فقلت وأنا أتفرس في وجهه: كامل رؤبة .. هذا بيت الأميرالاي عبد الله بك حسن.
فأخذني من يدي إلى الخارج ثم مال نحوي قائلا: لكم طول البقاء، لقد توفي جدك يا بني!
فحملقت في وجهه بفزع، وانعقد لساني، فربت على كتفي وقال بصوت حزين: تشجع يا بني من أجل والدتك، وكن رجلا كما نرجو لك، كان جدك يتوسط مجلسنا كعادته كل صباح بلونا بارك، فشعر بضيق في التنفس وطلب قدحا من الماء، ولم تكد تمضي لحظات حتى سقط على المائدة، فحسبناه أصيب بإغماء، ثم تبين أن السر الإلهي قد صعد إلى بارئه!
هتفت بصوت مبحوح: وأين هو يا سيدي؟
فتمتم الرجل: أحضرناه معنا في سيارة.
وما كاد الرجل يتم قوله حتى رأيت في أسفل السلم رجالا أربعة يحملون جدي ويرتقون السلم على مهل وحذر، فسارعت إليهم ذاهلا، وشاركتهم في حمله، وأطرافي ترتعد جميعا، ثم دخلنا الشقة وهو بين أيدينا، رأيت أمي في نهاية الصالة، وقد ندت عنها صرخة فزعة، وأقبلت نحونا لا تبالي الأغراب، وسألتنا بجزع: ما له؟! ماذا به؟!
ولكنها لم تسمع جوابا ، أو وجدت في الصمت جوابا، فصرخت صرخة مدوية، وولولت في توجع «أبي! أبي!» وأنمناه على الفراش، ثم أقبل الرجال عليه يقبلون جبينه واحدا في إثر آخر، وعزوا أمي، وخرجوا من الحجرة صامتين، وسألني بعضهم عما إذا كنت في حاجة إلى شيء فشكرت لهم، وتطوع البك الذي قابلته أولا فدلني على الإجراءات المتبعة، وأخبرني بأنه سيقوم بإبلاغ وزارة الحربية، وأنه يستحسن أن تشيع الجنازة في العاشرة من صباح الغد. ورجعت إلى حجرة جدي مهرولا، فوجدت أمي تبكي بكاء مرا، فلم أتمالك أن أجهشت في البكاء، ولكنها لم تسمح لي بالبقاء في الحجرة، ولكي تشغلني عن الحزن أمرتني أن أبرق بالخبر إلى خالتي وأخي، وأن أذهب إلى أختي لأوذنها بموت جدها. وغادرت البيت لأداء هذه الواجبات، وعدت إليه مرة أخرى ومعي أختي راضية وزوجها. ووجدت في الشاب خير عون في القيام بالإجراءات المتبعة، أو بالأحرى فقد قام بها وحده، واكتفيت بأن ألازمه دون وعي. وما كاد يخيم المساء حتى امتلأ البيت بالأهل؛ فحضرت خالتي وزوجها، وأخي مدحت وزوجه وعمي، ولم يتخلف إلا أبي، وقد قال لمدحت وهو ينعى إليه جدي: «البقية في حياتك، أرجو أن تعزي أمك وأخاك وأختك؛ لأني لا أحضر لا جنازات ولا أعراسا!» وكانت أمي أشد الأهل فجيعة وحزنا؛ لأنها لم تفارقه طوال عمرها؛ اللهم إلا ثلاثة أشهر قضتها على مضض في بيت أبي! هكذا مات جدي وقد تمتع بحياة طويلة، فلم يعجزه الكبر، ولم يقعده المرض. وفارق الحياة في مجلسه الأثير بالمقهى بين صحبه المخلصين، في يسر قل أن يحظى به المحتضرون .. وكنت لا أزال كلما خطر على فكري حنيت الرأس إجلالا لذكراه، واستمطرت الرحمة والعفو روحه الكبير. كان جدي، وكان أبي، وكان جناح العطف الذي أظلني، فنعمت في ظله بالعيش الرغيد والحياة الرهيفة الطيبة، ولا أنسى أنني اتهمته في الساعات السود التي كدرت صفو حياتي بأنه أساء تربيتي، أو أنه تركني لأمي تفسد حياتي بتدليلها، ولكني إذ تدبرت الأمر لم يسعني إلا إقامة العذر له؛ لأني رأيت نور الدنيا وهو يتخطى الستين. وإنه لمن أشق الأمور أن يعرف الإنسان حقيقة جده؛ لأنه غالبا ما يبدو في حالة من التبجيل والقداسة، لأن مؤرخيه من الأهل يكونون عادة ممن يبجلونه ويقدسونه. فإذا ركنت إلى ما لمسته بنفسي من حياته أمكنني الثناء عليه في غير تحفظ. وطالما كانت صحته وحبه النظام ودقته العسكرية التي لم تبلغ قط الصرامة أو القسوة؛ مثار إعجابي الشديد. وكان حدبه علينا لمما تهون إلى جانبه مصائب الحياة، وبحسبي أنني لم أعرف مرارة الحياة الحقة حتى ودعناه إلى مثواه الأخير. ومهما يطل بي العمر فلن تمحى من مخيلتي صورته في أيامه الأخيرة وقد كللت الشيخوخة هامته بتاج ناصع البياض وأضفت عليه وقارا وجمالا، وأذكت في عينيه الخضراوين بريق دعابة وعطف. فلم أدهش لحزن رفاقه عليه، وأدركت - إن كان فاتني ذلك - أنه كان من الذين يألفون ويؤلفون، تلك الهبة الربانية التي حرمتها وذهبت نفسي حسرة عليها مدى عمري. وقد تقرر تشييع جنازته في العاشرة صباحا. ولما حم الوداع امتلأت الشرفة بالباكيات وأطلقت المدافع تحية لجدثه، وحمل نعشه على مدفع سارت بين يديه فرقة من الجيش. وألقيت على جثمانه نظرة الوداع - وهو يختفي في القبر - وأنا أنتحب كالأطفال.
25
قالت لي في حزن بالغ: ليس لنا إلا الله!
فقلت وقلبي يستشعر خوفا لا يدريه: هو نعم المولى والنصير!
صفحه نامشخص