لله محبوبتي! .. ما وجدت مثلها محبة راضية مسرورة.
كانت حبيبتي سعيدة مخلصة في غير ما تكلف أو رياء. أكانت تجد آلاما ثم تتغلب عليها بما طبعت عليه من مودة وطهر؟ ومن أدراني بما كان يعتلج في أعماق صدرها؟ وما كان يدور في خاطرها عني وعن حياتها؟ ولكنها كانت سعيدة صادقة محبة، وهل من داع يدعوها إلى ذاك التظاهر المتواصل بالسعادة إذا كانت تعيسة أو كارهة؟! بيد أنه لم يداخلني شك كذلك في نضج أنوثتها وعمق عواطفها. كانت أبعد ما تكون عن النزق والطيش، ولكنها كانت عامرة القلب بالحيوية والحرارة والعطف. لعلها كانت تحيا حياة يحدوها الأمل نفسه الذي أتطلع إليه صابرا متصبرا. على أن الحق الذي لا مرية فيه أنني كنت مشغولا بهمومي على حال لم تدع لي إلا قليلا للانشغال بهموم غيري. ربما رجع ذلك قبل كل شيء إلى أنانيتي الفطرية، وكان لجهلي كذلك نصيبه. ولعلي كنت أحسب أنني الضحية الأولى - إن لم تكن الوحيدة - في تلك المأساة.
وفي أوائل ذلك الخريف دعانا جبر بك ونازلي هانم إلى وليمة غداء أقامها للأهل والأقارب لمناسبة شفاء محمد - شقيق زوجي - من مرض ألم به.
وذهبت وزوجي على حين تخلفت أمي معتذرة بالنظام الجديد الذي تتبعه في غذائها منذ أشار عليها الطبيب بذلك. مضيت مرتبكا كالعادة؛ لأن وليمة غداء أشد على نفسي من المرض، ولأنها - هي وأمثالها من المجتمعات - تعيد إلى ذهني ذكرى منصة الخطابة بكلية الحقوق. وقد تعمدت أن نذهب مبكرين لنسبق المدعوين جميعا، فلا أتعرض لنظرات أعينهم حين دخولي حجرة الاستقبال. ونجحت خطتي فوجدنا البيت قاصرا على أهله .. هم أهلي أيضا، وإني لأحبهم جميعا وإن بت أخاف نازلي هانم خوفا شديدا يثير في نفسي أشد الألم. وأخذ المدعوون يتوافدون؛ فجاء أعمام رباب الثلاثة وأخوالها الأربعة مصحوبين بزوجاتهم وأبنائهم، وحضرت كذلك خالتاها؛ واحدة مصطحبة زوجها، والأخرى - وهي أرملة - برفقة كبرى بناتها. ومضت نازلي هانم لتستقبل قادما جديدا فسمعتها تقول له: «لماذا تأخرت يا سي أمين؟»، فرد القادم عليها معتذرا بصوت خيل إلي أني سمعته قبل ذلك، فتطلعت إلى الباب باهتمام .. ودخل المدعو الجديد فعرفته من أول نظرة. رأيت أمامي ذلك الدكتور الذي زرته منذ شهرين وبحت له بسر شقائي كله! ثبتت عيناي عليه في ارتياع بادئ الأمر، ثم تمالكت نفسي بسرعة وقوة، وإني على إخفاء ما يعتلج بصدري لقادر، ولكني لم أجد حيلة مع قلبي الذي راح يدق بعنف تباعا. تملكني الهلع وخجل قاتل، وثقل على صدري ضيق غليظ كأنما هويت إلى أعماق بئر سحيقة. وإذا بنازلي هانم تقدمني له، ثم تقدمه لي قائلة: هذا قريب لم تسعدنا الظروف بتقديمه إليك؛ لأنه عاد من أوروبا حديثا، ولأنه يندر أن يتفضل علينا بزيارة: الدكتور أمين رضا ابن عمتي.
وتصافحنا كالمألوف ... التقت عينانا لحظة قصيرة، فلم أقرأ في عينيه إلا نظرة ترحيب باسمة، لم تش عيناه بأنه تذكرني، وظل ملازما سمته المترفع المتحصن ضد الانفعالات. ولما انتهى من مصافحة الجالسين، جلس إلى جوار جبر بك وراحا يتحدثان، وتهت أنا في أفكاري الفزعة الشاردة .. ترى هل تذكرني؟! .. لعله نسيني شأن الأطباء الذين يلقون وجوها بعدد الدقائق! .. ولكنه طبيب جديد قليل الرواد! .. ومع ذلك فلم يبد في عينيه أنه عرفني على الإطلاق .. أم يكون عرفني وتجاهلني رأفة بي؟!
ليتني أجد وسيلة للتحقق من هذه النقطة! وهبه عرفني فهل يمكن أن يبوح بسري لقريبته نازلي هانم؟ .. ما أبعد هذا عن التصور! ولكن ما أبعدني عن الطمأنينة كذلك! وجدتني غريقا في بحر لجي من الوساوس والمخاوف، فهل كنت في حاجة إلى مزيد؟!
ودعينا إلى الطعام فخرجت من أفكاري وإن علقت بي آثارها، كالخارج من نار. وجلسنا حول المائدة، وعند ذلك التفتت نازلي هانم وقالت مبتسمة: أنت خجول يا سي كامل، ولكن حذار فالولائم لا ترحم الخجولين.
وعلق بعضهم على قولها فسخطت عليها واشتد بي الضيق، على أنهم لم يلبثوا أن شغلوا عني بما بين أيديهم من لذيذ المأكل. ولم أكد أشعر بالارتباك الذي يركبني في أمثال هذه المجتمعات لشرود ذهني فيما هو أجل وأخطر، فلا يفل الارتباك إلا الارتباك. ثم عدنا إلى حجرة الاستقبال ودارت علينا القهوة، وتناولت الفنجان وقربته إلى فمي، وعلى حين بغتة طار خيالي إلى الحانة القديمة بشارع الألفي وتراءى لعيني قدح الخمر! .. كيف جاءتني هذه الذكرى، ما الباعث عليها؟ .. لقد وجدت دهشة صادقة، ولكني شعرت كذلك بارتياح عجيب، كسرور الحبيب بالحبيب، الخمر .. النشوة .. السرور .. ألا ما أشد حاجتي إلى مهرب. كان خاطرا مفاجئا غريبا، ولكنه كان قويا لا يقاوم .. وعدت بانتباهي إلى ما حولي في حذر وخوف. واتجهت عيناي إلى الطبيب فوجدته منهمكا في الحديث، يلقي أقواله بثقة وفصاحة وترفع، وكثير من الحاضرين يتوثبون للنقاش في اهتمام وسرور. وجر الحديث إلى الحياة في بلاد الإنجليز فقال الدكتور إن دراسته شغلت جل وقته فلم يتمتع بحياته هناك كسائح إلا فيما ندر؛ على أنه استطاع رغم ذلك أن يخبر عن كثب متانة الأسس التي ينهض عليها بنيان الحياة السياسية، وما يتمتع به الشعب من مستوى عال للمعيشة، وحرية شاملة تتناول كل شيء، قال له جبر بك: كأنك واظبت في إنجلترا على الاهتمام بما كنت تهتم به في مصر قبل بعثتك.
وقال أحد المدعوين ضاحكا: أجل يا جبر بك، ذكره بعهد كلية الطب والثورة الوطنية.
وقال آخر: من كان يظن أنه سينتهي بك المطاف إلى بلاد العدو، وأنك ستعود منها حاملا له هذا الإعجاب كله؟
صفحه نامشخص