ولأول مرة منذ سنة تقريبا بادرت أنا بالاتصال بهيروكي. كنت متلهفة لسماع صوته وفي الوقت نفسه غاضبة منه، لم أكن أعلم حقيقة ماذا سأقول له؟ هل أبدأ حديثي بالعتاب عليه وعلى غيابه المتواصل عني، أم يكفينا هذا الجفاء الذي وصلنا إليه، إذن سأبدأ بالاعتذار، ولكن هل سيعتبر اعتذاري ضعفا؟! لا ليس هيروكي من يعتبر أن الاعتذار ضعف، ولكني مع هذا كنت مترددة جدا من الاعتذار. قاطع هذه الأفكار صوت المجيب الآلي يخبرني أن الرقم المطلوب خارج نطاق التغطية، حاولت بعد ساعة، ساعتين، في اليوم التالي، هنا فقدت السيطرة على نفسي وبدأت بالبكاء، بكيت بحرقة، حرقة من عرف ألم الفقد ومن يخاف أن يفقد مرة أخرى، أبكي ولكن هذه المرة لا يوجد أحد معي يخبرني أن كل شيء على ما يرام، وأن الأمور لا بد أن تتحسن، كنت أشعر أني مقيدة الحركة وأنه ليس بيدي حيلة أفعلها. كان الاكتئاب قد أخذ مني مأخذه فأصبحت أشعر دوما أن لا حيلة لي، ولكن هذه المرة حاولت بشتى الطرق محاربة تلك الأفكار السوداوية، أخذت حبوبي المهدئة التي اعتدت عليها منذ رحيل جنيني، وجلست واضعة رأسي في حجري علي أستطيع السيطرة على نفسي.
بعدها سألت نفسي: ماذا لو كان لا يرغب في سماع صوتي بالأصل؟ ماذا لو أنه حقا لم يعد يحتملني؟ ماذا سأفعل حينها؟ حين طردته هل كنت حقا أعني ما قلته؟ لا أدري! لكني بحاجة إليه. فكرت كثيرا ثم قررت الذهاب إلى منزلنا.
وأنا في طريقي إليه كنت أحلم أنه سيراني ويأخذني بين ذراعيه، لكن لم أكن واثقة من ذلك أبدا. دخلت إلى المنزل بخطوات هادئة فرأيت الأنوار مطفأة، وهذا يعني أنه نائم أو ربما ليس موجودا في المنزل. توجهت نحو غرفة النوم فوجدته نائما. نظرت بهدوء للغرفة؛ فقد كدت أنسى تفاصيلها، منذ سنة وأنا لم آت إلى بيتنا، أمعنت النظر مجددا لأجد إطار صورة، أمسكتها لأراها، كانت صورة قد التقطت في أول ذكرى زواج لنا معا، كنا في مطعم صغير في وسط المدينة نحتفل بهدوء، لم تكن الصورة بتلك الاحترافية، لكن كانت تعني لنا الكثير لذا وضعناها في غرفتنا. تذكرت حينها أني في تلك اللحظة كنت أخبره أن تلك السنة كانت أجمل سنين حياتي، تذكرت أني كنت أعده أن نبقى معا إلى الأبد، تذكرت رقصته معي تلك الليلة على أنغام البيانو بعد أن عزفت لنا مقطوعة خاصة، كانت تلك المقطوعة هديته لي في ذلك اليوم، تذكرت كيف أدركت في ذلك اليوم أنه وحده هيروكي الذي يعلم ما أحب، وحده هيروكي الذي يعلم كيف يسعدني، تذكرت سعادتنا معا ومن ثم نظرت لحالنا. لم أعد أتمالك نفسي، دنوت إليه، طبعت قبلة على جبينه، لقد اشتقت لكل تفاصيله، ظللت أمسح على شعره، كنت أريده أن يشعر بوجودي، لكنه لم يفعل. أتاني شعور أن لا مكان لي هنا بعد الآن، هو مستقر الآن، لقد دخلت حياته وقمت بالعبث بها. لا بد وأنه يشعر بالارتياح والهدوء، لم أعد أرغب أن أزعجه بعد الآن، أدركت أن عودتي إليه ستؤذيه، فأنا لم أعد أصلح له، كما قال لي، فأنا مجنونة، ربما هو محق!
أخذت إطار الصورة معي، بدأت دموعي بالانهمار وأنا أغادر الغرفة، ومن ثم أغادر باب المنزل. وصلت إلى الحديقة وأنا خائفة، كيف سأعود إلى شقتي مجددا؟ لا أريد أن أبقى وحدي، كان اليأس يحوم حولي، وكل ما حولي ظلام. مع كل خطوة كنت أتقدمها كنت أشعر كما لو أني أهرب من الدفء إلى البرد، من السعادة إلى التعاسة، أهرب بإرادتي من عالم مليء بالتفاؤل والأمل إلى عالم موحش وبائس. وقفت قليلا، ما الذي يجعلني أختار بنفسي هذا الخيار القبيح؟ هل أنا بهذا القدر من الغباء! شيء ما كان يدفعني ألا أعود، فأنا لست متأكدة من أن هيروكي سيقبل عودتي مرة أخرى.
هممت أن أكمل خطواتي لأخرج من باب الحديقة، فرأيت شبح الوحدة يحاوطني ويكاد يفتك بي، ذعرت وصرخت وأوقعت إطار الصورة الذي كان بيدي أرضا. غطيت وجهي بكفي وبدأت بالبكاء، لم أستطع أن أظل واقفة، فجلست على الأرض وأنا أرتجف من خوفي. كل تلك الأعراض تؤكد أنني مصابة بخلل نفسي، كنت أعلم أن الاكتئاب قد نال مني، وأن وضعي النفسي سيئ جدا، لكن لم أعتقد أني وصلت لدرجة التوهم. لطالما سمعت تلك الأعراض من المرضى، كنت أصدقهم وأحاول تفهم شعورهم وتصور حالتهم، وكنت أظن أني أفهمه بشكل قريب، لكن حين عشت الأمر وجدته مختلفا، كم كان مرعبا ومخيفا أن أبدأ برؤية أشياء لا وجود لها، وسماع أصوات لا مصدر لها. بقيت في مكاني أرتجف وأنا أفكر بحالتي الجديدة تلك، لم أجرؤ أن أفتح عيني مجددا فأنا ما زلت أسمع صوت شبح الوحدة ذاك، أسمعه يدوي في أذني، ينذرني بأيام سوداء، وليال حالكة الظلمة. شعرت برياح حولي تأخذني يمنة ويسرة، وتخيلت وجود عاصفة تقترب مني لتأخذني معها وترميني في مكان بعيد، بعيد حيث لا أحد يراني أو يسمعني، ولن يكترث أحد ببعدي. لم اعتدت الخسارة دائما؟ لم لا أستطيع إنقاذ نفسي بنفسي؟ لم أعتمد على الآخرين؟ لم أنا هشة إلى هذا الحد؟ لكنني حاولت كثيرا وفشلت؟ لا أحد في هذه الدنيا يستطيع أن يعتمد على نفسه وحسب، كذب ما يقال، أنه باستطاعتنا المضي قدما بعزمنا وقوتنا وإرادتنا فقط، ربما هناك من يستطيع القيام بذلك، لكن ما أعرفه أني لست من هؤلاء الأشخاص.
لا أريد أن أرفع وجهي، ولا أريد أن أعود وحدي، كررت تلك الكلمات وأكملت لعبة التخيل والجنون، فما زالت العاصفة تقترب مني أكثر فأكثر، عدة دقائق وستصل إلي وستنال مني، وما زال الشبح يهزأ بي، وأصوات الرعب تعلو وصداها يكاد يصم أذني، وأنا بصغر جسدي في هذا المشهد وضعف روحي، أنتظر مصيري بلا سند، وبقلب مثقل بالأسى. كان ما ينقص هذا المشهد مقطع أخير، ينهي المأساة. قررت أن أرسم ذلك المشهد بقلبي، وأرى تفاصيله لأعيش لحظات حب ودفء أخيرة على باب حديقة منزل هيروكي، هيروكي الذي ضاق ذرعا بتصرفاتي، سنة كاملة وأنا أتفنن في تعذيبه وإيذائه، لم أترك كلمة إلا وجرحته بها، لم أترك وصفا واتهاما إلا واتهمته به، سنة كاملة وهو يحاول عبثا أن يعيد قلبي إلى الحياة، سنة كاملة وشهر، نعم أنا لم أفقد إحساس الزمان، ما زالت أذكر آخر يوم قبل معرفة خبر الحمل، كان يوما عاديا من حياتنا، يوما مليئا بالحب وكلمات الغزل والمزاح، يوما مليئا بالحياة. قررت أن أراه يجري نحوي، أنادي باسمه وينادي باسمي، قررت أن أراه وهو يضمني بين ذراعيه، قررت أن أشعر بلمسة يديه تمسح كل دموعي، قررت أن أسمع كلماته وهو يخبرني أن كل شيء على ما يرام وهو بجانبي دائما وأبدا، قررت أن أصدق خيالاتي وأسمع صدى صوته في أعماقي، وبرعت في ذلك، فقد شممت رائحة عطره التي اشتقت إليها، وأمسكت يديه، وغرست وجهي في صدره، لا أريد أن أتركه أو يتركني، كما لا أريد أن أستفيق من هذا الحلم الجميل.
هيروكي
عندما صرخت ساي في وجهي، تتهمني أني أحتفل بفقدانها لطفلها ولفرصة الإنجاب مجددا أيقنت أن ساي قد جنت حقا. على مدى السنة التي مضت كنت أجد لها مبررات وأعذارا لتصرفاتها، لكن في ذاك اليوم لم يعد في جعبتي أي منها، لم أعد أستطيع إقناع نفسي بأن هناك أملا من عودتها إلى رشدها، هي تزداد جنونا كلما مضت الأيام. في ذلك اليوم اقتنعت أن لصبري حدودا، وأن الحب وحده لن يحل المشكلة، وأن لا فائدة من إصراري على البقاء إلى جانبها. لم يعد الأمر متعلقا بالوفاء أو الإخلاص، هي لا تريد رؤية وجهي مجددا، وربما أنا أزيد من تعاستها بينما أظن أن إصراري سيسعدها، لكن من الواضح أنه لا يسعدها البتة.
قررت قرارا صارما ألا أعود ثانية إلى منزلها، وألا أتصل بها، وأنا إن قررت أمرا أنفذه. وكلت امرأة لتقوم بالعناية بها وبمنزلها، فتحضر لها طعامها وتطمئن عليها يوميا، وأوصيتها في حال طرأ أمر مهم أن تعلمني به، عدا ذلك لا أريد أن أعلم شيئا عما يحدث مع ساي، ولا أريد أن أتتبعها بعد الآن، لديها حريتها الكاملة بتصرفاتها، وحين ستستعيد توازنها تستطيع أن تقرر مصيرنا كزوجين، أما الآن لا أريد أن أفتح هذه المواضيع.
مر أول شهر بسلاسة، فأنا أصلا أعيش وحدي منذ أكثر من سنة. رغم ذلك فقد كان الفضول ينتابني في بعض الأيام لأعلم ما تفعله الآن وما تفكر به عن اختفائي، لكني كنت أتجاوز تلك الأفكار بسهولة. لكن بعد مضي ذلك الشهر، وفي إحدى الليالي كنت أتصفح كتبي وأنا مستلق على سريري، شعرت بباب المنزل وهو يفتح بالمفتاح، فعلمت أنها هي: ساي، نظرت من خلال الكاميرات فرأيتها تدخل بهدوء وهي مرتدية ملابسها الرياضية، ملابس مشابهة لتلك التي رأيتها فيها أول يوم التقينا به أثناء مقابلتها. لا أنكر أن قلبي كان يخفق شوقا إليها ولكن عقلي يمنعني عن ملاقاتها، يذكرني بآخر لقاء لنا وكيف كاد يتحول إلى مأساة، بل تحول بالفعل؛ لذا فضلت ألا نتقابل فنتحدث وتبدأ المشاكل، كان الحل الأمثل بالنسبة إلي هو التظاهر بالنوم، فحتى إن كان قرارنا النهائي أنا وساي هو الانفصال فعلى الأقل ليكن انفصالا راقيا كرقي العلاقة التي جمعتنا؛ ولهذا قررت لحظة مجيئها الانسحاب، لم أنسحب لأني لا أرغب برؤيتها، بل انسحبت حتى لا نجرح بعضنا ونلوم بعضنا أكثر، لطالما كان فن الانسحاب من الفنون التي أجيدها سواء في حياتي المهنية أو الشخصية ولكني لم أكن أتخيل أن يأتي اليوم الذي أطبق فيه فن الانسحاب على علاقتي مع ساي. حقيقة أنا لا أعلم لم أتت، ربما تود أخذ شيء من أغراضها التي في منزلي، أطفأت أنوار الغرفة، أغلقت كتابي، وضعت رأسي على وسادتي وأغلقت عيني.
صفحه نامشخص