قال الخادم وفي صوته احتجاج من يستغرب ولا يفقه معنى هذا الاتهام: يا سيدي قلت لا أعلم؛ لأنك نزلت من هنا وأنا نزلت وراءك حسب المعتاد في سائر الأيام.
فاشتعل صاحبنا غيظا، وهم أن ينقض عليه لولا أن هرب الرجل من أمامه فتبعه إلى باب الخدم، وهو يعلنه بالطرد وألا يعود ليريه وجهه مرة أخرى، ولم يصفح عنه إلا بعد ثلاثة أيام، وبعد أن شفع له أن الرجل معذور؛ لأنه لم يأمره بالبقاء في المنزل، وقد أنساه أن يأمره بالبقاء فيه ما كان مشغولا به من حوار.
الشكوك
من النادر جدا أن يتواعد محبان على اللقاء بعد فراق طويل ثم لا يسرعان إلى موعد اللقاء بلهفة شديدة واشتياق عظيم، إن لم يكن حبا أو حنينا أو رغبة في المتعة والسرور، فعلى الأقل من قبيل الفضول والاستطلاع والرغبة الملحة عند كل منهما في الوقوف على أخبار صاحبه وأحواله في الغياب الطويل: هل أحبت غيره؟ وهل أحب غيرها؟ وهل سلت؟ وهل سلا؟ وبماذا يشعران في الحب الجديد؟ أو ماذا بقي عندهما من الحب القديم؟ وماذا تقول له حين تخلو به؟ وماذا يبدر من كلامه حين يخلو بها؟ وأشباه ذلك من الأسئلة التي يلقيها كلاهما على نفسه ويحسب أنه في أشد الحاجة إلى الوقوف على جوابها، فربما كان هذا الفضول من أقوى مظاهر الحب، ومن أوثق روابط الاتصال بين كثير من الناس؛ محبين كانوا أو غير محبين.
فإذا حدث غير ذلك واجتهد أحد العاشقين أو كلاهما في اجتناب الموعد المنتظر بعد طول العزلة والجفاء، فلا بد أن يكون بينهما شبح قائم من الآلام والأكدار يغطي على جميع المشوقات والمرغبات، ويعكس الفضول والاستطلاع؛ فيستحيل إلى صمم ونفور، ويصبح كل شيء أهون من تجديد تلك الحالة المكروهة والعودة إلى ذلك الشبح المرهوب.
وهكذا كانت الشكوك التي تمثلت لصاحبنا؛ فانساق بغير وعي ولا إرادة إلى اجتناب الموعد، والفرار من المنزل، والهزء بكل إغراء وتشويق ينبعث في أعماق حسه من شيطان ذلك الشغف القديم.
كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا، ولا يزال ينطبق وينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها، فينفرج وينفرج وينفرج حتى يتسع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف، بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.
وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذبا عنيفا بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة، ولا إلى الاتهام ... بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب، حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية وإلى غير راحة ولا استقرار.
وضاعف هذه الحالة ذكاؤها من ناحية، وطبيعة ذهنه وتفكيره من ناحية أخرى؛ فهي من الذكاء بحيث لا تقدم على عمل واحد أو حركة واحدة لا يختلف فيها وجهان، ولا تقبل التضليل والنكران، وهو في تفكيره وطبيعة ذهنه يخلق الاحتمالات الكثيرة، فلا يجوز عنده احتمال راجح إلا جاز عنده في اللحظة نفسها احتمال راجح في قوته ووزنه وجوازه، ولا يدفع هذا أو ذاك إلا بدافع حاسم لا تردد فيه.
ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حالة الأب المستريب الذي يشك أفجع الشك في وليد منسوب إليه: هل هو ابنه أو هو ابن غيره؟ ومن هو ذلك الطفل الصغير الذي يتقاضاه حقوق البنوة على الآباء؟ هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أو هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار؟ هل هو مخدوع في عطفه عليه، أو هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منهما، وكلاهما لا يطاق.
صفحه نامشخص