ثم طفق يقول. اعلم إني كنت في مبدأ أمري حائكًا. ولما شاء الله تعالى من الأزل أن يخلقني قبيحًا وقصيرًا. حتى أن أمي عند نظرها إلي كانت تحمد الله على أنه لم يخلقني بنتًا لم أكن أصلح للحياكة. لأن قصري الفاحش مناني غير مرة في حفرة النول بالبهر والخناق. إذ كان جسمي كله يغيب فيها فينقطع نفسي. مع إن منخري بحمد الله يسعان من الهواء ما يكفي خمسين رثة وخمسين كرشًا. وكثيرًا ما كان يغشى علي فيها وأوخذ منها على آخر رمق. فلما قاسيت من هذه الحرفة كل جهد وعناء رأيت أن التسبب ببعض ما يرغب فيه النساء أصلح. فاكتريت لي حانوتًا صغيرًا وقعدت فيه فكانت النساء يمرون علي وينظرن إلي ثم يتضاحكن. وسمعت مرة منهن من تقول لو كان الظاهر عنوانًا صادقًا على الباطن لكان خرطوم هذا التاجر يشفع له في جثته ويروح سلمته فاعتمدت على كلامها وقلت لعل من القبح سعادة. فقد قيل في الأمثال إن من الحسن لشقوة. ومكثت مدة على هذه الحال من غير طائل. فإن أنفي وقف بيني وبين رزقي. وبلغ كبره من الفحش بحيث أنه لم يدع لغير الأباء والأعراض عني موضعًا. فقعدت يومًا أفكر في خلق الله تعالى هذا الكون. وأقول يا لحكمة الله كيف تخلق في الدنيا إنسانًا ثم تخلق فيه شيئًا يمنع رزقه وقوام معيشته. ما الفائدة من هذا الأنف الضخم الذي لا يصلح لشيء إلا لأن تضمن فيه إعجاز قفا نبك. ولمَ لم يقور منه شيء ويكور في جثتي. ومالي أرى بعض الناس جميلًا كالملك وبعضهم قبيحًا كالشيطان. ألسنا جميعًا خلق الله؟ أليس سبحانه يعمهم كلهم بعنايته على خد سوى. أليس الصانع الأرضي إذا أراد أن يصنع شيئًا فإنه يتأنق فيه ويتقنه عند استطاعته ويأتي به من أحسن ما يكون. هل يصور المصور صورة قبيحة إلا لكي يضحك الناس من المصور عنه. العل في ضخم الأنف حسنًا أو خيرًا أو نفعًا ونحن معاشر المخلوقين لا نعلمه. ثم أقوم إلى المرآة وأتأمل وجهي فيها فأنكره ولا أجد فيه موضعًا للاستحسان فأعود إلى مذهبي الأول وأقول: إن كنت أنا لم أستحسن وجهي فهل يستحسنه آخر غيري. على أن الإنسان يرى ذم غيره فيه حسنًا ورذيلته فضيلة أترى في الناس من يروق لعينه القبح. فقد يقال أن السود لا يرون في الأبيض منا حسنًا. غير أن لون السواد عندهم عامّ فلذلك يستحسنونه. وما أرى غيري من أقلّ أنفًا كأنفي حتى أطمع في أنه يكون مستحسنًا. أما اللون فإني لست من البيض ولا من السود بين اللاعنين ألا ليت أهل بلدتي كانوا كلهم مثلي قنافيين فأتسلى وأتأسى بهم. من أين ورثت هذا الجلمود وأنف أبي كان كأنوف الناس. ليت شعري أين كان عقل أبي حين نقر في رأسه فكر إنشائي في هذا الكون وفي أي طود أو طربال أو منارة كانت أمي تفكر ليلة رواحته على هذا العمل. إلا ليتما غشي عليهما تلك الليلة فما أفاقًا. أو فدرا فما أطاقا. أو سحرا فما تاقا. أو سكرا فماقا. وجعلت أجيل هذه الأفكار في رأسي وأصوغها في قوالب مختلفة وأفانين متنوعة. وإذا بامرأة متنقبة أقبلت عليّ وقد نتأ من تحت نقابها شيء شبيه بالقلة. فظننت إنها جعلت حنجور عطر عند أنفها لتشمه عند مرورها على الجيف في أسواق المدينة. فسألتني عن شيء تريد شراءه فسعرته لها فكأنها استغلته فقالت لي أقصد فإن تسعيرك هذا تسعير فقلت لها وأن شراءك لشرى. فضحكت وقالت لقد أحسنت في الجواب ولكنك أسأت في الطلب فراع حقوق الشركة والجنسية فإني شريكتك ورفيقتك. فكان ينبغي لك أن تحابيني قلت أيّ شركة بيننا أصلحك الله وهذه أول خطوة شرفتني فيها الزيارة. فرفعت النقاب وإذا بأنفها الناتئ يضيق عنه وجهها. وكأنه واجه أنفي ليحييه. فخطر ببالي حٍ ما قيل عن ذلك الغراب الذي كان يخمع وألف غرابًا مهيض الجناح. وأن أحد الشعراء لما أبصرهما قال ما كنت أدري ما أراده بعضهم يقول أن الطيور على آلفها تقع حتى رأيت هذين الغرابين. ثم أني بعتها أخيرا ما أردت أن تشتريه. وحاولت أن أقبلها قبلة واحدة تعويضا عما خسرته معها فما أمكن لي. لان أنفينا حالا ما بيننا. ثم ذهبت ومكثت أنا على تلك الحال مدة. فلما تحققت أني لا اصلح للتجارة لان النساء لا يشترين إلا ممن كان فرهدا غيسانيًا تبركا بجمال طلعته في إنهن يتمتعن بما اشترين من عنده. وتذكرًا لذلك النهار السعيد الذي عرفنه فيه. وإني مذ فتحت الدكان لم أبع إلا لتلك الكرنيفية وكان ذلك بخسارة. عزمت على
1 / 45