حاول أسطول نابليون في ذلك العهد الالتجاء بهذا الخليج، وباغته الأميرال الإنجليزي «نلسون» بأسطوله حيث دمر معظم سفن الفرنسيين، وأغرق البقية في أعماق البحر.
لم تستغرق المعركة أكثر من ثلاث ساعات، ومع ذلك فقد كانت رهيبة دمر في خلالها معظم الأسطول الفرنسي، وما سلم منه لم ينج من العطب، وإن الناظر في الخليج وقت هدوء البحر ليمكنه أن يرى تلك السفن التي تقوم بالملايين وهي في قاعه. وقد حاول كثير من كبار الماليين تخليص تلك الثروة الطائلة من قبضة البحر في أزمنة مختلفة إلا أن مساعيهم ذهبت أدراج الريح، وظلت تلك السفن في مرقدها الهادئ حتى يومنا هذا.
وفي النهاية وصلت قوارب الصيد النابولية إلى الساحل، فرأيت أصحابها منهمكين في طي الأشرعة وهم ينشدون الأهازيج والأغاني. وبينما كنت أرى أشكال قبعاتهم المنعكسة في البحر بألوانها المختلفة كانت الشمس أتمت غروبها وغاص قرصها الذهبي في لجة الخليج ناشرا في أرجاء المكان ضوءا قرمزيا.
وفي ذلك الوقت، أي في الوقت الذي بدأت فيه الأنوار على سطح البحر تخبو والأضواء التي في السماء تتضاءل والرسوم والأشكال التي تكونت في السحب تضمحل، نزلت من المكان الذي كنت فيه وقفلت إلى مسكني راجعة على مهل، طامسة بأقدامي طنافس الرمال الناعمة التي فرشتها يد الطبيعة لتزين شاطئ البحر.
وكان الهواء إذ ذاك محاطا بسنار رقيق، شفافته تكسب المناظر نوعا من الإبهام والغموض.
هنا وهناك لمحت بعض نماذج من المساكن الأولية لبني الإنسان، أو بالحري خياما نصبها البدو في ذلك القفر، نظرت إلى تلك الخيام فإذا بأضواء الأسرجة تشع من خلالها، وإذا بأصحابها منهمكين بإحضار طعام المساء. كان فريق من هؤلاء البدو قافلين نحو خيامهم وهم يسوقون الإبل أمامهم، وفريق آخر كان جالسا أمام خيمته بتلك الكيفية الخاصة بالبدو، بينما البعض متمدد على الرمال مسترسل في بحار الخيال والتأمل، والبعض في عزلة عن رفاقه يترنم بالأناشيد الشجية، وفي ناحية من هؤلاء كنت ترى لفيفا منهم يتناول الطعام مع عائلته، وفريقا آخر يتنادمون حلقات حلقات مع الأصحاب والخلان.
كنت أرى على وجوههم آثار السرور، وألمح في خيامهم أمارات الأنس والبشر، وفي قلوبهم علامات البساطة وراحة النفس. وبالإجمال كانت تلك البقعة صحراء خالية تملصت من قيود الضجيج ولجب المدينة. فمن منا يحكم بعد ذلك بفقدان السعادة من هذا الوجود، وهو يرى مثل هذا المنظر الرائع، منظر السرور والنشاط في مثل هذه الصحراء البعيدة عن أنوار مدنية العالم العائشين فيه؟ إن الاشتراك بالفكر والحس في حياة القناعة والسذاجة التي يقضيها هؤلاء البدو الناعمو البال لمما يبعث الطمأنينة والهدوء إلى قرارة النفوس. أفلا تشعر معي أيها القارئ أن من يعيش بعيدا عن مدنيتنا الحاضرة يستيقظ في عالم الهدوء والإيناس، حيث يرى نفسه محفوفا براحة الضمير والسرور المعنوي؟
عندما رجعت إلى مقر سكني كانت الكائنات قد استرسلت في سكونها العميق واختفت عن أنظار الحس تحت ستار الخفاء.
وكنت أسمع أغاني المساء المعنوية تتماوج في الفضاء وهي تدعو «الكائنات الحية» إلى النوم والراحة.
أما سراي المعمورة، إحدى المعجزات التي تمت على يد الفن، فكانت نجومها الكهربائية تسطع بالبهجة والإشراق.
صفحه نامشخص