أما في سنار فلم تكن الحال على ما يرام؛ فقد حوصرت وكان المدخر بها من القمح كثيرا، ولكن مواصلاتها كانت مقطوعة، وحاول الحاكم نور بك أن يرد المحاصرين فنجح وأرجعهم إلى مسافة بعيدة.
وجاءت الخطابات تترى إلى المهدي رجاء أن يقدم إلى النهر، ولكنه لم يكن في حاجة إلى العجلة؛ إذ كان متأكدا أن السودان كله قد صار في يديه، وأنه لا يمكن أن يؤخذ منه إلا بجيش مصري أو أجنبي كبير. وكان يعرض الجيش كل يوم جمعة ويحضر العرض بنفسه، وكان جيشه مؤلفا من ثلاثة أقسام، يقود كل قسم منه خليفة، ولكن الخليفة عبد الله كان يسمى «رئيس الجيش»، وكان قسمه يسمى الراية الزرقاء، وكان أخوه يعقوب ينوب عنه. وكان الخليفة علي واد هلو يقود الراية الخضراء، أما الراية الحمراء، أو راية الإشراف، فكان يقود قسمها الخليفة محمد شريف، وكان للأمراء الأصاغر رايات خاصة.
وكان أمراء الراية الزرقاء يصفون جنودهم يوم العرض بحيث تواجه الشرق.
وكان جنود الراية الخضراء يصفون أمامهم بحيث يواجهون الغرب، ويصل بين هذين الصفين جنود الأشراف وأمراؤهم بحيث يواجهون الشمال.
وكانت جنود المهدي قد كثر عددها، فكان العرض يحتاج إلى ميدان كبير جدا مفتوح من ناحية واحدة يدخل منها المهدي ومعه صحابته، ويقول آخر إنه سمع أصواتا من السماء تبارك في أنصار المهدي وتعدهم بالنصر، بل بعضهم يقول ويؤكد أنه رأى الملائكة تبسط أجنحتها وتؤلف سحابة تقي الجيش وهج الشمس.
وبعد ثلاثة أيام من وصول خبر هزيمة الحاج أبي حرجة وصل إلينا في رهاد رجل إيطالي يدعى يوسف كوزي آتيا من الخرطوم، وكان قبلا في بربر، فلما سقطت تركه المسيو ماركة وكيل شركة ديبورج لكي يتمم بعض الحسابات في بربر، وأرسله محمد الخير بعد سقوط بربر إلى أبي حرجة، وهذا بعثه إلى غوردون بخطاب، ولكن غوردون رفض أن يتلقاه ورده إلى خطوط العدو على الشاطئ الشرقي للنيل الأزرق، فلما وصل إلى المهدي أرسله ثانيا إلى غوردون بصحبة رجل يوناني يدعى جورجي كالامنتينو ومعه خطاب إلى غوردون يطلب فيه منه التسليم، وأرسلت أنا على يد هذا اليوناني بضع كلمات لكي يحملها إلى غوردون سرا، وأذن لليوناني بأن يدخل إلى الخرطوم، أما كوري فلم يؤذن له؛ لأن الضباط اتهموه بأنه عندما دخل في المرة الأولى دعاهم إلى التسليم.
ولما انتهى شهر رمضان استدعي أبو أنجة ومن معه من القوات في جبل الدائر، وأعلن المهدي عندئذ أن النبي قد أوصى إليه أن يقوم إلى الخرطوم ويحاصرها بنفسه، وأمر جميع الأمراء بجمع رجالهم والتهيؤ للسفر، وكل من يتخلف عن هذا الجهاد تصفى أملاكه.
ولكن الناس الذين لم يكن لحماستهم حد لم يكونوا في حاجة إلى التحذير من التخلف؛ فإنهم كانوا يهرعون إلى القتال، وكل منهم طامع في الغنيمة التي تنتظر انتصار المؤمنين، وكانت نتيجة إعلان المهدي الجهاد أن هاجر الناس جملة، وكانت هجرتهم لا مثيل لها في تاريخ السودان.
وغادرنا رهاد في 22 أغسطس، وكانت قوات المهدي تسير في ثلاث طرق مختلفة، فاتخذت القبائل التي تحمل على الجمال الطريق الشمالي، وكان طريقها على فرس وصلبة وطرة الحضرة. أما الطريق الوسطى التي تمر على طيارة وشرقلة والشط ودريم، فقد اتخذها المهدي والخلفاء والأمراء. أما البقارة وسائر القبائل التي لها مواش، فقد اتخذت الطريق الجنوبية. وكنت أنا بالطبع ملازما للخليفة أرافقه، ولكني كنت عندما تحط رحالنا أرسل في طلب صالح واد المك الذي كان في رفقة المهدي. وكان الخليفة لسبب لا أعرفه يكرهه وأمرني بأن ألزمه أنا وخدمي، وكلف ابن عمه عثمان واد آدم بأن يعنى بأمري، ومع ذلك كنت أدقق من وقت لآخر لرؤية صالح واد المك، وكان واقفا على الدوام على الحالة في مديريات النيل.
ولما كدنا نبلغ شرقلة شاعت إشاعات عن رجل مسيحي مصري وصل إلى الأبيض، وأنه في طريقه إلى المهدي. وكان البعض يقولون إنه إمبراطور فرنسا، وآخرون يكذبونهم ويقولون بل هو قريب ملكة إنجلترا. فلم يكن ثم شك في أن الرجل أوروبي، فشعرت بأشد الشوق لرؤيته.
صفحه نامشخص