فلنرجع الآن إلى الفارياق فإنه هو أيضا رجع إلى حرفته وهي النساخة وإن كان ذلك على غير مراده. واتفق إذ ذاك إن فتيين من أمراء ذلك الصقع أرادا أن يقرأا النحو على بعض النجاة وكان الفارياق يحضر الدرس وهو مكب على النسخ. وكان أحد التلميذين. بطيئا عن الفهم سريعا إلى الجواب. يتثاءب ويتمطى. ويغرض ويخطا. ويتناعس ويتقاعس ويتفاسأ ويتعاطس. وإذا خيل له أنه فهم مسألة حك تحت إبطه وشم رائحتها وكرف ثم تمطق كما يتمطق من أقطه. ثم عربد من افتتانه. وسلق من وليه بلسانه. وقال ألا قبحا لذوي الخواطر البليدة. والفطن البعيدة. كيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو. وهو أسهل من حك ما تحت الحقو. أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيرًا ولا صغيرًا إِلا واستوعبته كله. لكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح للعلوم ولا يعد منها فلا بد وأن يكون غيره أصعب منه. فقال معلمه لا تقل هكذا بل النحو أساس العلوم وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء الأساس. ألا ترى أن أهل بلادنا لا يتعلمون سواه ولا يعرجون على غيره. وعندهم أن من تمكن منه فقد تمكن من معرفة خصائص الموجدات كلها. ولذلك لا يؤلفون إلا فيه. وإنما يحصل الخلاف بينهم في تقديم بعض الأبواب على بعض. وفي توضيح ما كان مبهما منه بأدلة وشواهد أو شاذة بيد أن المآل واحد. وهو أن العالم لا يسمى عالما إلا إذا كان متمكنًا من النحو مستقصيا لجميع دقائقه. ولا يكاد يستتب أمر إلا به.
ولو قلت مثلا ضرب زيد عمر من غير رفع زيد ونصب عمرو فما يكون ضربه حقا ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار. فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعا. وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع فهي خالية عن الإفاده التامة. وإنما يفهم بعض الناس بعضا من دون هذه العلامات عن دربة أو اتفاق. فلا معول على كتبهم وإن كثرت ولا على علومهم وإن جلت. وإني وإن كنت قد لقيت منه عرق القربة وكثيرا ما بت وبالي مشغول بعقله من عقله وبداهية من عراقيله فكت آرق ليلي كله ولا أهتدي إلى وجه الصواب فيما عوص علي من ذلك إلا إني استفدت منه فائدة عظيمة جعلتني ممنونًا لبنت أبي الأسود الدؤلي أبد الدهر فإنها هي التي كانت سببًا في استنباطه. قلت وكذا سائر البدائع كان أصل استنباطها مسببًا عن النساءفقال له التلميذ ما هذه الفائدة يا أستاذي. قال قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس. فكنت أميل إِلى ما قلته الفلاسفة من أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناه. فلما رأيت النحو له ابتداء وليس له انتهاء قست النفس عليه فزل عني والحمد لله ذلك الإبهام.
1 / 33