وتقدم الآن راشد بك ومعه برجوف وكايكو بك ملك الشلوك قاصدين غدير، وكان راشد يقلل من أهمية المهدي فلم يكن يحفل باتخاذ الحرس والاحتياطات، فكمن له المهدي وأوقع به وقتل من رجاله ألف وأربعمائة ألف نفس، وكان هجوم المهدي مفاجئا وسريعا، حتى لم يستطع راشد إرسال صاروخ في الهواء، وصمد راشد وقليل ممن معه للقتال، ولكن رجال المهدي تكاثروا عليهم وقتلوهم.
ووقعت هذه الهزيمة في 9 ديسمبر، ومن ذلك الوقت لم يتردد محمد أحمد في المجاهرة علنا بأنه المهدي المنتظر، وكبر مقامه في أعين العرب، ومع ذلك لم تكن علاقته مع أجواره على ما يحب، وقد أشار الخليفة عبد الله التعايشي إلى هذه المدة، وحكى لي عنها فقال: «لما بلغنا الغدير كنا في غاية الإعياء بعد هذا السفر الشاق الطويل، وكان للمهدي فرس واحد من تلك السلالة الحبشية الرديئة، أما أنا فقد سرت المسافة كلها تقريبا على قدمي، ولكن الله يهب القوة للمؤمنين الصادقين الذين يسلمون أنفسهم وما يملكون لأجل الإيمان، وكان إخوتي يعقوب ويوسف وسماني قد انضموا إلينا، وكذلك زوجة أبي التي كانت ترضع ابني على صدرها، ولم يرض أخي هارون البقاء فأتى معنا أيضا، وكنت على الدوام في قلق بشأن إخوتي وزوجة أبي وعائلتي وابني هذا الذي تراه عثمان شيخ الدين، ولم تكن مشاق السفر تهمنا نحن الرجال؛ فإن المصائب والكوارث تأتينا من عند الله ونحن نتحملها راضين شاكرين؛ لأن الله قد اصطفانا لنعلي كلمته ونرفع دينه الذي ديس مع التراب، وكنا نعلم إخواننا، ولكن (وهنا كان يبتسم) تعليم الدين لم يكن ليأتينا بالطعام لأولادنا ونسائنا، وكان الناس يهرعون إلينا زرافات، ولكن معظمهم كان في فاقة تزيد عن فاقتنا وكانوا يأتون إلينا لكي نعولهم، أما المتيسرون فكانوا يتجنبوننا، أجل إن المال لعنة ومن كان غنيا في هذه الدنيا فإنه لن ينعم بنعيم الفردوس، ولم نكن نحصل على معونة ما من الناس الذين كنا نجوز بلادهم، وكان المهدي مع ذلك يقسم ما يحصل عليه من القليل الذي لديه بين الحجاج الذين كانوا يقصدونه، وكان قلبي يتفطر عندما أسمع بكاء الأطفال والنساء، ولكني كنت عندما أنظر إلى وجه المهدي تعود إلي الطمأنينة وأثق بالله، أجل يا عبد القادر إن الصبر مفتاح الفرج، كن صبورا والله يكافئك.»
وقد نبهت هزيمة راشد بك الحكومة إلى خطورة الحالة وهيئت تجريدة بقيادة يوسف باشا شلالي، وكان قد ظهرت مواهبه في حملة جسي باشا في بحر الغزال، وكان مشهورا بصدق عزيمته وبسالته، وهيئ أيضا مدد آخر مؤلف من فرقة من الطوبجية ومعهم بعض المتطوعين بقيادة عبد الله واد ضيف الله - شقيق أحمد واد ضيف الله - وعبد الهادي وسلطان ديمة، وأرسل هذا المدد إلى كردوفان.
وفي هذه الأثناء أرسل المهدي الرسل إلى جميع الجهات تحمل بشائر انتصاراته وهدايته، ودعا جميع الأهالي إلى الانضمام إليه في الجهاد، وأطلق اسم «الأنصار» على أتباعه ووعدهم بأربعة أخماس الغنائم التي تغنم في الحرب، أما من مات منهم فقد ضمن له نعيم الفردوس، وبذلك استثار الصفات الكامنة في نفس السوداني وأهمها الطمع والتعصب.
وكان جيش يوسف باشا شلالي يبلغ أربعة آلاف جندي يقودهم محمد بك عثمان وحسن أفندي رفقي الذي كنت قد فصلته أنا من وظيفته قبلا، أما الخيالة غير النظامية فكانت بقيادة طه بن صدر، وهو رجل شجاع، وغادرت هذه القوة الخرطوم في 15 مارس سنة 1882، وعرجت على كوة حيث حطت رحالها تنتظر المدد الآتي من الأبيض.
وقد وجد عبد الله واد ضيف الله أن جمع المتطوعة ليس من المهمات السهلة؛ فقد كان الشعور العام أنه من الخطأ أن يقاتل رجل صالح مثل المهدي ثم لم يكن هناك مطمع في الغنائم؛ لأن أتباع المهدي لم يكونوا أحسن حالا من الشحاذين. وزيادة على ذلك كان إلياس باشا أغنى تجار كردوفان وحاكمها المعزول يكره ضيف الله أشد الكره، وقد استعمل سطوته في منع الناس من التطوع، ومع ذلك تمكن ضيف الله من تجنيد بعض المتطوعة باتفاقه مع ولاة الأمور، وصارت قوته بمن فيها من النظاميين 2000 قبل أن يبرح الأبيض، والتقى بالجيش في كوة فصار مجموع الجيش 6000، وذلك حوالي منتصف شهر مايو.
واستراح يوسف باشا قليلا ثم تقدم نحو الغرب وضرب خيامه في 6 يونيو في مسات القريبة من جبل غدير وهو واثق بالظفر. والحق أنه لم يكن هناك، حسب ظاهر الأحوال، ما يدعو مثل يوسف باشا ومحمد بك وأبو صدر إلى الخوف من طائفة من العرب قد أضناها المرض والجوع والعري، ألم ينتصروا في الماضي جملة انتصارات في النيل الأبيض وفي دوفيلة؟ ألم يفتحوا بحر الغزال ويخضعوا سلطان دارفور ؟ فماذا يمكن أن يفعل معهم هذا الفقيه الأعزل الجاهل؟
ولكن عبد الله واد ضيف الله لم يكن مغترا بقوته؛ فقد حذر هؤلاء القواد من تصغير شأن المهدي، وقد وقع من ظهر جواده وهو خارج من الأبيض، وهنا الوقوع يعتبر في السودان شؤما يخشى منه، ولكنه كان يصرخ في الصحراء فلم يسمع له أحد، بل لم يعن أحد منهم ببناء «زريبة» من الأشواك والأغصان حول الجيش، وإنما اكتفوا بالتقاط قليل من القش وصنعوا منه سياجا واهيا لم تكن منه فائدة قط، وما جاء الفجر حتى جاءت طائفة المهدي التي أضناها الجوع والعري والمرض وأوقعت بجيش يوسف باشا، وكان ذلك في 7 يونيو، فقد جازوا السياج الواهي وباغتوا الجنود وهم نيام فأجهزوا عليهم، فقتل يوسف باشا وأبو صدر وهما في قميص النوم على باب خيمتهما، ولم تمض دقائق حتى أبيدت جميع الجنود تقريبا، وكان لأبي صدر امرأة سرية، فلما رأت مولاها يقتل هبت إلى القتلة وقتلت اثنين منهم بمسدس في يدها، ولكن وقعت فوق مولاها بطعنة حربة بلغت قلبها! وصمد عبد الله واد ضيف الله بعض الوقت ولكنه هو ورفقاؤه قضي عليهم بعد مدة وجيزة من القتال.
وفي البلاد غير المتحضرة عندما يحدث شيء غريب يعزى على الدوام إلى قوة إلهية، وكان هذا تأثير نكبة يوسف باشا في عقول السودانيين المستسلمين للخرافات، فقد مضى ستون سنة كان القطر السوداني محكوما فيها بالمصريين والأتراك.
فقد كانت العادة المتبعة أن تعاقب القبائل التي لا تدفع الضرائب المطلوبة منها، ولم يكن أحد يجادل في حق الحكومة في هذا العمل، أما الآن فهذا الفقيه قد ظهر وجمع حوله شراذم الرعاع الذين لم يتمرنوا على الأعمال الحربية وليس معهم عدة السلاح وأوقع بجيوش الحكومة، فلم يكن هناك من يشك إذن في أنه المهدي المنتظر.
صفحه نامشخص