يدري المقلد ما هي فضلا عن أن يفهمها بوجه من الوجوه.
من أين له الوقوف على محل التعارض حتى يصير إلي الجمع عند إمكانه أو الترجيح عند عدمه فإنه إنما يقتدر على هذا على وجه الصحة من يقتدر على الجمع أو الترجيح عند تعارض الأدلة.
وعلى تقدير أنه قد بلغ إلي هذه الرتبة ووصل إلي هذه المنزلة فهو مجتهد لا مقلد فما له وللاشتغال بكلام مجتهد مثله؟!
قوله: "وفي جواز تقليد إمامين" الخ.
أقول: هذا قد أغنى عنه قوله فيما تقدم والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب فإن هذا يفيد جواز تقليد إمامين وأكثر ومن لازم الجواز أن يكون مخيرا بين أقوالهم مع الاختلاف فتصريحه هنا بأن في الجواز خلاف مخالف لقوله فيما تقدم ولا يجب لأن نفي الوجوب يوجب الجواز وهذا ظاهر لا يخفى.
كتاب الطهارة باب النجاسات ... [باب النجاسات هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة. وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل. وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب] .
كتاب الطهارة باب النجاسات ... [باب النجاسات هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة. وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل. وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب] .
1 / 23
قوله: "ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل"
أقول: حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة.
وبهذا تعرف أن الاستدلال بمفهوم حديث جابر والبراء بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لا تقوم به الحجة فإن في إسناد حديث جابر عمرو بن الحصين العقبلي قال أبو حاتم ذاهب الحديث ليس بشيء وقال أبو زرعة واهي الحديث وقال الأزدي ضعيف جدا يتكلمون فيه وقال الدارقطني متروك.
وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمرو البجلي الرازي قال أحمد كذاب يضع الحديث وقال يحيى ليس بثقة وقال ابن عدي أحاديثه موضوعات.
وأما حديث البراء ففي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل وقال ابن حزم في المحلي خبر باطل موضوع.
على أنه قد اختلف على سوار فيه فرواه الدارقطني عنه عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء مرفوعا بلفظ: "ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره".
فهو بهذا اللفظ لا يدل على محل النزاع وتعرف أيضا انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة الأبوال والأزبال على العموم لأن غاية ما عولوا عليه حديث: "إنه كان لا يستنزه من بوله" [البخاري "٢١٦‘ ٢١٨، ١٣٦١، ١٣٧٨، ٦٠٥٢"، مسلم "١١١/٢٩٢"، أبو دأود "٢٠"، النسائي "٣١"، الترمذي "٧٠"، ابن ماجة "٣٤٧"، أحمد "١/٢٢٥"]، وحديث "اسنتزهوا من البول".
والأول في الصحيح والثاني صححه ابن خزيمة.
وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ: "اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون.
قالوا والبول في هذه الأحاديث عام ويجاب عنه بأنه مخصص على تقدير العموم ومقيد على تقدير الإطلاق بما ثبت في الصحيح بلفظ "من بوله".
ثم هذا الدليل هو أخص من الدعوى فإنه في البول لا في الزبل.
وبالجملة فكل ما استدل به القائلون بطهارة ما خرج من سبيلي ما يؤكل لحمه يدل على الأصل الذي ذكرناه ولا ينفي طهارة ما خرج من سبيلي غير المأكول.
وتعرف أيضا عدم انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة مني الآدمي فإن حديث "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني" لا تقوم به الحجة أصلا لبلوغه في الضعف إلي حد لا يصلح معه للاحتجاج به وكذا حديث أنه ﷺ "كان يغسل ثوبه من المني" [البخاري "٢٢٩"، مسلم "١٠٨/٢٨٦"] . ليس فيه أن ذلك لأجل كونه نجسا فإن مجرد الاستقذار بل مجرد درن الثوب مما يكون سببا لغسله وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك
1 / 24
المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم وهو يصلي ولو كان نجسا لنزل عليه الوحي بذلك كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلى فيه.
وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ولكنه أخرج أبو دأوود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وقال الترمذي حسن صحيح عن سهل ابن حنيف قال كنت ألقي من المذى شدة وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء" قلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال: "يكفيك بأن تأخذ كفا من ماء فتنضخ بها ثوبك حيث ترى أنه أصابه".
فدل هذا الحديث على أن مجرد النضخ يكفي في رفع نجاسة المذى ولا يصح أن يقال هنا ما قيل في المني إن سبب غسله كونه مستقذرا لأن مجرد النضخ لا يزيل عين المذى كما يزيله الغسل فظهر بهذا أن نضخه واجب وأنه نجس خفف تطهيره.
قوله: "أو جلال قبل الاستحالة".
أقول: لم يرد دليل يدل على نجاسة بول الجلالة ورجيعها بل الذي ورد عنه ﷺ هو النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس كما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح.
والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها لا يستلزم نجاسة رجيعها وبولها ولا يصح إلحاق ذلك بالقياس على الأكل والشرب لأن الحكم في الأصل تحريم الأكل والشرب وفي الفرع النجاسة وهما مختلفان وليس القياس إلا إثبات مثل حكم الأصل في الفرع.
نعم إن خرج ما جلته بعينه فله حكمه الأصلي لبقاء العين وإن خرج بعد استحالة تلك العين إلي صفة أخرى حتى لم يبق لون ولا ريح ولا طعم فلا وجه للحكم بالنجاسة لا من نص ولا من قياس ولا من رأي صحيح.
قوله: "والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما".
أقول: ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به أما الآية وهو قوله: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [المائدة: ٩٠" فليس المراد بالرجس هنا النجس بل الحرام كما يفيده السياق وهكذا في قوله تعالي: ﴿قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، أي حرام.
وقد أنكر بعض أهل العلم ورود لفظ الرجس بمعنى النجس وجعل ما ورد منه مثل قوله ﷺ في الروثة: "إنها ركس" [البخاري"١٥٦"] . والركس الرجس مجازا على أن في الآية الأولى ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس وذلك اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام فإنها طاهرة بالإجماع.
وأما الاستدلال على نجاسة الخمر بحديث أبي ثعلبة الخشنى عند أبي دأود والترمذي
1 / 25
والحاكم أن النبي ﷺ أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره ﷺ بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت.
ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا"
وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "١٨٥٧"] .
فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي ﷺ إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "٣/٢١٠ – ٢١١"] .
قوله: "والكلب"
أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "٢٨٠"، أحمد "٤/٨٦"، أبو دأود "٧٤"، النسائي "١/١٧٧"، ابن ماجة "٣٦٥"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها.
ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها.
قوله: "والخنزير".
أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: ﴿أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: ﴿قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥] . أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النسائ: ٢٣]، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني
1 / 26