صدای سخنگو از یخچال
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
ژانرها
رشفة من الشاي، ويبدأ. جدته مريضة، ولا علاج لها في بلدنا. وهو لا يملك أي مال بالطبع. لكن وما المشكلة؟ السيدة تريد اللحاق بزوجها الذي سبقها إلى الآخرة منذ سنين. تجهز كفنها كمن تفصل ثوب زفافها. زوج أخته العصبي، رمى اليمين على الأخت، لسبب تافه، يتعلق بعلو صوت التليفزيون في أثناء عشائه. بكت الأخت أنهارا، ورفض طليقها دفع النفقة، ثم اختطف أولاده منها، إلخ إلخ إلخ ... وهو يرى أن الله - أولا - حرر أخته من هموم زوج جلف، وبيت متعب، وثانيا، أرجعها - من بعد طول فراق - إلى بيتها الأصلي الذي ترتاح فيه، وأهلها الذين تحبهم ويحبونها، وثالثا، فتح الباب أمامها كي تختار مجددا من هو أفضل، أو أقل سوءا!
رشفة جديدة، ويتحول للحديث عن نفسه؛ العمل، لا يوجد. لقد توقف عن عد الوظائف التي يتقدم لها عقب تخرجه، بعد وصوله للرقم 27. الزواج، انس. كيف يحاول الحلم ببيت وزوجة وأسرة، وهو لا يملك إلا معاش أبيه الذي يكفي أسرته عيشا وغموسا بالعافية؟! لم ينس السخرية، بدون ذرة مرارة، حول كونه لن يحتاج - وأسرته - أجهزة التنحيف الرياضية التي يعلنون عنها في التليفزيون.
رشفة ثالثة، طويلة وبطيئة، ثم تتسع البؤرة. إلى أين تتجه البلد؟ لا أحد يدري. الطريق غائم، وغير ممهد، وينذر بكارثة أبشع من الخيال. رجال دولتنا غير مؤهلين إلا للفساد والإفساد. والرجل الكبير نقي، دائما وطني نقي، ولكن العيب فيمن حوله. والدولة الكبرى تتآمر علينا، والدولة الصغرى تخطط نهايتنا، وباقي الدول تمص دمنا «جملة وقطاعي». لكنه - والابتسامة ملتصقة بوجهه - يقلد صوت وأسلوب حديث أحد الكتاب المنافقين، الذين يزرعون قنوات التليفزيون كذبا أقرع، في مهارة تدفعني إلى ضحك حميم لم أذقه مع أقرب وأظرف الناس .
مالت الشمس في الأفق، كفاتنة تستلقي على أريكة، لتنشر ضوءها الدافئ من وراء سحب ديسمبر، في أرجاء المخبأ، فيتوهج دهان الأستر الأحمر، ويشع المكان رغم عدم إنارتي للمبات النيون، معتمدا على الضوء الطبيعي المجاني، ذي الرومانسية المحببة. في أثناء ذلك، كان الصمت يعبرنا في مارش جنائزي قصير، بينما اقتحمت المكان دفقة ريح باردة، صفقت الباب بوقاحة، محاولة إثبات قوة لا ينكرها أحد.
أنهى شايه، ونهض وسط دائرة من الطاقة الإيجابية، وصافحني شاكرا إياي على الشاي، ثم ناصحا في تهوين، عليه أو علي: «ما تفكرش كتير؛ تعيش أطول». وضع كفيه في جيبي السويتر البني العجوز الذي يرتديه، واتجه إلى الباب، مادا عنقه للأمام، ناظرا نحو الأرض، مدندنا لحنا لم أميزه. وبينما أخفضت رأسي، كي أحكم رباط حذائي، الذي لاحظت أنه محلول، لم أكن أتصور - أبدا - أن الصوت الذي سمعته كان ارتطامة جسد «السعيد» أرضا، أمام الباب، ساقطا جثة هامدة.
الصوت المتحدث من الثلاجة
صرت شاحبا مثل دراكيولا، وأنام مثله. أبقى عاملا طوال الليل، ثم أستسلم لنوم يلتهم النهار من العاشرة صباحا حتى الثامنة مساء. نوم مؤلم يقارب الجحيم عذابا. أناس يتحدثون في أذني بلا كلل، كل أصواتهم تنويعات على صوتي. ينقرون رأسي كنقار خشب مجنون. أظن أنهم يكتبون قصصا للصغار، والكبار، ومقالات، وروايات، ثم يعدلون عليها، جملة جملة. نومي صار مصنعا لإزعاج غزير وصلب. أكاد أبكي، لكن جفاف عيني يحرمني من هذا الترف. أرى وجهي في المرآة؛ بعيون منتفخة، تخنقها هالات سوداء. أف. أشعر بانسداد في أنفي، وخشونة في حلقي. حسنا، إنها فعلة المروحة الدائرة علي طوال اليقظة وطوال العذاب/النوم سابقا. أسرع لتناول ملعقة عسل أبيض، لعلها تحارب هذه الإنفلوانزا قبل استفحالها. أفتح الكومبيوتر كالمحكوم عليه بأداء ذلك إلى ما لا نهاية، ومعه أفتح التليفزيون. لا أدري لماذا أفعل ذلك؟ ربما آلية اعتراضية في عقلي تحاول تعطيلي عما أريد فعله، ولا أفعل غيره، وهو الكتابة. لا أجد ردا على رسائلي الإلكترونية. لا أحد لديه الوقت للرد. القنوات الأرضية تذيع نفس الفيلم للمرة المليار. فيلم كوميدي نهايته ميلودرامية. نحن الأغبياء الوحيدون في العالم الذين نفعل ذلك. نضحك، ونضحك، ونضحك، ثم نتفنن في وضع نهاية مأساوية لكل هذا الضحك في النهاية. في الخارج، حيث العقول أرقى، والنظام حاكم، يفعلونها بشكل متناغم، فيبتكرون الكوميديا السوداء، إنما هنا ... الحياة سوداء، غير متناغمة. لماذا أفكر في كل شيء؟ أنا مؤسس مصنع الإزعاج، ومديره، ومستهلكه الأعظم!
أعاني هذه الأيام. شيء غير منضبط بي، على الرغم من التزامي بالصلاة مؤخرا. مثلا، أحاول الخروج من روتيني الأبدي؛ فأبحث عن ألعاب للتسلية على الإنترنت. وجدت لعبة اسمها «المدافع عن النجم». معركة طائرة مع وحوش فضائية تمتلك أسلحة متقدمة بلا حصر. هؤلاء اليابانيون مبدعون عباقرة. فماذا حدث؟ ما حدث أني بقيت ألعب، وألعب، لسبع ساعات متواصلة، حتى تخشبت يدي - لأول مرة في حياتي - على فأرة الكومبيوتر. وانعدم الدم في عروق ذراعي. وصارت وحوش اللعبة يطاردونني في كل بقعة. لقد احتلوا تفكيري، وصاروا يضربونني كلما أغلقت عيني ولو لثانية. أي أني حاولت تهدئة أعصابي بما أرهقها! حذفت اللعبة من الكومبيوتر. فإن لها إغواء شهوانيا لا أريده أن يدنس وقتي. حينما تضيع 7 ساعات يوميا، مع أعصابي، فإن ذلك ضرر يرفضه مجلس إدارة عقلي بالإجماع. ما أسوأ الجمال إن ضر، إنه هكذا ينقلب إلى قبح، وأنا لا أطيق القبح.
لاحظت مؤخرا ميلي إلى التهام الطعام على نحو مفجع. نعم، كنت رشيقا، ألعب الحديد، ولا يستغرق وقت أكلي إلا أقصر مدة وسط زملاء الجامعة، وأهل بيتي، رحمهم الله جميعا. ثم بعدها، صرت أنتقم من الحياة أكلا. وأعي بوضوح أني أشبع مرتين، أو ثلاثا، في الوجبة الواحدة؛ حتى امتد كرشي، وترهل جسدي، وإن كنت أحتفظ بالصورة الذهنية لي رشيقا طيلة الوقت. وقبيل مطالعة صورتي في أي مرآة، أو سطح عاكس، تلتصق بذهني صورتي أيام كنت جميل النحافة. العجيب أن ذلك لم يأت لي بالفتيات أبدا! على أي حال، ما يحدث هذه الأيام لم أمر به من قبل. لقد صرت وحشا؛ ألتهم الطعام بلا توقف. لم تعد هناك نقطة شبع واضحة، قريبة أو بعيدة. مرة تماديت في الغي، وانزلقت لفوهة بلا قاع، لينفتح فمي ملتهما كل شيء دون توقف. لحظتها خفت أن ألتهم مفرش المائدة، والجريدة أسفل الأطباق، والأطباق نفسها! في اللحظة اللاحقة، أشفقت على روحي، وكدت أبكي. لكن مجددا، البكاء صار صديقا لا يزورني مطلقا.
في الليل، أشعر بنوبات جوع تثور مثل ديناصور في فيلم أمريكي، يريد حشو بطنه، وإخماد شراسة جوعه بشراسة شبع. انطلقت إلى الثلاجة. جبنة رومي، جبنة بيضاء، طماطم، فلفل حار يدب الدم في رأسي بعنفوان أحبه، بيضة مسلوقة قديمة، بقايا حلة محشي الأمس وصينية بطاطس اليوم، يكفي هذا. حين إرجاع الباقي للثلاجة، نما إلى مسامعي صوت دقات من الرف العلوي؛ دقات متوازنة لها إيقاع واحد لا يتغير. خمنت أنه الطبق الألومنيوم العجوز، الذي كان في جهاز أمي. طبق قاعه نصف كروي، يحب المرجحة خاصة إذا ما وجد نفسه على سطح مستو، ويبدو أن اهتزاز الأرفف البلاستيكية منحه هذه المتعة. لكني لاحظت بعد شيء من التدقيق، أن الطبق ليس في الرف الأخير، ولا في الثلاجة كلها. من أين يصدر هذا الصوت إذن؟! ليس من خلفية الثلاجة. أنا متعود على زعلها، ومرضها، وأحفظ أصواتهما. هذا الصوت لا ينتمي لهذا أو لذاك، فما سببه؟ وسط تحيري سكن الصوت، لأزداد حيرة! هل أتخيل أمورا لا وجود لها؟! تذكرت مرة حينما كنت طفلا، ولمحت فأرا أسود ضخما يجري من أسفل أريكة الصالة، إلى أسفل الثلاجة المجاورة لها. وكيف تجمدت واقفا لما لم أحسب وقته. وكيف - أيضا - أقنعت نفسي أن ما شاهدته كان وهما، إلى أن شاهدته ثانية يهرب من تحت كرسي الشرفة إلى سورها. حسنا، هذه المرة لن أقع في هذا الخطأ؛ ما أسمعه واقع لا مراء فيه، وسأكتشف هذا الصوت عاجلا ... أو ... هه؟ ثانية واحدة. ثمة صوت غريب نطق الآن «آجلا» بدلا مني! لا يوجد داخل جدران شقتي الخرساء غيري. أنا لست مريضا وأتصور ما لا وجود له. وعيي يقظ جدا، ومخي حام دائما. إنها المشكلة الكبرى التي أقاسيها عمري، ولم يفلح معها أي استرخاء مسكين. لقد جربت فتح فيديوهات اليوتيوب التي تحمل ساعات من صوت خرير الماء، وأمواج البحر، وانهمار المطر؛ لكن لم يفلح معي أي منها. لطالما كنت أقتل استرخائي بأسئلة حول الناس الذين يمشون تحت هذا المطر، وأين تم تسجيل ذلك، ناهيك أن صوت الماء يثير عندي رغبة في التبول، وكيف يشعرني هدير البحر أن ثمة طوفانا قادما سيبتلع البيت والعمارة والحي.
صفحه نامشخص