أول ما اتفقا عليه أن يتفاهما على الفراق أسبوعا أو أسبوعين ريثما يعرفان كيف يكون صبرهما على هذا الفراق القصير، ويعرفان من ثم كيف يكون صبرهما على الفراق الحاسم الذي لا لقاء بعده، فإن هان عليهما بعد هذه المحاولة أن ينفصلا بسلام فلينفصلا إذن بغير ندم ولا خصام، وإن عزت عليهما القطيعة فعسى أن يكون الاشتياق إلى اللقاء فاتحة الرغبة الصادقة من جديد، وعسى أن يفهم كلاهما من مكان صاحبه عنده ما ينهاه عن مطاوعة الهواجس ومجاراة الشكوك.
وقد استفادا من هذه المحاولة العسيرة فائدة لا يحتقرانها بعد طول السآمة وطول النزاع، فإن اللهفة الصادقة التي طغت عليهما يوم عادا إلى اللقاء قد عادت بهما إلى حنين شبيه بالحنين بالقديم، ونعما في ذلك اليوم بمتعة هنيئة لم ينعما بها منذ عهد طويل.
ولما شيعها إلى الباب وهو يقول إلى اللقاء في الغد، قالت: لا ... إن اللقاء بعد يومين أو ثلاثة أمتع وأشهى ... وسأخبرك أو تخبرني عن الموعد متى طلبناه ... ولا نتفق عليه الآن!
واستحسن منها هذا التسويف كما كان من قبل يستحسن منها نشاطها في تعجيل المواعيد، وود في خلده لو يتأجل اللقاء خمسة أيام أو ستة لا يوما أو يومين ، ففي ذلك فطام للهوى وشحذ للشوق والرغبة، وامتحان لقوى النفس يسبر غورها ويلذ فيه حب الاستطلاع.
إلا أنها محاولة قصيرة لم يكتب لها العمر المديد.
فما هو إلا موعد أو موعدان حتى أحس كما يحس كل رجل يفهم طباع المرأة التي يهواها أنها لم تحافظ على وفائها ولم تعصم جسدها أيام الغياب، وأنها أصبحت ترحب بالتسويف؛ لأنها تريده وتستريح إليه ... ورجع إلى ذاكرته يفتش لعله يذكر هل هي التي اقترحت في بادئ الأمر أن يعالج الشك بالتسويف والمباعدة بين المواعيد أو هو الذي بدأ بالاقتراح، فتذكر أنها كانت تحوم حول الاقتراح وتوحيه إليه وتهتم بأن توقع في ذهنه أنه هو صاحبه وموحيه ... فقال لها متهكما: أرى أن الحل الأخير الذي اهتدينا إليه يرضي أكثر من اثنين!
قالت: ماذا تعني؟
قال: أعني أنه ربما أرضى ثلاثة بدلا من اثنين، وربما أربعة ... من يدري؟
قالت متهكمة: وربما خمسة أو ستة ... زيادة خير ... ولماذا تكره الرضى لعباد الله؟!
وتلا هذه المحاورة منظر من مناظر المسابقة في الإيلام والتبكيت والغضب والإغضاب، قال فيه وقالت، وتمادى فيه وتمادت، وباح فيه وباحت، وخرجت من المنزل حانقة لا تودع ولا تسلم ولا تعد بلقاء مؤجل ولا بلقاء سريع. •••
صفحه نامشخص