كان الكلام الذي يريده هو التواعد إلى غد حيث يلتقيان في المنزل، وحيث يقولان ويعيدان ويتأهبان للعذر ويتأهبان للملام.
ولكن هذا هو بعينه الكلام الذي كان لا يريده.
يمنعه أن يفوه به مانع الكبرياء، ومانع الخوف من تجديد ما فات، ومانع الشك فيمن تصاحب وفيما تضمر وفيما عسى أن تلقى به كلامه في دخيلة نفسها من الزراية والاستخفاف.
وطال الصمت، وقالت وكأنما تناجي نفسها: يحسن بنا أن نقف هنا للنزول.
واعترف هو في طوية ضميره أنه لا يريد أن تنزل قبل أن يقول لها شيئا أو يسمع منها شيئا.
واعترفت هي في طوية نفسها أنها لا تريد أن تنجز تهديدها ولا تريد أن تبرزه في صورة التهديد؛ لأنها تعلم أن جواب صاحبها الوحيد على التهديد هو التحدي ... أو هو تركها تنزل وحدها، وإن كان يود استبقاءها في الحقيقة.
ولعلها أخطأت في حسابها هذه المرة؛ فإن صاحبها بعد أن جلس إلى جانبها، وبعد أن أحس حرارة جسمها، وبعد أن لمس بضاضة معاطفها، وبعد أن تلقى أنفاسها على صفحة خده وهي تميل إليه تنتظر كلامه، وبعد أن غاص في تلك الغيبوبة التي استنام إليها كما يستنيم الساهر البعيد العهد بالنوم إلى أول ضجعة على الفراش، وبعد أن أصبح هو وعزيمته شيئين منعزلين بينهما من البعد ما لا ينجح فيه دعاء ولا استحضار ... بعد هذا كله لعلها كانت لا تخاطر كثيرا إذا هددته بالنزول من المركبة واقتضاب ذلك الصمت العقيم.
ولكنها لم تهدد ولم تنزل ... بل صاحت غاضبة: ما بالك لا تنطق؟ أمعقود اللسان وأنت لك لسان كالثعبان؟
وربما أحب أن ينفي عنه تهمة الاضطراب والحصر والضيق بالكلام في مفاجأة اللقاء.
فقال لها وهو يتلعثم: أين كنت؟
صفحه نامشخص