وتفكرت قليلا متحيرا حتى وجدت في الكذب منجى فقلت: كنت يوما راجعا من مشوار طويل، فلم أجد من مكان أستريح فيه إلا هذه القهوة. - هذا عن أول يوم، وما قولك عن اليوم الثاني والثالث؟
وجاءني على البداهة جواب حسن، فتغلبت على الحياء وقلت بصوت منخفض: إنك المسئولة عن بقية الأيام!
فلحظتني ضاحكة وقالت بمكر: أحقا تقول أم أردت التهرب بالغزل؟
فغمغمت: بل قلت الحق.
فرمت بنظرها إلى الطريق في دلال وقالت: فلماذا إذن تلتصق بالباب مبتعدا عني كأنك تكره لمسي!
وتولاني الاضطراب، ولم أدر ماذا أفعل، ثم قلت كالمعتذر: ولكننا في الطريق !
وأغرقت في الضحك ثم قالت: نحن في السيارة لا في الطريق؛ إلا أن الطريق نفسه لا يمنع أمثالنا من الالتصاق إذا شاءوا، لا تتوار وراء الأعذار الكاذبة، خبرني ما عمرك؟! - في الثامنة والعشرين من عمري. - يا للعار! .. وكم امرأة عشقت؟
ولذت بالصمت شاعرا بأنه لا قبل لي بها، وكأنها عجبت لصمتي فقالت بإنكار: أتريد أن تقول إنك لم تعشق امرأة من قبل؟! وهل أنا أول امرأة في حياتك؟! قبل؟! هل أنا أول امرأة في حياتك؟ .. رباه وعيونك الخضر ألم تجذب أحدا؟! لا شك أنني أدركتك وأنت مشرف على الغرق، فليجزني الله على صنيعي خير الجزاء .. رباه من يصدق هذا؟ كيف تعيش؟ وماذا تصنع بحياتك؟
ولم أحر جوابا، وأثر في قولها تأثيرا موجعا لم تدرك كنهه. ولعلها قرأت في وجهي الارتباك فرحمتني بالصمت مليا. ثم سألتني عن عملي، فأجبتها بأنني موظف .. واستدركت قائلا: إنني في إجازة قصيرة. وساد الصمت مرة أخرى، وفي أثناء ذلك تزحزحت قليلا صوبي حتى مس منكبها منكبي في رفق، فبعثت في قلبي المنكمش حياة ويقظة فتتابع وجيبه على خوفي وخجلي، ولما لازمت جمودي والتصاقي بالباب قالت باقتضاب وهي تكتم ضحكة: مني خطوة ومنك خطوة. ألا زلت هيابا؟!
ولاقى مني النداء نفسا راغبة وقلبا خائفا، ولكن جالدت الخوف مجالدة وتزحزحت في حذر وإشفاق حتى مس جانبي - من أسفل الساق إلى أعلى المنكب - لحما طريا يتطاير منه عرف طيب ساحر، ولبثت هنيهة متمليا مسه اللذيذ وكل جوارحي تنتفض، حتى التفتت نحوي وشعرت بأنفاسها تتردد على خدي، وهمست في أذني: أما زلت هيابا؟!
صفحه نامشخص