بعض الحوادث الأخرى
كان الأمير كرم الله قد تولى الحكم في بحر الغزال بعد لبتون وذهب إلى شقة وأقام فيها، ولكن صديقي القديم المادبو كان يحكم هذه الجهة، فاصطدم الاثنان وتنازعا السلطة.
وانتهى النزاع بالشجار وفر المادبو بعد مقاومة غير مفيدة، فقبض عليه وأرسل إلى أبي أنجة، وكان يحقد عليه لعلة سابقة؛ وذلك أن المادبو أسره أحد الأيام عندما كان يقاتل في صف سليمان زبير وكلفه حمل صندوق كبير من الذخيرة، فلما شكا إليه أبو أنجة جلده، ولما أحضر المادبو حاول أن يدافع عن نفسه بقوله إنه لم يقاتل المهدي وإنما كان يقاتل كرم الله، ولكن ما فائدة الدفاع في هذه الأوقات؟
وعرف المادبو أن الدفاع لا فائدة فيه فاستسلم لقضاء الله، وقال: «إن الله هو الذي يقتلني، وأنا لا أسأل الرحمة وإنما أطلب العدل، ولكن كبير على عبد مثلك أن يكون شريفا، وها هي ذي آثار سوطي على ظهرك لم تزل واضحة، ومهما جاءني الموت فإنه سيجدني رجلا هادئا مطمئنا لقبوله، فأنا المادبو والقبائل تعرفني.»
وأمر أبو أنجة برده إلى السجن ولكنه لم يجلده، وفي اليوم التالي قتله أمام جيشه، وبر المادبو بوعده؛ فإنه وقف في الساحة الفسيحة المعدة لقتله والسلاسل حول عنقه وكان يضحك في وجه الجنود الذين كانوا يركضون الخيول ويلوحون بالرماح في وجهه، ولما أمر بالركوع لكي يقتل صاح في الناس أن يشهدوا عليه كيف مات وتحمل الموت بشجاعة، وبعد لحظة انتهى كل شيء، وهكذا ختمت حياة المادبو وكان من أقدر شيوخ العرب في السودان.
ولما أحضر رأسه إلى أم درمان حزن عليه جنود الرزيفات الذين كانوا قد هاجروا إلى أم درمان، حتى الخليفة نفسه أسف على قتله. ولكن لما كان كل شيء قد انتهى لم يكن ثم مجال لأن يلوم أكبر أمرائه على شيء فات، ولكنه أخبرني أنه لو عاش لكان فيه منفعة كبيرة.
وكان يونس قد غادر أبا حرز إلى الغضارف والقلابات حيث أقام وكانت سلطته واسعة، وحدث أنه طلب من الخليفة أن يأذن له في الإغارة على الحبشة، ولم يكن الخليفة قد تسلم الجواب من الملك يوحنا على خطابه فأذن له. فأخذت جيوش يونس في الإغارة على القرى المتاخمة، وكان يقودها عرابي ضيف الله، فكان يقتل الرجال ويسبي النساء والأولاد. وكانت هذه الجيوش سريعة الحركة كثيرة الإغارة، حتى لقد سارت مرة عشرين ميلا في داخل البلاد تنهب وتقتل وتفتك، ولكن يونس كان في القلابات وعلاقته بالأحباش على ما يرام، يتاجر معهم فيأتونه بالبن والعسل والشمع والطماطم وريش النعام والخيول والبغال والعبيد. وحدث مرة أن جاءت قافلة كبيرة من الجبارتة - وهو من مسلمي الأحباش - ومن المكادة ومعهم متاجر عظيمة، فلم يقو يونس على كبح أطماعه، فادعى أنهم جواسيس أرسلهم الرأس عدل وقبض عليهم وأخذ سلعهم، واستحسن الخليفة عمله حتى سماه «عفريت المشركين» و«مسمار الدين».
وكان يونس قد أرسل إليه جميع الفتيات الجميلات اللاتي سبين في الغارات كما أنه أرسل إليه عددا من الخيول والبغال، وطمع الخليفة في التوسع، وكان أيضا مغتاظا من الملك يوحنا؛ لأنه لم يجب على خطابه، فعزم على أن يضم جيش يونس إلى جيش أبي أنجة ويغير بهما على الحبشة، وطلب من يونس أن يبقى بجيشه ويتخذ خطة الدفاع إلى أن تأتيه أوامره.
وأرسلت الأوامر إلى أبي أنجة لكي يرسل 1500 من جنوده المسلحين ببنادق منجتون إلى عثمان واد آدم الذي عين أميرا لكردوفان ودارفور، وطلب منه أن يحضر هو بنفسه مع سائر جيشه إلى أم درمان.
وقبل هذه الحوادث بمدة قليلة كانت قبيلة الكبابيش التي تقيم بين كردوفان ودنقلة قد ظهر منها شيء من العصيان، فأرسلت إليهم تجريدة نجحت في إخضاعهم وغنمت منهم مقادير كبيرة من الماشية والعبيد، ولجأ شيخ القبيلة الشيخ صالح إلى أم بدر؛ وهي بقعة بعيدة، ومعه عدد قليل من أتباعه.
صفحه نامشخص