ـ[الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي]ـ
المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: ٧٤٤هـ)
تحقيق: عقيل بن محمد بن زيد المقطري اليماني
قدم له: فضيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي ﵀.
الناشر: مؤسسة الريان، بيروت - لبنان.
الطبعة: الأولى، ١٤٢٤هـ / ٢٠٠٣م
عدد الأجزاء: ١
[الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
صفحه نامشخص
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد فيقول الله ﷾: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. ويقول ﷾: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هما الكفيلان بزحزحة الباطل والقضاء عليه إذا وجد لهما من يبلغهما كما أتيا عن الله وعن رسوله ﷺ.
طالما نصحت إخواني في الله باقتناء الصارم المنكى في الرد على السبكي منذ وقع في يدي وأنا طالب بمعهد الحرم بمكة ذلك لأنه كتاب قمع الله به أصحاب الباطل المبتدعة. فالمبتدعة من عصر السبكي إلى زمننا هذا وهو يفترقون من كتاب السبكي الذي جمع فيه بين نصر البدعة ومهاجمة السنة والصد عنها مع تجلد عجيب وقد كنا نقرأ في الصارم المنكي ونحن بدماج فأتعجب من جرأة السبكي ومن سعة اطلاعه ومن تلبيسه على القارئ فأقول: هذا كلام عالم فلا يسعني إلا الاعتراف بأنه عالم ولكنه ضل عن سواء السبيل وحمله الشيطان على نصرة الباطل فقيض الله لأباطيله ولتلبيساته ابن عبد الهادي ﵀ بنسفها نسفًا.
وأني أنصح من يريد أن يرد على دعاة الضلال في زمننا هذا كمحمد بن علوي مالكي وأشياعه أن يكون أول مرجع لهم هو الصارم المنكي في الرد على السبكي.
إن الصارم المنكى ليس كتابًا يرد على المبتدعة فحسب ولكنه أيضًا كتاب جرح وتعديل وتصحيح وتضعيف فيه فوائد تشد لها الرحال، ومما أذكره الآن أحاديث زيارة قبر الرسول ﷺ، فقد بين ضعفها مما لا تجده في كتاب فيما أعلم.
1 / 5
وهكذا هل رواية من لا يروى إلا عن ثقة تعتبر توثيقًا لمن روى عنه لا أتعجل بالإجابة فهي موجودة في الكتاب مستوفاة.
وهكذا توثيق ابن حبان للمجهولين.
وهكذا تساهل الحاكم.
وإن صاحبي الصحيح قد يرويان البعض من فهم كلام عن أناس مخصوصين وعلى كل فالكتاب يعتبر مرجعًا للباحثين ونشره في هذه الأيام من الأمور المهمة لحيث إنه قد قصر باع العلماء المعاصرين عن استيعاب الأدلة وأيضًا قد كثر الأعداء كما قيل:
تكاثرت الضباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وإني أنصح الأخوة الباحثين أن يحرصوا على إخراج مثل هذه الكتب فهي تقمع المبتدعة المعاصرين وتوفر على الأخ وقتًا يصرفه فيما هو أهم.
فجزى الله أخانا في الله عقيلًا خيرًا على ما قام به من الخدمة لهذا الكتاب العظيم وأسال الله أن يوفقه لمواصلة المسير في خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يعيذنا وإياه من فتنة المحيا والممات إنه على كل شيء قدير.
أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي
1 / 6
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن كتاب (الصارم المنكي في الرد على السبكي) للحافظ ابن عبد الهادي ﵀ من أحسن الكتب التي ترد على المبتدعين من القبوريين وغيرهم الغلاة في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهو مع هذا كتاب تصحيح وتضعيف وجرح وتعديل وبيان علل لأحاديث كثيرة، ولقد عهد إلى شيخي الجليل فضيلة العلامة أبو عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى بتحقيق هذا الكتاب فلبيت طلبه نظرًا لأهمية الكتاب ولاحتياجه إلى تحقيق وتوثيق وعزو الأحاديث إلى مخرجيها.
ونظرًا لأنه لا توجد في الأسواق سوى نسخة شعبية تحتوي على كثير من التحريف والسقط إلا أنني بفضل الله تعالى حاولت أن أعيد النصوص الساقطة إلى مواضعها وأصلحت ما حصل من تحريف في النصوص وذلك بالاستعانة بالكتب التي استقى منها الحافظ ابن عبد الهادي مثل كتاب السبكي وكتب ابن تيمية كالجواب الباهر واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها وأخيرًا حصلت على النسخة التي حقق نصوصها فضيلة الشيخ / إسماعيل الأنصاري ﵀ فاستفدت منها أيضًا ولله الحمد والمنة وذلك لأنه قابل الكتاب على بعض المخطوطات.
هذا وقد جعلت النصوص التي كانت ساقطة بين قوسين هكذا () وذلك ليتضح الجهد الذي قمت به
1 / 7
وأسال الله ﷿ أن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
عقيل بن محمد بن زيد المقطري أبو عبد الرحمن السلفي
1 / 8
ترجمة مختصرة للحافظ ابن عبد الهادي
اسمه:
هو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة.
ميلاده:
ولد سنة خمس وسبعمائة.
مشايخه:
من جملة مشايخه:
١) شيخ الإسلام ابن تيمية.
٢) الحافظ أبو الحجاج المزي.
٣) القاضي تقي الدين سليمان.
٤) أبو بكر بن عبد الدائم.
٥) الحافظ الذهبي.
٦) عيسى المطغم.
٧) ابن مسلم. وغيرهم.
ثناء أهل العلم عليه:
١) الحافظ المزي:
قال: (ما التقيت به - يعني: ابن عبد الهادي - إلا استفدت منه) .
٢) الحافظ ابن كثير:
قال: (.. الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلوم) .
1 / 9
وقال: (حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار وتفنن في الحديث والتعريف والفقه والتفسير والأصليين والتاريخ والقراءات وله مجامع وتعاليق مفيدة وكثيرة وكان حافظًا جيدًا لأسماء الرجال وطرق الحديث وعارفًا بالجرح والتعديل وبصيرًا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن مستقيمًا على طريقة السلف وأتباع الكتاب والسنة مثابرًا على فعل الخيرات) أهـ الرد.
٣) الحافظ ابن رجب:
قال فيه: (المقرئ الفقيه المحدث الحافظ الناقد النحوي المتقن.. درس الحديث وكتبه بخطه الحسن المتقن الكثير) .
٤) الحافظ أبو المحاسن:
قال في ذيل تذكرة الحفاظ (الإمام العلامة شمس الدين.. اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وصنف وتصدر للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصلين والنحو واللغة وولي مشيخة الحديث بالضيائية والغيائية ودرس بالمدرسة المنصورية وغيرها وسمع منه طائفة وروى شيخنا الذهبي عن المزي عن السروجي عنه)
٥) الإمام الذهبي:
قال: (سمعت من الإمام الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي.. إلى أن قال: اعتنى بالرجال والعلل وبرع وجمع وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو وله توسع في العلوم وذهن سيال.
٦) الحافظ ابن حجر:
قال فيه: (مهر في الحديث والأصول والعربية وغيرها) .
٧) الإمام السيوطي:
قال فيه: (الإمام الأوحد المحدث الحافظ الحاذق الفقيه الورع المقرئ النحوي اللغوي ذو الفنون شمس الدين أحد الأذكياء مهر في الفقه والأصول والعربية) .
٨) الصفدي:
قال: (لوعاش كان آية، كنت إذا لقيته سألته عن مسال أدبية وفوائد عربية فيتحذر كالسيل وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال ويرد عليه فيقبل منه) .
1 / 10
مصنفاته:
وأما مصنفاته فكثيرة جدًا تزيد عن خمسين مؤلفًا من أشهرها:
١) الصارم المنكي في الرد على السبكي.
٢) المحرر في الأحكام.
٣) ترجمته ابن تيمية (العقود الدرية) .
وفاته:
توفي ﵀ في يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
مصادر ترجمته:
البداية والنهاية، ذيل طبقات الحنابلة، الدرر الكامنة، البدر الطالع، تذكرة الحفاظ، طبقات الحفاظ.
وكتب
أبو عبد الرحمن السلفي عقيل
بن محمد بن زيد المقطري اليماني
1 / 11
مقدمه المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي بنت عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامه المقدسي الحنبلي ﵀ ورضي عنه، وأثابه الجنة بفضل رحمته وإيانا وسائر المسلمين أمين إنه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله الذي يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات ورب الأرضين ورب العرش العظيم وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات والذكر الحكيم، الذي حكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه من الزمان القديم، الذي يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط المستقيم، ﵌ أفضل صلاة وأفضل تسليم.
أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرج على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، وذكر أنه كان قد سماه شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم زعم أنه اختار أن يسميه شفاء السقام في زيارة خير الأنام فوجدت كتابه مشتملًا على تصحيح الأحاديث المضعفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلًا مماريًا معجبًا برأيه متبعًا لهواه ذاهبًا في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، صائرًا في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وهو من الجملة لون عجيب وبناء غريب تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك
1 / 13
المجتهدين فيكون مخطئًا في ذلك الاجتهاد ومرة يزعم فيما يقول ويدعيه أنه من جملة المقلدين،فيكون من قلده مخطئًا في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد.
هذا ما أنه إن ذكر حديثًا مرفوعًا أو أثر موقوفًا وهو غير ثابت قبله إذا كان موافقًا لهواه، وإن كان ثابتًا رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفًا لهواه، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام كمالك وغيره وما يوافق رأيه قبله، وإن كان مطعونًا فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله وإن كان صحيحًا ثابتًا عنه، وإن حكى شيئًا مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وأبي حاتم بن حبان البستي، وأبي جعفر العقيلي وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ، وكان مخالفًا لما ذهب إليه، لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه.
وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه، وإن كان موافقًا لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك القول ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان واتباع الهوى.
هذا مع أن حملة إعجابه برأيه، وغلبة اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء وأخلاقهم وتحقيق معرفة الأحكام حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم، عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك هو مما غلط فيه الشيخ أبي محمد، وإن ذلك وقع منه على سبيل الهوى والغفلة، قال: ولو قاله هو - يعني الشيخ أبا محمد أو غيره - ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث.
فالنظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، وأجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم والإفك المبني والكذب الصراح، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبل النبي ﷺ وقبور سائر الأنبياء ﵈ معصية بالإجماع مقطوعًا بها، هكذا ذكر هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى لم يقله
1 / 14
قط، ولا يوجد شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ وأنه لم يقله قط، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات ٦) .
وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور بما لا أحب حكايته عنه في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى، لا يرتاب في ذلك ولكنه يطفف، ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه.
ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين.
وقد زعم هذا المعترض أيضًا مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالتصديق، والتصديق بالكذب أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ، مختلفة موضوعة وضعها بعض الشياطين، هكذا زعم مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبره وذاع واشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء.
وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها، فانظري إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علمًا، وجراءته على إنكار ما اشتهر وتواتر وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمرًا مقطوعًا بكذبة إلى من لم يقله، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين هذه عثرة لا تقال، وله مثلها كثيرًا، ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور ٤٠) .
فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على بعض ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيرًا مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال
1 / 15
الخطاب ولبلغ الجواب مجلدات ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان.
وقد أطال مؤلف هذا الكتاب فيه بذكر الأسانيد وتكرارها منه إلى مؤلفي الكتب كالطبراني والدارقطني وغيرهما، وحشد فيه بتعداد الطرق إليهم والرواية بالإجازات المركب بعضها على بعض والرفع في أنساب خلق من المتأخرين، وذكر طباق السماع وأسماء السامعين ونحو ذلك مما يكبر به حجم الكتاب، وليس إلى ذكره كبير حاجة مع اختصاره ذكر الأسانيد وحذفها في أماكن لا يليق حذفها فيها، هذا مع سرده كلام الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ونقل عنهم من مناسكهم وغير مناسكهم استحباب زيارة قبل النبي ﷺ وزعمه أن الشيخ يخالفهم فيما قالواه، مع العلم بأنه موافق لهم فيما نقل عنهم لا مخالف لهم، وإنما مقصود هذا المعترض تكثير الكلام، وجمع ما أمكن ليعظم حجم الكتاب.
ثم أنه عقد بابًا للكلام في التوسل والاستغاثة وزعم أن الشيخ قال في ذلك قولًا لم يقله عالم قبله، وصار به بين أهل الإسلام مثله، ثم أخذ يخبر عنه بما لا استحسن ذكره في هذا الموضع.
والحاصل: أنه وقع في كلامه من التناقض وسوء الأدب والاحتجاج بما لا يصلح أن يكون حجة ما سننبه على بعضه إن شاء الله تعالى.
ثم عقد لحياة الأنبياء في قبورهم بابًا؛ وسرد الأحاديث المروية في ذلك من الجزء الذي جمعه البيهقي ومن غيره، ووقع في كلامه من التأويلات البعيدة والاحتمالات المرجوحة، ما يحتاج إلى نظر كثير.
ثم ذكر الأحاديث الواردة في سماع الموتى وكلامهم وإدراكهم وعود الروح إلى البدن وما يتبع ذلك ثم أشار إلى اختلاف المتكلمين وغيرهم في ماهية الروح وحقيقتها وتكلم في ذلك بكلام لا تحقيق فيه ولا حاجة إليه.
ثم ذكر أحاديث الشافعية وأنواعها وما ورد في بعض أحوال يوم القيامة وذكر جملة من كلام القاضي عياض فيما يتعلق بشرح ذلك.
ثم ختم الكتاب بجمع الألفاظ الواردة في كيفية الصلاة على النبي ﷺ، وكان قد ذكر قبل ذلك بعدة أوراق كلامًا يشير فيه إلى التشنيع على شيخ الإسلام وهو قوله:
"لا
1 / 16
شك أن من قال: لا يزار، أولا يسافر لزيارته أولا يستغاث به بعيد عن الأدب معه نسأل الله العافية ".
وليعلم: قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام ﵀ لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرها بل استحبها، وحض عليها. ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي ﷺ وسائر القبور.
قال [شيخ الإسلام] رحمه الله تعالى في بعض مناسكه:
باب زيارة قبل النبي ﷺ
إذا أشرف على مدينة النبي ﷺ قبل الحج، أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل (١)، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجه اليمنى (٢)، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك (٣)، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبل النبي ﷺ فيستقبل جدار القبر ولا يمسه، ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبة عند القبر على رأسه فيكون قائمًا وجاه النبي ﷺ، ويقف متباعدًا كما يقف ل ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس (٤)، غائض الطرف، مستحضرًا بقلبه جلالة موقفه ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيًا ورسولًا عن أمته، اللهم أته الوسيلة والفضيلة وابعثه الله مقامًا محمودًا الذي وعدته بغبطة به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
_________
(١) هذا دليل عليه فيما أعلم.
(٢) الحديث الذي جاء نصًا في هذه المسألة ضعيف وقد بينت سبب ضعفه في رسالتي (اتحاف الراكع الساجد بأذكار الدخول والخروج من المساجد) ولكن يستدل بحديث عائشة: (كان يعجبه التيامن في شأنه كله) وهو عام.
(٣) راجع رسالتنا السالفة الذكر.
(٤) بل يكون في حالة طبيعية مع استشعار مكانة النبي ﵊ فما كان جميع الصحابة يدخلون منكسي الرؤوس.
1 / 17
كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه وأسقنا بكأسه مشربًا رويًا لا نظمأ بعده أبدًا (١) .
ثم يأتي أبا بكر وعمر ﵄ فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله ﷺ وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيرًا، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (٢) .
قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن.
هذا كلام الشيخ ﵀ بحروفه، وكذلك سائر كتبه ذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي ﷺ وسائر القبور، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع، ولا ذكر في ذلك خلافًا إلا نقلًا عن غريبًا ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين.
وإنما تكلم عن مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين.
أحدهما: القول بإباحة ذلك كما يقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد.
والثاني: إنه منهي عنه كما نقص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلاف، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد.
وهكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي (٣)، والسفر إلى زيارة القبور مسألة، وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة جعلها مسألة واحدة وحكم عليهما بحكم واحد وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما وبالغ في التغيير عنه فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق.
واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث
_________
(١) وهذا الذكر الذي أتى به هنا ليس بملزم بل له أن يأتي بغيره.
(٢) وهذا أيضًا ليس بملزم.
(٣) يعني أنه هذا مشروعه.
1 / 18
المشهور المتفق على صحته من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» (١)، هكذا خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما بصيغة الخبر لا تشد الرحال، ومعنى الخبر في هذا معنى النهي، يبين ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» (٢)، هكذا رواه مسلم بصيغة النهي، ورواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده (٣)، بصيغة الحصر: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس» .
وقد روي عبد الله بن عمر ﵄ هذا الحديث أيضًا عن النبي ﷺ بصيغة الني: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس» .
هذا هو الذي فعل الشيخ: حكى الخلاف في مسألة بين العلماء واحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته، فأي عتب عليه في ذلك؟ ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى، والله سبحانه المسئول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح والقول الجميل؛ فإنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وينفعنا وسائر المسلمين بما يستعملنا به من الأقوال والأفعال، ويجعله موافقًا لشرعته خالصًا لوجهه موصلًا إلى أفضل حال، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وهذا حين الشروع في مناقشة هذا المعترض على شيخ الإسلام وبالله التوفيق قال في أول كتابه الذي جمعه:
الحمد لله من علينا برسوله، وهدانا إلى سواء سبيله، وأمرنا بتعظيمه وتكريمه
_________
(١) حديث أبي هريرة: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) البخاري ٣/٦٣ الفتح، ومسلم متن ٢/٩٧٥-٩٧٦، من حديث أبي سعيد و٢/١٠١٤ من حديث ابي هريرة
(٢) حديث أبي سعيد الخدري (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) مسلم ٢/٩٧٦ متن.
(٣) مسند إسحاق بن راهويه يوجد منه جزء وبقيته مفقود من زمن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى والقسم الموجود منه رأيته عند شيخنا حسن بن حيدر حفظه الله تعالى.
1 / 19
وتبجيله، وفرض على كل مؤمن أن يكون أحب إليه من نفسه وأبويه وخليله، وجعل اتباعه سببًا لمحبة الله وتفضيله، ونصب طاعته عاصمة من كيد الشيطان وتضليله، ويغني عن جملة القول وتفصيله،رفع ذكره وأثنى عليه في محكم الكتاب وتنزيله ﷺ صلاة دائمة بدوام طلوع النجم وأفوله.
أما بعد: فهذا كتاب سميته: شفاء السقام في زيارة خير الأنام ورتبته على عشرة أبواب:
الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة.
الثاني: في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ الزيارة.
الثالث: فيما ورد في السفر إليها.
الرابع: في نصوص العلماء على استحبابها.
الخامس: في تقرير كونها قربة.
السادس: في كون السفر إليها قربة.
السابع: في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته.
الثامن: في التوسل والاستغاثة.
التاسع: في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
العاشر: في الشفاعة لتعلقها بقوله من زار قبري وجبت له شفاعتي، وضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة، وأن السفر إليها بدعة غير مشروعة؛ وهذه المقالة أظهر فسادًا من أن يرد العلماء عليها، ولكن جعلت هذا الكتاب مستقلًا في الزيارة وما يتعلق بها مشتملًا من ذلك على جملة يعز جمعها على طالبها؛ وكنت سميت هذا الكتاب شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة ثم اخترت التسمية المتقدمة واستعنت بالله تعالى وتوكلت عليه ثم قال:
الباب الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصًا
الحديث الأول: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه الدارقطني، والبيهقي وغيرهما (١)، ثم ذكر من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر.
_________
(١) انظر سنن الدارقطني ٢/٢٧٨.
1 / 20
وفي رواية عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» ثم زعم أن أقل درجات هذا الحديث أن يكون حسنًا إن توزع في دعوى صحته؛ وذكر أن الراجح كونه من رواية عبيد الله المصفر الثقة لا من رواية عبد الله المكبر المضعف، وقال في أثناء كلامه: يحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعًا ويكون موسى سمعه منهما فتارة حدث به عن هذا وتارة حدث به عن هذا، قال في آخر كلامه: وبهذا بل بأقل منه يتبين افتراء من ادعى أن جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة؛ فسبحان الله أما استحي من الله ومن رسوله ﷺ في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل، لا من أهل الحديث، ولا من غيرهم ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديث هذا بالوضع، ولا اتهمه به فيما علمنا فكيف يستجير مسلم أن يطلق على كل الأحاديث التي هو واحد منها أنها موضوعة ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدثين للحكم بالوضع،ولا حكم متنه مما يخالف الشريعة، فمن أي وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفًا فكيف وهو حسن، أو صحيح.
هذا كله كلام المعترض، وهو متضمن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم.
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي ابتدأ المعترض بذكره وزعم أنه حديث حسن أو صحيح هو أمثل حديث ذكره في هذا الباب، وهو مع هذا حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله عند الاحتجاج إلا الضعفاء في هذا العلم، وقد بين أئمة هذا العلم والراسخون فيه والمعتمد على كلامهم والمرجوع إلى أقوالهم ضعف هذا الخبر ونكارته كما سنذكر بعض ما بلغنا عنهم في ذل إن شاء الله تعالى.
وجميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم إنها بضعة عشر حديثًا ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية، وقد بلغ الضعف ببعضها إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع، كما أشار إليه شيخ الإسلام.
ولو فرض أن هذا الحديث المذكور صحيح ثابت لم يكن فيه دليل على مقصود هذا المعترض، ولا حجة على مراده كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فكيف وهو حديث منكر ضعيف الإسناد واهي الطريق، لا يصلح الاحتجاج بمثله، ولم يصححه أحد من
1 / 21
الحفاظ المشهورين ولا اعتمد عليه أحد من الأئمة المحققين، بل إنما رواه مثل الدارقطني الذي يجمع في كتابه غرائب السنن، ويكثر فيه من رواية الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة وبين علة الحديث وسبب ضعفه وإنكاره في بعض المواضع أو رواه مثل أبي جعفر العقيلي،وأبي أحمد بن عدي في كتابهما في الضعفاء مع بينهما لضعفه ونكارته، أو مثل البيهقي مع بيانه أيضًا لإنكاره.
قال البيهقي في كتاب شعب الإيمان: أخبرنا أبو سعيد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا محمد بن موسى الحلواني، حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا موسى بن هلال عن عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ «من زار قبري وجبت له شفاعتي» قال البيهقي:وقيل عن موسى بن هلال العبدي عن عبد الله بن عمر، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن زنجويه القشيري، حدثنا عبيد بن محمد بن القاسم بنأبي مريم الوراق وكان نيسابوري الأصل سكن بغداد، حدثنا موسى بن هلال العبدي فذكره، قال البيهقي، وسواء قال عبيد الله، وعبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره.
وهكذا ذكر الإمام الحافظ البيهقي أن هذا الحديث منكر عن نافع عن ابن عمر سواء قال فيه موسى بن هلال عن عبيد الله أو عن عبد الله، والصحيح أنه عن عبد الله المكبر، كما ذكره أبو أحمد بنعدي وغيره.
وهذا الذي قاله البيهقي في هذا الحديث به عليه قوله صحيح بين وحكم جلي واضح ولا شك فيه من له أدنى اشتغال بهذا الفن، ولا يرده إلا رجل جاهل بهذا العلم وكذلك أن تفرد مثل هذا العبدي المجهور الحال الذي لم يشتهر من أمره ما يوجب قبول أحاديثه وخبره عن عبد الله بن عمر العمري المشهور بسوء الحفظ وشدة الغفلة عن نافع عن ابن عمر بهذا الخبر من بين سائر أصحاب نافع الحفاظ الثقات الأثبات مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وصالح بن كيسان وإسماعيل بن أمية القرشي، وابن جريح والأوزاعي، وموسى بن عقبة وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، والليث بن سعد وغيرهم من العالمين بحديثه الضابطين لرواياته المعتنين بأخباره الملازمين له، من أقوى الحجج وأبين الأدلة وأوضح البراهين على ضعف ما تفرد به وإنكاره ورده وعدم قبوله، وهل يشك في هذا من شم رائحة الحديث أو كان عنده أدنى بصر به.
1 / 22
هذا مع أن أعرف الناس بهذا الشأن في زمنه وأثبتهم في نافع وأعملهم بأخباره وأضبطهم لحديثه وأشدهم اعتناء بما رواه، مالك بن أنس إمام دار الهجرة قد نص على كراهية قول القائل زرت قبل النبي ﷺ، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عنده أو مشروعًا أو مأثورًا عن النبي ﷺ لم يكرهه، ولو كان هذا الحديث المذكور من أحاديث نافع التي رواها عن ابن عمر لم يخف على مالك الذي هو أعرف الناس بحديث نافع، ولرواه عن مالك بعض أصحابه الثقات، فلما لم يروه عنه ثقة يحتج به ويعتمد عليه علم أنه ليس من حديثه، وأنه لا أصل له، بل هو مما أدخل بعض الضعفاء المغفلين في طريقه فرواه وحدث به.
وقد قال الحافظ أبو جعفر محمد بن عمر العقيلي في كتاب الضعفاء: موسى بن هلال البصري سكن الكوفة عن عبيد الله بن عمر. لا يصح حديثه ولا يتابع عليه.
حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا جعفر بن محمد البزوري حدثنا موسى بن هلال البصري عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» قال أبو جعفر العقيلي والرواية في هذا الباب فيها لين (١) .
هذا جميع ما ذكره العقيلي في كتابه، وقد حكم على الحديث المذكور بعدم الصحة، وإن رواية لم يتابع عليه، ولكن قال في روايته عن عبيد الله بالتصغير، والصحيح عن عبد الله بالتكبير.
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي في كتاب الكامل في معرفة ضعفاء المحدثين وعلل الأحاديث: موسى بن هلال ثم ذكر هذا الحديث كما رواه البيهقي من طريقه فقال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني.
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا موسى بن هلال بن عبد الله العمري عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من زار قبلي وجبت له شفاعتي» قال ابن عدي: وقد روي غير ابن سمرة هذا الحديث عن موسى بن هلال فقال: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال ابن عدي: وعبد الله أصح (٢) .
قلت: وهذا الذي صححه ابن عدي هو الصحيح، وهو أنه من رواية عبد الله بن
_________
(١) انظر الضعفاء للعقيلي ٤/١٧.
(٢) انظر الكامل ٦/٢٣٥.
1 / 23
عمر العمري الصغير المكبر المضعف ليس من رواية أخيه عبيد الله العمري الكبير المصغر الثقة الثبت، فإن موسى بن هلال لم يلق عبيد الله فإنه مات قديمًا سنة بضع وأربعين ومائة، بخلاف عبد الله فإنه تأخر دهرًا بعد أخيه وبقي إلى سنة بضع وسبعين ومائة.
ولو فرض أن الحديث من رواية عبيد الله لم يلزم أن يكون صحيحًا، فإن تفرد موسى بن هلال به عنه دون سائر أصحابه المشهورين بملازمته وحفظ حديثه وضبطه من أدل الأشياء على أنه منكر غير محفوظ، وأصحاب عبيد الله بن عمر المعروفين بالرواية عنه مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن نمير، وابي أسامة حماد بن أسامة وعبد الوهاب الثقفي، وعبد الله بن المبارك ومعتمر بن سليمان وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعلي بن مسهر، وخالد بن الحارث وأبي ضمرة أنس بن عياض وبشر بن المفضل وأشباههم وأمثالهم من الثقات المشهورين.
فإذا كان هذا الحديث لم يروه عن عبد الله أحمد من هؤلاء الأثبات، ولا رواه ثقة غيرهم علمنا أنه منكر غير مقبول، وجزمنا بخطأ من حسنه، أو صححه بغير علم.
وقد ذكر الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي في كتاب " الجرح والتعديل " أن موسى بن هلال روى عن عبد الله العمري، ولم يذكر أنه يروي عن عبيد الله ثم قال: سألت أبي عنه فقال: مجهول (١) .
وذكر الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتاب " بيان الوهم والإبهام " الواقعين في كتاب " الأحكام " لعبد الحق الأشبيلي: أن هذا الحديث الذي رواه موسى بن هلال حديث لا يصح، وأنكر على عبد الحق سكوته عن تضعيفه، وقال: أراه تسامح فيه لأنه من الحث والترغيب على عمل، ثم ذكر كلام أبي حاتم الرازي والعقيلي في موسى ومال إلى قولهما وقال فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر هذا الرجل بهذا الحديث ثم قال: ولموسى غير هذا، وأرجو أنه لا بأس به وقال: وهذا من أبي أحمد قول صدر عن تصفح روايات هذا الرجل لا عن مباشرة لأحواله، فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته، وإلى هذا فإن العمري قد عهد أبو محمد يعني عبد الحق يرد الأحاديث من أجله كما تقدم ذكره في هذا الباب.
قال ابن القطان: وقد ضعف أبو محمد حديث: «إنما النساء شقائق الرجال» (٢) في
_________
(١) انظر الجرح والتعديل ٨/١٦٦.
(٢) أخرجه الترمذي ١/١٩٠، والدارمي في كتاب الوضوء باب رقم ٧٦، وأحمد ٦/٢٥٦-٢٧٧ والحديث صحيح بمجموع طرفه.
1 / 24