صدای اعماق: خوانشها و مطالعات در فلسفه و روان
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
ژانرها
ويغريها بالتنازل عن هذه الحرية العبء، ويدفعها إلى التواطؤ الأخرس مع القلة المستبدة: «احمل عني هذا العبء وخذ ما شئت.» لقد طال عهد معظم المجتمعات البشرية بالقهر حتى انسلخ عنها «موقع الضبط »
locus of control
وصارت تؤمن بأن مصائرها تتقرر من خارجها وأن القيادة أمر يفرض من فوق. ونما هذا الاعتقاد منذ فجر التاريخ. وحتى بعد أن توطدت الأنظمة السياسية الديمقراطية، اسميا، فقد استمرت معتقدات ونظرات إلى الحياة والعمل نشأت عندما كان البشر يقادون من الخارج ويخضعون لقوى تعسفية بقيت قائمة في الأسرة والكنيسة وإدارات العمل والمدرسة. وأثبتت التجربة أنه ما دامت هذه المعتقدات باقية فإن الديمقراطية لن تكون راسخة القدم أبدا. (1-3) الديمقراطية لا تتجزأ
إن العجز عن حمل المسئولية يتفاقم ويستفحل حين تنكر هذه المسئولية وتحجب. وما من مستبد في التاريخ إلا كان يبرر أسلوبه بعدم صلاحية رعاياه للمشاركة في الحكم. ثمة حلقة استبدادية خبيثة تبدأ بإنكار القدرة على المشاركة في الرأي وتمر بالاستلاب وتنتهي بعجز حقيقي عن المشاركة. وإن كسر هذه الحلقة الخبيثة لا يتم إلا بالممارسة. وحجة الديمقراطية هنا هي أن أفضل وسيلة لتوليد قوة بناءة وإحياء القدرة على المبادرة هي الممارسة؛ فالقدرة والصلاحية لا يجيئان إلا بفضل الاعتياد والتمرس. يقول جون ديوي: «في أي مكان تعرضت فيه الديمقراطية للسقوط، كان مرد ذلك إلى مؤثرين من خارج نطاق السياسة؛ أي لأن الديمقراطية لم تجر في دماء الشعب وتمتزج بكيانه، ولم يكن لها دور في سلوك حياته اليومية، واقتصرت مظاهرها على البرلمان أو الانتخابات والمعارك الدائرة بين الأحزاب. وأثبت ذلك بالقطع أنه ما لم تصبح العادات الديمقراطية في الفكر والعمل جزءا من كيان الشعب، فإن الديمقراطية السياسية لن تكون بمأمن؛ فهي لن تكون قادرة على الصمود في فراغ، بل يجب أن تستند على وجود الأساليب الديمقراطية في جميع العلاقات الاجتماعية. ولا تقل العلاقات القائمة في الأنظمة التعليمية أهمية في هذا الشأن عن العلاقات القائمة في الصناعة والأعمال الإدارية. ولعلها مكافئة لها.»
2 (2) تشارلس فرانكل
ربما لذلك يحس المرء أن الريح خفت عندما يسافر من مجتمعات متسلطة إلى مجتمعات حرة.
تشارلس فرانكل
يعد شارلس فرانكل (1917-1980م) واحدا من أولئك الأئمة الثقات في فقه الديمقراطية. وقد قام بتدريس الفلسفة بجامعة كولومبيا ، وكان من المؤثرين الكبار داخل حلقة البراجماتية الليبرالية بالولايات المتحدة في مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية والفكر التربوي.
يتساءل فرانكل: لماذا الديمقراطية؟ لماذا نختار الديمقراطية من بين غيرها من النظم السياسية الممكنة؟ ويطلق العنان لتأملاته التي تضع اليد على الجواب الصحيح؛ لأنها وضعتها على السؤال الصحيح؛ السؤال الذي يلمس مواضع الغموض ويمسك بجمع المشكلة. يقول فرانكل: لقد تعرضنا في هذا القرن (العشرين) للتجريدات الأيديولوجية والسياسية بدرجة مفرطة، ورأينا مدى استعداد الناس لأن تضحي في سبيل اليقين الأيديولوجي. وليس من المستغرب أن يكون أصحاب الوعي المرهف قد تكون لديهم شيء قريب من أيديولوجية الارتياب، وأنهم لا بد أن ينظروا بعين الشك والسخط إلى جميع المسائل المتعلقة بتبرير الأنظمة السياسية؛ لماذا نختار الديمقراطية؟! وهل بوسعنا - وقد تثقفنا في مدرسة واقعية صارمة علمتنا ما هي مخاطر الاعتقاد - سوى أن نقول إن التعصب شيء مقيت وإننا يجب أن نختار الديمقراطية لأنها لا تدعونا إلى الاعتقاد إلا في أقل القليل؟
بل هي تدعونا إلى الكثير من الاعتقاد! وإنني لا أظن أن بإمكاننا أن نثبت أن الحقيقة الداخلية عن العالم أو عن التاريخ الإنساني أو النفس البشرية تحملنا على أن نتبنى مثلا ديمقراطية. فاختيار مثال سياسي هو أمر مختلف عن عملية إثبات صدق مبرهنة من المبرهنات في نسق هندسي ما. وإن أولئك الذين يظنون أن الديمقراطية تحتاج إلى هذا النوع من التبرير إنما يثيرون حولها الشكوك بشكل غير مباشر. فعلى الرغم من التضخم السيمانتي (الدلالي) الذي يعاني منه النقاش الراهن حول المثل السياسية، فإن الأسباب التي تدعونا إلى اختيار الديمقراطية ليست غامضة ولا صعبة، غير أنها أسباب مقلقة تهيب بمعتنقيها أن يراهنوا رهانا كبيرا على قدرتهم على العيش وفق ما وقع عليه اختيارهم. (2-1) أهمية المنهج السياسي الديمقراطي
صفحه نامشخص