صدای سخنگو از یخچال
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
ژانرها
برنامج الطبيخ
الشيف الذي يسكن التليفزيون يوزع نفسه بين عرض مقادير الطبخة، وتنفيذ خطواتها، والرد على هواتف المشاهدين. ميزت على مريلته القاتمة كلمة «القاضي» مكتوبة بخط الثلث؛ تذكرت أنه مطعم شهير، وعرفت أنها دعاية أخرى. خلال مكالمة مع أم أصرت أن يتحدث أولادها الستة إلى الشيف، توالى العجب العجاب، في سرعة وعادية. البوتاجاز الراقد في جانب الكادر اشتعل في لهب مروع. الأكلة خرجت من الفرن، متفحمة متضخمة، وهاجت في هيئة بين الإنسان والغوريلا، مبتلعة مساعد الشيف الدائم الصمت. الأولاد الستة ظهروا، مقتحمين المكان، عابثين بديكور المطبخ، ومفرقعين «بمب» بدا كالقنابل. أمهم هاجمت واحدا من عمال الاستوديو، دخل الكادر في محاولة للسيطرة على الأمر، لتدكه بلكمة من يدها، متحولا إلى عصفور دائخ. سقطت الجدران الملونة في الخلفية، لتتعرى جدران أقدم، شروخها نهش أظافر وحش مهول كيف لا يخاف منه أحد؟! كل ذلك، والكاميرات دائرة، والصور تتابع في آلية، والشيف يتصرف كأنما لم يحدث شيء، محافظا على إيقاعه الخفيف، ولغته المهزارة، بينما تأكدت عيناي - بعد فحص - أن الكلمة على مريلته تحولت من «القاضي» إلى «الفوضى». التفت إلى زوجتي الجالسة على الأريكة تشاهد حينا، وتقلب مجلة في يديها حينا آخر، واستشرتها بتراخ: «إيه رأيك؟!» فأشاحت بيدها في غير اكتراث، ثم عرضت أن أحول إلى قناة المسلسلات القديمة، مبدية اهتماما بتنحيتها المجلة جانبا.
ضيف غير مرغوب فيه
شقة واسعة، واااسعة، حجراتها عديدة. الأثاث غربي، فيه تجريد وحداثة مما يشي بغلو ثمنه. لكن سيطرت إضاءة صفراء على كل شيء؛ الجدران، والأرضيات، وربما الهواء. صادفت صديقي، راقدا على شيزلونج فاره، وهنأته بكل ذلك. لكنه لم يكترث كثيرا، مطلقا تركيزه في شاشة هاتفه المحمول. شدت انتباهي ملابسه الفاخرة. سامر لم يتعود ارتداء ملابس من سوق الكانتو، لكن هذا أفخم كثيرا من الملابس التي ألفته بها في المرحلة الثانوية، والجامعية، وما بعدها. قابلت بروده ببرود، وطفقت أتجول في الشقة. إن كل حجرة مفتوحة على حجرة أخرى تشبهها. لا توجد أبواب، وإنما قواطع جدارية غير عريضة. هناك صمت مستفز، ووحشة تكاد تنطحك. الأثاث الفاخر له تكوينات مثل قطط نائمة في شبع، أو سكران ملقى أرضا. أتمشى بلا توقف، مصادفا جمال، وهيثم، وأبو المجد. كانوا يتكلمون، أو يأكلون، ولا أحد يحييني أو يلتفت إلي أصلا. دخلت حجرات قادتني إلى حجرات، حتى كدت أتأكد أني في بيت جحا حديث! أين ذهب سامر؟ إني لم أقابله منذ 15 عاما. من يوم تقابلنا مصادفة في المترو بعد خصامنا، كي يؤكد هذا الخصام ولا يسعى لهدمه. ثم ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وما هذا المكان؟! أهو بيته؟ لا، إن بيته - هو وعائلته - كان في السيدة زينب، أمام المسجد. كم اجتمعنا هناك، وحولنا حجرته إلى سيرك، وسايبر، وسينما، ومسرح، ومقهى، وحديقة، وملاه، وحضانة أطفال أشقياء. في أحيان، كنت أجلس غريبا وسط أصدقائه، جمال وهيثم وأبو المجد، ربما لأني أتحدث بكلمات غليظة عليهم، أو أحكي ما لا يهتمون به. لكن سامر كان يحب هذا - عينه - في. كنا نلتقي في هذه الجدية. يشاهد الكل على الكومبيوتر الفيلم الذي لم ينزل مصر بعد، في سابقة تعد من المعجزات بنهاية التسعينيات، لكن أنا وهو فقط من يجلس بعدها لمناقشة إيجابيات وسلبيات العمل بموضوعية وهدوء. يبتعد الكل عن القراءة، لكن أنا وهو نتبادل المسرحيات، والروايات، ونتبادل آراءنا فيها لاحقا. حتى الأغاني، تبادلنا شرائطها للاستماع والاستمتاع والجدل. لن أنسى خبله حينما قدته إلى القسم الموسيقي في مكتبة مبارك العامة، ولقي هناك أشعار فريق الروك الأمريكي الذي يعتنقه. يااااه، في هذه اللحظة ، حقق حلما كان يراه من ضروب المستحيل. ولن أنسى كيف حين دعوته لحضور معرض فن تشكيلي بقصر الفنون، أن فتح لي - بجرأته المعهودة - بابا كنت دائما ما أظنه مغلقا، لأفاجأ بقاعة كبرى تمتلئ بلوحات باهرة. يومها كنت كمن فتحت أمامه مغارة علي بابا، وأتذكر مقولته لي: «إنت وشك احمر م المفاجأة.» انشقت المودة لما ذهبت لدراسة الفن بعد الجامعة، ثم انخرط هو في أعماله التجارية. أتذكر جيدا - كمن يتذكر جرحا قديما - ذهوله من شراسة السوق، وهمجية قوانينه. لما تردت لقاءاتنا إلى هاتفية، كنت أحدثه عن فيلم مجري قديم، كالشعر المرئي، لا حوار فيه، يستعرض الحب مع فصول السنة الأربعة. فيرد علي - كأنه لم يسمعني - بحكايات عن غريمه التجاري الألد، الذي يسرق مخازن منافسيه، أو يحرقها، والآخر الذي يلفق لهم فضائح جنسية، أو قضايا مخدرات. سامر كان بريئا، مثلي. لكنه مع الوقت لم يعد يجد نفسه في. كنت أذكره ببراءة يكرهها، ويسعى لنفيها، أو إعدامها. اختار أن يعبر طريقا يحوله لشخص آخر كي يحتمل كل هذه القذارة، ثم يتدرب عليها حتى يتعامل بها. الطريق إلى «الجانب المظلم» كما يقولون في أفلام حرب النجوم التي لم يستسغها. وكنت أنا المطب الذي يكسر الأعناق؛ مرة لشاعريتي العضال، ومرة لمثاليتي الثرثارة. بعد ذلك، لا شيء. عدم. ليل بلا قمر، أو نجوم، أو سماء. كل الأزهار الملونة بلعها خفاش هائل سرعان ما لف وجهي، وأسر عيني، ممتصا دمي. حدث فراق. هو أخطأ، كذلك أنا. لكنه - على عكسي - لم يعرف الاعتذار. العلاقة التي يكون احترام المشاعر فيها من طرف واحد، علاقة فاشلة، مقيتة. واستمرارها ذبح متواصل لذلك الطرف نفسه. شممت رائحة مقلب زبالة. ثم مع الأيام، تعملقت الزبالة لتصير وحشا ضاريا هب مكشرا عن أنيابه في زئير مرعب. لذلك رحلت. كان الأفضل لي ... وله أيضا. «له» لأن الملل قاتل. وفي عالم الملل القاتل، كنت رئيس الولايات المتحدة المملة، أكبر وأخطر قوة ضاربة. سامحني يا سامر. كان عندك حق تمل مني. حاولت الرجوع كي أستغل تواجدي معه ، ونتحادث مجددا، لكني فهمت أن انصرافه للموبايل في وجودي لم يكن مصادفة. كما أني تهت داخل منزله هذا. نفرت من وقفة بلا معنى، فمددت يدي من خارج الكادر، منتشلا نفسي من هذا الكابوس المتنكر كحلم عادي.
الجديد
هاتفت ابن أختها، وكان شابا أريبا، كي ينزل معها، ويشتري لها تليفزيونا. أوصته أن يحسن الاختيار، فقد باعت تليفزيونها القديم لزوجة صاحب محل الخردوات في الشارع المجاور لها، وهي لا تطيق العيش يوما دون جهاز العجائب الملون. وبعد بحث طويل، استدعى آلام كعبيها الغليظين من الراحة، وفتح ملفات هشاشة العظام المنسية، أشارت للفتى أن يشتري لها تليفزيونا ظهر أمامها فجأة. أحست الحاجة أن هذا الجهاز يناديها، ويبتسم لها. شعرت أنه ابن حلال مصفى، وسيخدمها بعينيه. أخبرها الفتى أن هذا التليفزيون ليس من عائلة عريقة، وأن ضمانه ليس بالثري. لكنها أصرت، منهية أي مناقشة بوجه خشبي معرض. دخل الجهاز إلى البيت بزغرودة أطاحت بأشباح فكرت في الاستقرار مكان الجهاز الأقدم. وبخرته الحاجة، كأنه عريس على وشك الفرحة الكبرى. طالعت صورته الصافية، وألوانه البراقة، فعلا صوتها مبتهجا: «يا ما شاء الله!» لم يكن مثل تليفزيونها القديم، أو أي تليفزيون شاهدته من قبل، سواء في بيت ابنتها، أو بيت ابنة خالتها؛ تلك التي تتفاخر بأموال زوجها تاجر العطارة، والتي تشك أن حقيقته ستنكشف كتاجر للمخدرات في نهاية المسلسل!
وبعد ثلاثة أيام بالضبط، اتصلت الحاجة بابن أختها. ألسنة لهب غضبها خرجت من هاتفه لتحرق جانبا من فوده. حاول تهدئة الموقف، لكن عصبية هائلة - لم يشهدها في خالته سابقا - تحكمت وحكمت. زارها مسرعا، وحاول الفهم. إنها تزعق، وتتهم، وأحيانا تكبت الدموع، بخصوص خدعة البائع لهما. أي خدعة؟ خدعة أن هذا التليفزيون قديم. فكر الشاب بعض الشيء، متذكرا أن الجهاز كان في صندوقه، وعليه اللصق الخاص به. والمحل له اسم، وسمعة، لن يطيح بهما. ومع ذلك، فحص الجهاز، مستغلا خبرته في مجال البيع والشراء، قبل الوظيفة الحكومية، فلم يجد أي اتساخ قديم في الخطوط الرفيعة المحفورة على الجوانب ، أو تآكل في الأطراف، أو حتى غبار في الدواخل. هذا تليفزيون جديد، ولا يدعي أنه جديد. فعلى أي أساس تقول الخالة ما تقول؟!
أجابته أنها وجدت في هذا الجهاز نفس مسلسلات الجهاز السابق، ونفس برامجه، ونفس كلامه، حتى الفيلم الذي تذيعه القناة الحكومية كل أسبوع، لا يزال يذاع في نفس القناة بهذا التليفزيون أيضا! المذيع ذو السحنة المقرفة، والصوت المخنث، والشتائم الأبيحة، مستمر على كرسيه، بشكله، وصوته، وسبابه! ثم كيف تجد الأفلام كما هي؟! في التليفزيون القديم، اعتادت مشاهدة ذلك الفيلم الذي ينتهي بنور الشريف عاجزا عن إنقاذ ورشة أبيه عماد حمدي، حتى يموت الأخير. لماذا تشاهد الفيلم في هذا الجهاز، وتجد نور الشريف يفشل مجددا، وأباه يموت ثانية؟ صاحت في الشاب حاسمة، كمايسترو يختم مقطوعة أوركسترالية هائجة، أنه لا بد من إرجاع هذا التليفزيون فورا!
بعد خناقات متنوعة مع صاحب المحل وصبيانه، حاول الشاب عبرها إيجاد أي قطط فطسانة في الجهاز، نجح في استبداله بآخر أغلى، مع دفع الفرق. وبعد ليلة واحدة، عادت ألسنة اللهب لتنطلق من موبايله. لم تجد أمه بدا من زيارة أختها المتذمرة، حيث نصحتها بعدة نصائح. فكل التليفزيونات واحدة، تحب الاهتمام والمدادية؛ لذلك لا بد أن تضعه في غرفة دافئة، بعيدا عن هذه الصالة الباردة. وتبعده عن الشبابيك، فالعيون تفلق الحجر، وما لا يؤذيك، سيعكنن عليك. وتهديه مفرش كروشيه ظريفا يكلل رأسه. ولا مانع من كلمة طيبة، ولمسة حنان، وكل شيء ح يبقى تمام!
نفذت الحاجة تعليمات أختها، لكن بقي الحال على ما هو عليه، راصدة أن ذلك الضيف الذي يتكلم في برامج المساء بحديث غير مفهوم، لا يزال يخرف بلا أدنى تغيير. وأن الحكومة، الله ... يصلح حالها، كما هي من التليفزيون السابق، ترفع أسعار السلع، حتى بقي أن ترفع سعر الهواء، وركعة الصلاة، وساعة النوم.
صفحه نامشخص