ثم جاءت فترة الاستراحة فإذا بالفتى الذي يبيع هناك بعض الحلوى والمرطبات مقبل عليه في دهشة واستفهام يسأله: أكنت مسافرا يا بك؟
وقبل أن يسمع الجواب أسرع فقال: إن السيدة كانت هنا في حفلة الغروب.
وإذا بصاحبنا يسأله وهو لا يقصد السؤال، ولو فكر في سؤاله قبل أن يلفظ به لكتمه وأخفاه: أكانت وحدها؟
وخيل إليه أنه يلاحظ في نظرات البائع ولهجته تلميحا خبيثا يقول له ما لا يريد أن يعرفه، ولا يريد أن يجهله في الوقت نفسه، فسلبته تلك الملاحظة كل طمأنينة إلى ما سيقوله البائع من خبر مقبول أو خبر مرفوض، وود لو أنه يسكت فلا يجيب بشيء.
ولكن البائع لم يزد على أن هز رأسه وقال: لا أدري ... كانت إلى جانبها سيدة ... ولعلها كانت معها.
فاندفع من صاحبنا سؤال آخر كما اندفع السؤال الأول وهو يغالط نفسه، ويحسب أنه يتهكم أو يريد من البائع أن يحسبه متهكما غير جاد في مطاولة الحديث: جانبها؟ أي جانب؟ إن للإنسان جانبين لا جانبا واحدا كما تعلم.
وهنا ظهر من البائع الخبيث أنه فهم كل ما هنالك من الشك والاستطلاع، فقد عودته صناعته أمثال هذه المواقف وأمثال هذه الأسئلة وأمثال هذه الشكوك، فلم يفته أن «البك» يستطلع ويرتاب ... ومن يدري؟ فلعله كان يرى بعينه ما يدله على أن البك جدير بالاستطلاع والارتياب.
فتمهل قليلا وقال: «كان إلى جانبها الآخر هذا الممر ...» وأشار بيده إلى أحد الممرات التي بين الصفوف.
فارتفع كابوس ثقيل عن صدر صاحبنا، وأحب أن يعتقد أن كلام البائع خليق أن يزيل من نفسه جميع الشكوك، لا مجرد الشك الذي خامره عن زيارة السيدة لدار الصور المتحركة في ذلك اليوم.
إلا أنها طمأنينة عاجلة لم تلبث أن ذهبت كما جاءت في طرفة عين، وإذا بصاحبنا يناجي نفسه ذلك النجاء الذي كان غائبا عن خاطره منذ فترة وجيزة، يا عجبا! إني لأجتنب هذه الدار كأنها تجمع شياطين الأرض كلها في حيز واحد، وهي تزورها ولا ترى فيما كان بيننا من القطيعة موجبا لاجتنابها ... لو كان قلبها خاليا من هوى آخر لما استطاعت ذلك، ولفعلت كما كنت أفعل أنا إلى هذا المساء ... والأغلب الأرجح أن هذا البائع يعلم من خفية الأمر أكثر مما يبوح به أو يريد أن يبوح، ألا ترى إلى غمزات عينيه وحركات وجهه ونغمات كلامه؟ فماذا على المنحوس لو أفضى بما عنده وأراحنا من هذا العناء؟
صفحه نامشخص