فلما كان الغد جاءه ذلك الرويهب ليسأله عن حاله إذ كان قد دخل الدير مذ عهد غير بعيد فكان فيه بقية رقة ولطف. فقال له الفارياق سألتك بالله أن تجلس عندي قليلًا. فلما جلس قال له قل لي فديتك أفي كل يوم أنتم تفعلون هذا. فوجم الرويهب فظن به سواء ثم قال أي فعل تعني. قال أكلكم العدس مساء وقيامكم في نصف الليل للصلاة. قال نعم ذلك دأبنا في كل يوم. قال ما الذي أوجبه عليكم. قال التعبد لله والتقرب إليه. قال أن الله ﵎ لا يهمه أن كان الإنسان يأكل عدسا أو لحما. ولم يأمر بذلك في كتبه. إذ ليس فيه مصلحة لنفس الآكل أو المأكول. قال هذا دأب النساك العباد إذ التقشف في المعيشة ونهك الجسم بالرديء من الطعام وبقلة النوم ينفي الشهوات. قال لا بل هو مناف لما شاءه الله. إذ لو شاء أن ينهك بدنك ويخليه من الشهوات لخلقك ضاويا دنفا. ما قولك في من خلقه الله جميلا. أيجوز له أن يشوه وجهه بأن يبخق عينه أو يخرم أنفه أو يشرم شفته أو يقلع أسنانه كما أردتم قلع أسناني البارحة بخبزكم هذا اليابس. أو أن يسخم سحنته. قال في ظني أنه لا يجوز. قال أليس البدن كله على قياس الوجه. لعمري ما خلق الله الساعد الفعم إلا وهو يريد بقاءه فعما. ولا الساق المجدولة إلا وشاء لها أن تكون كذلك دائما. ولا حلل الطيبات من المآكل للناس إلا وهو يريد أن يأكلوها هنيئا مريئا. نعم قد حرم هذه الطيبات بعض الأديان المشطة. غير أن دين النصارى يحللها. وإنما جاء التحريم من بعض شهارب طعنوا في السن فلم يكن بهم قطم إلى اللحم ولا إلى غيره. ما المانع تناوله كل يوم؟ قال لا ادري وإنما سمعت علماءنا يقولون ذلك فقلدتهم. وأني أقول لك الحق أني مللت من هذه العيشة. فإني أرى جسمي كل يوم في ذبول ونفسي في انقباض. ولو كنت عرفت من قبل ما أصير إليه لما سلكت هذه الطريقة غير إن أبي وأمي فقيران وخشيا أن أكون من ذوي البطالة والتعطل، إذ لا صنائع نافعة في بلادنا يمكن للإنسان أن يتعلمها ويعيش منها فزينا لي الرهبانية. وقالا لي إذا واظبت على طريقة في الدير بضع سنين فربما ترتقي إلى رتبة عالية فتنتفع نفسك وإيانا وما زالا بي حتى أجبتهما ولو لم أجبهما طوعًا لأكرهاني على ذلك. فقال له الفارياق نعم أن الرهبانية هي ملجأ من البطالة فكل من كان عطلًا عن علم أو صنعة يقصدها إلا انك مازلت مثلي حدثا فيمكن لك أن تقصد أحدا من أهل الخير والشفقة فيدلك على ما ينفعك. والله تعالى خلق الأشداق وتكفل لها بالأرزاق. وقد جعل في الحركة بركة هذا وأنت تعلم أن الرهبانية مشتقة منالرهبة وهي خوف الله تعالى. فإذا تعاطيت حرفة وعشت بها بين الناس وتزوجت ورزقت ولدًا وخشيت الله فأنت حق راهب. ليست الرهبانية بأكل العدس والخبز اليابس. أليس إن رهبان ديرك بينهم من الخصام والطعن والحقد ما لا يوجد عند غيرهم. فإن رئيسهم لا يزال يحاول إذلالهم وإخضاعهم له. وهم لا يزالون مدمدمين عليه شاكين منه. وبينه وبين رؤساء الأديار الأخرى من الحسد والمنافسة ما بين وزراء الدول. وأكثرهم ينال الرئاسة بالتملق للأمير الحاكم أو للبطرك. فإذا أحس بوشك انقضاء مدته وخشي العزل رأيته يجود بالهدايا والتحف لذوي الأمر والنهي بما لا يجود به أكرم أهل بلادنا. وذلك حتى يقروه على رئاسته. وهؤلاء الرهبان المكرهون على التبلغ بالعدس وعلى التنحس إذا دعاهم أحد لمأدبة سمعت لاستراطهم دويا. فيلفلفون ويلعمظون ويتلمظون ويتكظكظون ويشتفون حتى تجحظ عيونهم. وأضر ما يكون عليّ منهم انك لا تكاد تسلم على أحد منهم إلا ويمد لك يده لتبوسها. ربما كانت نجسة قذرة. فكيف الثم يد من هو أجهل مني ولا غناء عنده في شيء. انظر كم عندنا في بلادنا من دير وعلى كم تشتمل هذه الأديار من الرهبان. ولم أر أحدًا منهم نبغ في علم ولا من أثرت عنه مكرمة. بل لا تسمع عنهم إلا ما يشين الإنسان في عقله وعرضه.
1 / 38