ويلي من السفر وما أشتق منه ما كان أغناني عن مقاساة هذا الضر الأليم. ما كان أغناني عن هذه المساومة التي سامتني هذا الكرب العظيم. ماذا وسوس إليّ حتى دخلت بين الظواطرة ولا عائدة لي من هذا الفضول الذميم لقد ولدت في الدنيا وعشت زمانًا ولم يخطر ببالي ما أختلف فيه عبام وبعيم. فلأي شيء دخلت في هذه المضايق وتورطت في هذا الشر العقيم. هل كان يعنيني ما تهاتر عليه أهل المشرقين من فساد رأيهم وخلقهم اللئيم. لهفي على القلم وأن يكن في شقه شق وحول مجاجه الونيم. لهفي على الحمار الذي كان يزقع ويرفس من لي بذلك البهيم. لعله الآن أحسن حالًا مني ولعله في نعيم مقيم وأنا اليوم بما فرطت مُليم. من لي بالخان والأخوان فيهم كل بزيع نديم زمان لا شغل إلا معاقرة المدام والتطريب والترنيم. ليتني قلت ما قال الناس وعبدت معهم البعيم. أستغفر الله قد كفر صاحبنا ليس كل الوقت وقت جدال ومناقشة خصيم. لقد نصحني المطران بقوله أن الحواسّ قد تغش في الضئيل والجسيم. والغبي والحكيم والجاهل والعليم. إنه يعرف الحق ويقول غيره خوف كل عتل زنيم. إذ الجاهلون لا يعجبهم إلا التضليل والتهييم. ألم يقل لي أنك لا تقدر على تجديد القديم. وعلى تقويم ما لا يستقيم. نعم أن الحواس تغش وسيان في ذلك السفيه والحليم. والكريم واللئيم. ثم وقف قليلًا حتى يورد أمثلة على هذا وإذا به يقول. إن القبيحة الشوهاء إذا نظرت وجهها في مرآة تقول أن كنت شوهاء عند بعض فإني حسناء عند آخرين. ولذلك قال صاحب القاموس الشوهاء العابسة والجميلة ضدّ. وأن القناف إذا نظر جلمود أنفه قال يحتمل أن بعض الحسان يرغبن فيه وما يرين به أمتًا ولا عوجًا. وإن سادتنا القباح من الملوك والملكات وذوي السعادة والجدّ لا يصورهم المصورون إلا حسانًا. وهم لا ينظرون أنفسهم في العناس إلا كما صورهم المصورون. وإننا لنرى الشمس طالعة ولما قد طلعت كما يقول الرياضيون. ونرى العصا في الماء معوجة وهي غير ذات عوج. وأن السراب يرى الشخص أثنين. وأن بعض الألوان يبدو بلونين. وإن السحرة يخيلون للناظرين أنهم يمشون على الماء ويدخلون في النار ولا يحترقون. ومن يك في سفينة ماخرة قابلة ديار وعقار فإنه يرى ما يقابله في الأرض متحركًا ماشيًا وهو ساكن ثابت. ومن يعقد في شباك مناوح لشباك آخر مساو له في الارتفاع فإنه ينظره أعلى من شباكه. ولعل صاحبي الخرجي كان بكاؤه لداع غير داعي السلعة. فإنه يبلغني عن اللاعبين واللاعبات في الملاهي إنهم يبكون ويضحكون أيان شاءوا فلعل البكاء عندهم من الصنائع التي يتعلمونها على صغر. ماذا يفيدوني الخرج الآن. أأدعوه ويتركني. أأحبه ويبغضني. أأحمله وينبذني. فلما أبتدأ هذه السفاهة التي تعد عند الخرجيين كفرًا. وعند السوقيين تسبيحًا. وعند المتوسطين بينهم سفاهة ناشئة عن الجزع. إذ الناس لم يتفقوا إلى الآن إلا على الخلاف مادت به السفينة ميدة شديدة يحسبها الخرجيون انتقامًا من الرب. والسوقيون عارضًا من العوارض. فجعل يصرخ ويقول ألا يا شيخ السوق عفوًا بحق لحيتك التي عند الحلاقين إلا ما أجرتني. يا خرج. يا سلعة يا دفتر. يا ضواطرة. يا صعافقة. يا نساجي السلعة. يا صياغيها. يا مسديها يا ملحميها يا منيريها يا مطرزيها يا موشيها يا رقاميها يا رفائيها يا شصاريها يا خياطيها يا كافيها يا شراجيها يا نشاريها يا طوائيها يا قساميها يا لفافيها يا ملفقيها. تدار كوني بحقهم قد هلكت. فما كاد يتم هذا الدعاء إلا ومالت به السفينة ميلة تدحرج بها رأسه الصغير كالبطية. فجعل يصرخ ويستغيث ويقول لقد عدّيت عن التفديد. هذا أثره ظهر من أول الطريق فكيف يكون في آخره. ثم غشي عليه وصار يهذي ويقول الخر الخر. فسمعه أحد الركاب يكرر ذلك فظن أنه يشكو من أحد الأخبثين في فراشه. فلما لم يجد شيئًا قال هو يهذي من الألم وتركه. ثم قدر الله أن سكن البحر وصفا الجو وظهرت بعد ساعات أرض الإسكندرية. فجاء ذلك الرجل وبشر الفارياق برؤية الأرض. فقام متجلدًا وغسل وجهه وبدل ثيابه. فلما خرجوا من السفينة سبقهم الفارياق وما كاد يطأ الأرض حتى تناول منها حصاة وألتقمها وقال هذه أمي. وإليها أمي. فيها ولدت وفيها أموت. ثم أنه توجه إلى خرجي كان في المدينة وأدى إليه كتاب توصية من الخرجي الآخر ولبث عنده ينتظر سفينة تسافر إلى تلك الجزيرة.
1 / 61