لقد كان عندنا هذا البصيص ولكنه انطفأ فجأة؛ إذ علمنا أن زوجال قد وصل إلى أم شنجة، وأن المهدي قد عينه «مدير عموم الغرب.»
وفي 20 ديسمبر سنة 1883 جاءني الرسول الذي كنت أرسلته إلى المهدي، وكان لابسا جبة، فروى لي خبر الهزيمة المنكرة التي نالت الجيش، وناولني خطابا من زوجال يطلب مني فيه التسليم ويخبرني عن هزيمة المصريين، ولكي يثبت لي هذه الهزيمة أرسل إلي بعض تقارير الضباط ومذكرات فاركار وأيضا مذكرات أودنفان.
وفي المساء جاءني فرج أفندي وعلي أفندي الطوبجي ضابط المدفعية ، وأخبراني بأن الضباط قد قرروا التسليم للمهدي لا لزوجال بك، وقد أوضحوا الأسباب التي ألجأتهم إلى هذا القرار؛ فإن كل واحد منهم قد اقتنع تمام الاقتناع بأنه لا سبيل الآن للحكومة أن تنقذهم، وأن الجيش في دارة لا يزيد عن خمسمائة وعشرة رجال، ومنهم عدد كبير لا يصلح للقتال، وأن الحالة المعنوية للجيش منحطة، ولا أمل في الحصول على أي انتصار، وأن الذخائر لا تكفي معركة واحدة سواء كنا مدافعين أو مهاجمين، وقالا لي أيضا إنه لا يمكنني أن أسوم الجيش على القتال؛ لأن الجميع قد عزموا على التسليم، فأخبرتهما بأني سأفكر في هذا الموضوع وأخبرهما في صباح اليوم التالي عن رأيي الأخير.
وفي تلك الليلة لم تغمض عيناي، فجعلت أتحسر وأندب هذا الحظ الذي يقضي علينا بعد معاناة الشدائد والأهوال بأن نسلم ونخضع، ثم بعد الخضوع ماذا خبأه القدر لنا؟
وعرضت الحالة من البداية إلى النهاية وأنا في هذا السهاد، لقد مضى علي أربع سنوات وأنا أجاهد لتثبيت الحكومة ومقاومة الفتن الداخلية التي قمعتها، ثم مقاومة حركة المهدي التي دخلت إلى أصول الإدارة وفشت فيها كالسوس وأخذت تتأكلها وتسري فيها من الغصون إلى الأوراق حتى ذبلت وجفت.
والخلاصة أن هذه الدعوة المهدية قد تغلغلت إلى قلوب الضباط والجنود؛ فقد كانوا قبلا ينصبون لها العداء ويكافحونها لأني كنت ألوح أمامهم بقوة الحكومة وعودة سلطتها بنجاح حملة هكس، وبالفوائد التي تعود عليهم إذا ثبتوا على الولاء إلى حين يهزم الجيش المهدي. وكنت أجهد جهدي لكي أثبت للجنود والضباط ضرورة فوز الحكومة في النهاية، ولكن جاءت هذه الهزيمة المنكرة فانقطع كل أمل. وقد كافحت الدسائس من الداخل والخارج، والقارئ يعرف مبلغ النجاح الذي نجحته في ذلك، وكان يمكنني بواسطة الكمية القليلة من الذخائر التي لدي أن أقاتل بضع ساعات، ولكن هل كان من المتيسر أن يخضع لي الضباط والجنود في مثل هذا القتال؟ فقد ذهبت رغبتهم في القتال ولم يعد لي حق في أن أجبرهم على أن يضحوا بأنفسهم في قضية لم يعودوا يبالون بكسبها.
وبعد أن عرضت الموقف من جميع جوانبه، تبين لي أن التسليم ليس فقط أسلم السبل، بل هو السبيل الذي لا مفر منه. وبعد أن قررت في ذهني هذا القرار عدت إلى الوجه الشخصي للمسألة؛ فإني باعتباري ضابطا كنت أمقت هذا التسليم، ولم أكن أخشى شيئا أو أخاف على حياتي، وكنت واثقا بأني إذا سئلت عن مسلكي في المستقبل يمكنني أن أبرر كل ما عملته.
ولكن لفظة التسليم نفسها كانت كريهة، وكان يكرهها أكثر في نظري أني أوروبي مسيحي، وأني سأكون بين آلاف من السودانيين كل منهم ينظر إلي كأني دونه في المقام. صحيح أني أسلمت وتركت ديني، ولكني لم أفعل ذلك إلا لكي أهدئ ثائرة الضباط والجنود علي، وقد نجحت في غايتي أكثر مما توقعت، ولكن هذا العمل لم يكن وفق مزاجي، ولم أكن أدعي فهم الآراء الدينية بدقة تخولني الحكم على صلاح عملي أو فساده، ولكني كنت في قرارة قلبي مسيحيا مثل جميع المسيحين الذين أعرفهم، وعلى ذلك لم أكن أستمرئ الظهور بمظهر ادعاء الإسلام، دع عنك أني كنت أعرف أن تسليمي سيضعني في يد هذا المصلح الديني السخيف - المهدي - وأني سأضطر لذلك ألا أظهر فقط بمظهر المسلم العادي، بل بمظهر المؤمن بالمهدي المتحمس لدعوته.
فهل يمكن أحدا أن يعتقد أني كنت أنظر للمستقبل بعين السرور؟ ومع ذلك يجب أن أعترف بأن هذه الاعتبارات الدينية لم يكن لها في نظري وزن يعادل تلك الاعتبارات الأخرى عن تأدية واجبي، وعلى وجه العموم أقول إني شعرت بأنه قد يحتم علي الآن أن أسلم، وأن أحقن الدماء التي لن تجدي إراقتها شيئا، ولم يكن هناك سبب يدعوني إلى الخضوع للذل والهوان وما يشبه الرق بعد التسليم؛ فقد خطر لي أن أنتحر، ولكن نفسي ثارت على هذا الخاطر؛ فقد كنت في شبابي وقد مضى علي أربع سنوات كلها تبعات ومجازفات، ولم أكن أشتهي أن تختم حياتي وأنا في هذا العمر، حتى مع انتظار تلك الأيام السود القادمة، وقد من الله علي برحمته وأبقاني في تلك الحروب المتوالية، وهو لا بد يبقيني حتى أعود فأخدم تلك الحكومة التي حاولت أن أخدمها في الماضي بولاء وأمانة.
هذه هي الخواطر التي كانت تساورني عندما بدأ شعاع الفجر يقشع الظلام في تلك اللحظات التي لن أنساها في حياتي، وانتهيت بعد التفكير الطويل إلى أنه لم يبق لي سوى التسليم، وأن أرضى بأن أكون محكوما لأولئك الذين كنت أحكمهم، وأن أخضع لأولئك الذين كانوا يخضعون لي، ويجب فوق كل هذا وذاك أن أكون صبورا، وإذا مارست هذه الخلائق في نفسي ورضتها عليها وحقنت دمي بها ونلت بعد ذلك حريتي، فإن هذه التجارب ستفيد بلا شك الحكومة التي أخدمها. ونهضت من فراشي وأنا على هذا العزم، ولبست ملابسي الرسمية لآخر مرة؛ إذ استبدلت بها بعد ذلك جبة المهديين التي مثلت فيها دورا جديدا في حياتي. ومع ذلك فقد كان يخفق تحت الجبة قلب كله ولاء للحكومة، وكله عزم على الاستفادة من هذه التجاريب إذا أذن الله بالعودة، ورأيت أن المسألة ستتلخص بيني وبين هؤلاء الأسياد الجدد في أينا يتغلب ذكاؤه على الآخر. ولم أجبن عن هذا الكفاح المنتظر، مع أني لم أكن في حاجة إلى الاعتذار والتبرير لو أني جبنت، إذا اعتبرت السنين الطوال التي قضيتها في الأسر وفي الحياة المزدوجة التي اضطررت إلى الظهور بها.
صفحه نامشخص