سواء كان هذا أو ذاك يخطئ من يظن أن عبرة الايام تعلمنا الاستخفاف بالحاضر كما نستخف بالماضي، فإنما هي تعلمنا الاستخفاف بالماضي ولا زيادة، ولو علمتنا أن ننظر إلى حوادث اليوم كما ننظر إلى حوادث الأمس لحلت نسج الحياة وفكت خيوطها ومسحت أصباغها وتركتنا أمام حياة لا لون لها ولا مادة! كما تجتمع ألوان الصورة الزيتية مرة واحدة بدلا من أن تتفرق في مواضعها، فلا ملامح إذا اجتمعت، ولا أشكال ولا ألوان!
إن خير ما يتاح لأبناء الفناء أن يقلقوا ويضحكوا من القلق بعد فواته، فيأخذوا الدنيا طبيعية فنية على هذا المنوال: طبيعية حين يعيشونها ويقلقون بشواغلها، وفنية حين ينظرون إليها على البعد بعد ذلك كما ينظرون إلى روايات الخيال.
بدأت الرقابة وفاقا لما كان منظورا منها بغير اختلال: أمانة بالغة وشدة لا هوادة فيها، ثم مضحكات لا تنقطع يوما إلا ريثما تنقضي عليها ثلاثة أو أربعة أعوام، أما في أوانها فأيسر ما فيها يغيظ غيظ الجنون.
ومن اليوم التالي ظهرت أمانة الرقيب حرفا حرفا في كل جليلة ودقيقة، فطابقت رواياته كل ما كان يعلمه همام من أخبار سارة التي تحكيها له طواعية أو التي يتحرى سؤالها عنها في ثنايا الحديث، وما كان همام يطلع أمينا على مواعيده مع سارة، ولا على الساعة ولا على الجهة التي ينويان اللقاء فيها، فكانت مطابقة الأخبار لهذه المواعيد وما يلحق بها من الحواشي والملابسات مؤكدة لهمام ما كان يعتقده من صدق أمين وصواب الاعتماد عليه.
وجاء أثناء الرقابة يوم شات من أيام الزمهرير، عاصف قارس مطير، فأشفق همام أن يتصرف أمين فيستبيح لنفسه إهمال الرقابة في ذلك اليوم ولا لوم عليه، إذ أين هي السيدة الرشيقة الأنيقة التي تغادر دارها بين أوحال الأرض وسيول السماء؟
إن أمينا لمعذور إذا هو استباح الإغضاء والهوادة في مثل ذلك اليوم المكفهر العبوس، ولكن الذي يعرف سارة لا يعرف يوما هو أحق بتشديد الرقابة من ذلك اليوم؛ لأن هذه الأوقات هي أوقاتها المختارة للتسلل والروغان، وفرق عشرين درجة في ميزان الحرارة الجوية لا يقابله فرق مثله في حرارة جسمها الفتي المنيع؛ لأنها لم تعرف قط ما هو مدلول كلمة الزكام في الآناف والأجسام.
أشفق همام من ذاك فهبط ملتفا في دثاره، وركب ساعة ليبلغ إلى المكان الذي يتربص فيه أمين، فألفاه متربصا حيث يقيم كل يوم.
لا خوف إذن من هذه الناحية.
ولا غبار على نتيجة الرقابة في اليوم كله، فقد خرجت سارة فعلا قبيل العصر وعادت إلى المنزل قبيل المغرب، ولم تذهب فيما بين ذلك إلا إلى منزل صديقة عزيزة لها كانت تناجيها بأشجانها وتطلعها على أسرارها، فلم يشأ همام أن يكون مفرطا في التوجس والافتراض، ولم يلاحظ إلا أن الخروج في اليوم المطير لزيارة صديقة أمر غريب مريب، واكتفى بتفسير هذه الغرابة بأنها واحدة من غرابات «سارة» وبدواتها التي لا تتقيد بالعرف والاصطلاح ... ولو أتيح له أن يعلم يومئذ - كما علم بعد شهور - أن الصديقة العزيزة لم تكن إذ ذاك في المنزل ولا في القاهرة لما كبح ظنونه عن الإفراط في التوجس والافتراض. •••
وأخلص أمين لطبعه كما أخلص لصديقه، فلم ينس حق السهوات عليه وبالغ في أفانينها ومعجزاتها بمقدار ما كان يبالغ في اجتنابها والاحتراس منها.
صفحه نامشخص