الناس باعتبار شخصياتهم فريقان، فريق من الناس لهم شخصيات بسيطة ويشبهون الأنهار؛ لأن لها أعماقا معلومة، أما الفريق الآخر فهم أصحاب الشخصيات العميقة التي لا يسبر غورها ومثلهم مثل المحيطات الكبرى، تلك التي كل موجة من أمواجها عمق قائم بنفسه.
الفصل الرابع
لكل حادثة تقع على مسرح هذا الوجود أثر خالد في نفسه مهما كان أمد هذه الحادثة، إذ لا توجد حالة من حالات هذا العالم لا تترك لها أثرا بعدما ينقضي حكمها.
إن اللمسة الخفيفة والكلمة الصغيرة والنظرة السريعة والتأثر الطفيف كل هذه أمور خالدة باعتبار وقوعها وجريانها؛ لأن اليد تشعر على الدوام بأثر تلك اللمسة، والأذن لا تنسى مطلقا وقع تلك الكلمة، والعين لا يمكنها أبدا أن تمحو من صفحة بصيرتها خيال تلك النظرة، أما القلب فليس في استطاعته نسيان ما يقع عليه من التأثير مهما حاول ذلك.
قد يمكن للمرء أن ينسى بمرور الزمن بعض التأثرات التي يشعر بها، ولكنه لا يستطيع محو الأثر المعنوي الذي تتركه تلك التأثرات في مخيلته.
لكل حادثة حالتان، إحداهما قبل وقوع الحادثة والأخرى ما بعد زوالها، فهل يمكن أن تكون حالة ما قبل الحدوث شبيهة بحالة ما بعد الزوال؟ وهل تستطيع الزهرة أن تمحو من ورقتها أثر مس الفراشة لها؟ وهل يمكن للبلبل الذي قضي عليه بالأسر ردحا من الزمن أن ينسى وهو يتمتع بالحرية، تلك الساعات المرة التي قضاها في قفص الأسارة والذل؟
اللذة العميقة التي تشعر بها النفس أثر سماعها نغمة حلوة، والبهجة التي تتغلغل في أعماق قلب المحبوب أثر ما يعتريه من السرور والانشراح، لهي حالات لا يستطيع المرء نسيانها مطلقا، بل يبقى أثرها محفورا على صفحات القلب كذكرى خالدة.
فكل صفحة أو حادثة في الحياة محكوم عليها بالزوال والنسيان، وإنما التأثير الناشئ عن زوال هذه الصفحة من كتاب الحياة فباق لا يزول.
الفصل الخامس
من الغريب أنه توجد إحساسات خفية في الدماغ الإنساني كامنة فيه منذ الأزل، كالبذور الكامنة في باطن الأرض، لا يشعر بوجودها الإنسان طالما تظلله أغصان الراحة والسعادة، فإذا ما هبت عليه إحدى العواصف رأيت تلك البذور الكامنة في حجيرات دماغه المغمورة بأمطار اليأس وغيوث الآلام، آخذة في النمو شيئا فشيئا، حتى تظهر ما لها من لون وقوام.
صفحه نامشخص