وإعجاز القرآن أنه قدم لنا رواية ذات بناء بوليسي؛ فهو يعرضها في سرد شائق أخاذ معجز، ومع ذلك وفي نفس الوقت نجد القصة القرآنية تجعل من هذا السرد رواية ذات هدف بل أهداف. أليس ذلك هو الإعجاز؟
والأعجب من ذلك في هذه القصة أنها تجمع بين أصول القصة القصيرة وأصول القصة الطويلة في وقت معا، وهذا أمر لم يصنعه إلا جون شتاينبك القصاص الأمريكي المعاصر الذي توفي منذ قريب، وقد قدم هذا العمل الذي يجمع بين القصة والرواية في السنوات الأخيرة القريبة، ومع ذلك فقد كانت القصة القصيرة عند شتاينبك منفصلة عن الرواية، بحيث إذا نزعت قصة قصيرة من قصص المجموعة لظلت الرواية كما هي في بنائها. ولكن القصة القصيرة في رواية القرآن الكريم جزء أساسي في بناء الرواية لا تستطيع أن تفصله عنها.
في هذه القصة القرآنية إذن نوعان من الإعجاز؛ الإعجاز الأول أن الرواية كان بناؤها يشبه بناء القصة البوليسية. ومع ذلك فهي رواية هادفة تحمل الكثير من المعاني والكثير من الأهداف. الإعجاز الثاني أنها قصة طويلة تتكون من عدة قصص قصيرة في مزيج بينها عجيب فلا تصلح إحداهما إلا بالأخرى.
أتراك الآن مشوقا أن تعرف هذه القصة العجيبة؟ أنت تعرفها كل المعرفة. انظر معي إلى تلك الآيات من سورة الكهف:
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (سورة الكهف: من آية 60-64).
أرأيت هذا التمهيد الرائع؟ إن القرآن الكريم يروي كيف بدأت هذه القصة، أو هذه القصص التي سيرويها لك، فلنمض إذن مع ذلك القصص:
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (سورة الكهف: آية 65).
إذن فبطل جديد قد ظهر في القصة؛ فالأبطال في الروايات يظهرون شيئا فشيئا بتتابع. وقد يبدو أن هذا العبد من عباد الله الصالحين لن يكون له أثر في القصة، ولكن ما هي إلا أن تنتقل إلى الآية التالية حتى تدرك أنه قد أخذ مكان البطولة جميعا. انظر.
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (سورة الكهف: من آية 66-70).
أرأيت تشويقا أروع من هذا التشويق؟ لن تستطيع معي صبرا. ثم لا تسألني حتى أخبرك. إذن فعبد الله يعلم أنهما سيلاقيان في مسيرتهما هذه عجبا، وأن موسى سيرى أشياء يذهل بها، وأنه سيسأل، إن لم تكن تعلم ما رأياه .. ألا تتوق أن تعرف؟
صفحه نامشخص