غير أنه مع تقدمنا في رحلتنا، بدأت رغباتنا تتغير. أصبحنا نتساءل عما إذا كنا آثمين في طلبنا لأن تحظى الروح البشرية الإلهية التي كنا نعلي من قدرها في أنفسنا وفي رفاقنا الفانين في جميع العوالم الأخرى بسيادة الكون. صار طلبنا لأن يكون «الحب» متوجا خلف النجوم يقل أكثر فأكثر، وصارت رغبتنا في مجرد العبور فاتحين قلوبنا لأن نتقبل الحقيقة التي قد تتراءى لذهننا، أيا ما كانت، بشجاعة تزيد أكثر فأكثر.
كانت هناك لحظة في آخر المرحلة المبكرة من رحلتنا قال فيها بعضنا لبعض من خلال التفكير والشعور معا: «إذا كان «الحب» هو صانع النجوم، فسوف نعرف أن ذلك لا بد أن يكون صحيحا، لكن إذا لم يكن هو الحب، إذا كان شيئا آخر أو روحا غير بشرية، فلا بد أن يكون ذلك هو الصواب. وإذا لم يكن أي شيء، وإذا كانت النجوم وكل ما سواها ليست بمخلوقاته بل كائنات ذاتية الوجود، وإذا كانت الروح المعشوقة ليست سوى كائن بديع قد اختلقته عقولنا، فلا بد أن يكون ذلك هو الصواب وما من احتمالية أخرى. فنحن لا نعرف ما إذا كانت المكانة العليا للحب على العرش أم على الصليب؟! ونحن لا نستطيع أن نعرف أي روح هي التي تحكم؛ فعلى العرش يجلس الظلام، لكننا نعرف أن الحب مصلوب بالفعل في يباب النجوم، وعلى وجه حق من أجل إثبات وجوده، ومن أجل مجد العرش أيضا. نحن نعتز في قلوبنا بالحب وكل ما هو إنساني، لكننا نمجد العرش أيضا وما عليه من ظلام. وسواء أكان هو «الحب» أم لا، فإن قلوبنا تمجده، محلقة خارج حدود المنطق.»
غير أنه قبل أن تتمكن قلوبنا من الانسجام جيدا مع هذا الشعور الجديد الغريب، كان لا يزال علينا أن نتوغل بعيدا في فهم العوالم ذات المرتبة البشرية بالرغم من تنوعها. والآن ينبغي علي أن أحاول أن أقدم نبذة عن أنواع متعددة من العوالم التي تختلف كثيرا عن عوالمنا، لكنها ليست أكثر نضجا من الناحية الجوهرية.
الفصل السابع
المزيد من العوالم
(1) سلالة تكافلية
على بعض الكواكب الكبيرة، التي كان المناخ فيها أكثر حرارة من مناطقنا الاستوائية بدرجة كبيرة بسبب قربها من شمس عنيفة، كنا نجد في بعض الأحيان سلالة ذكية شبيهة بالأسماك. كان من المربك لنا أن نكتشف أن عالما مائيا يمكن أن يرقى إلى المرتبة البشرية من الناحية الذهنية، وإلى هذه الدرجة من التعقيد في الروح والتي كنا نصادفها الآن كثيرا.
كانت المحيطات الشديدة الضحالة التي تغمرها الشمس في هذه الكواكب الضخمة توفر تنوعا هائلا في المواطن الطبيعية، وثروة هائلة من الكائنات الحية. كانت المناطق النباتية الخضراء، التي يمكن تصنيفها إلى مناطق استوائية وشبه استوائية ومعتدلة وقطبية، تتعرض للشمس في أرضيات المحيطات الساطعة. كانت هناك سهول وغابات تحت الماء. في بعض المناطق، كانت الأعشاب الضخمة تمتد من قاع البحر حتى الأمواج. وفي هذه الأدغال، كان ضوء الشمس الأزرق الساطع يتقلص إلى ظلام يكاد يكون تاما. كانت هناك بعض الكتل الضخمة التي تشبه الشعاب المرجانية منخربة بالممرات وتتدفق بجميع الأشكال من الكائنات الحية، ترفع قممها المستدقة وأبراجها المدببة إلى السطح. سكن المستويات المتعددة من المياه أنواع لا تحصى من الكائنات الشبيهة بالأسماك بجميع أحجامها بداية من سمك الإسبرط إلى الحيتان، بعضها ينساب على القاع، وبعضها يجرؤ على القفز بين الحين والآخر إلى الهواء المتأجج. في أكثر المناطق عمقا وأشدها ظلمة، كانت هناك جماعات من الوحوش البحرية بعضها مضيء وبعضها بلا عيون يقتات على الجثث التي لا يتوقف سقوطها من المستويات الأعلى. فوق عالمها العميق، كانت تقبع عوالم أخرى تتسم بالمزيد من السطوع والألوان حيث كانت الجماعات السكانية الزاهية تنعم في الشمس وتتجول في الأنحاء وتصطاد بالتحرك السريع. كان الذكاء في هذه الكواكب عادة ما يتمثل في كائن اجتماعي عادي، لا هو بالسمك ولا بالأخطبوط ولا هو بالحيوان القشري، بل هو مزيج من الأنواع الثلاثة، مزود بمجسات للتناول وعيون حادة ودماغ حاذق. كان يصنع الأعشاش من الحشائش في أصداع الشعاب المرجانية، أو يبني معاقل من الحجارة المرجانية. بمرور الوقت، كانت تظهر المصايد والأسلحة والأدوات والزراعة تحت المائية، وبدايات الفن البدائي، وطقوس الدين البدائي. ويتبع ذلك التقدم المتذبذب المعتاد للروح من الهمجية إلى الحضارة.
كان أحد هذه العوالم تحت المائية مثيرا للاهتمام على نحو استثنائي. ففي المرحلة المبكرة من حياة مجرتنا، حين كان عدد قليل من النجوم فقط هو الذي تكثف من النوع الشمسي «العملاق» إلى النوع المعتاد، وحين لم يكن قد ولد سوى عدد قليل من الكواكب، اقترب نجم مزدوج ونجم مفرد في عنقود نجمي مكتظ، اقترب بالفعل كل منهما من الآخر، وبلغت الشعيرات المتقدة لكل منهما إلى الآخر وأنجبا نسلا من الكواكب. ومن هذه العوالم، أنتج جرم ضخم ومائي للغاية بمرور الوقت سلالة سائدة لم تتمثل في نوع واحد بل شراكة تكافلية بين كائنين غريبين للغاية. أحدهما كان يأتي من أصل شبيه بالأسماك، أما الآخر فقد كان يبدو في مظهره شبيها بالقشريات. وفي البنية، كان يشبه سلطعونا له أقدام ذات أرياش أو عنكبوت بحري. وعلى عكس القشريات في كوكبنا، لم يكن مغطى بدرع هش، بل بجلد ثخين. عند البلوغ، تصبح هذه الصديرية المتينة صلبة بعض الشيء خلا منطقة المفاصل، أما في مرحلة الشباب، فتظل طيعة لتناسب الدماغ الذي لا يزال في مرحلة النمو. كان هذا الكائن يعيش على السواحل والمياه الساحلية في العديد من جزر الكوكب. كان كلا النوعين في الرتبة البشرية من الناحية الذهنية ، غير أن كلا منهما كان له طابعه الخاص وقدراته. في العصور البدائية، بلغ كل منهما بطريقته الخاصة في النصف الذي يسكنه من ذلك الكوكب المائي الكبير، ما يمكن أن نسميه بالمرحلة الأخيرة في العقلية دون البشرية. كان النوعان قد التقيا في ذلك الوقت، وقد تقاتلا قتالا مستميتا، وكانت أرض معركتهما هي المياه الضحلة الساحلية. إن سلالة «القشريات» كانت برمائية بصورة أولية، ولم تكن تستطيع البقاء تحت الماء لفترة طويلة، في حين لم تكن سلالة «الأسماك» تستطيع الخروج منها. لم تتنافس السلالتان إحداهما مع الأخرى على الحياة الاقتصادية تنافسا جديا؛ إذ كانت سلالة «الأسماك» تتغذى على النباتات بصفة أساسية، وكانت سلالة «القشريات» من آكلات اللحوم بصفة أساسية، غير أن إحداهما لم تكن تطيق وجود الأخرى. كانت كلتاهما تبلغان من المرتبة البشرية ما يجعلهما تدركان أنهما منافستان أرستقراطيتان إحداهما للأخرى في عالم دون بشري، غير أنهما لم يبلغا منها ما يجعلهما تدركان أن طريق الحياة لكل منهما يكمن في التعاون مع الأخرى. كانت الكائنات الشبيهة بالأسماك والتي سأدعوها باسم السمكيات أو السلالة السمكية تتمتع بالسرعة في الانتقال واتساع مداه. وكانت تتمتع أيضا بما يجلبه الحجم الكبير من مزايا الأمن. أما «القشريات» الشبيهة بالسلطعون أو العنكبوت، والتي سأطلق عليها اسم العنكبوتيات أو السلالة العنكبوتية، فقد كانت تتمتع بقدر أكبر من البراعة اليدوية، وكذلك القدرة على الوصول إلى اليابسة. كان التعاون بين السلالتين سيصبح مفيدا للغاية لكلتيهما؛ إذ إن أحد الأغذية الأساسية التي تقتات عليها العنكبوتيات كانت تتطفل على السمكيات.
بالرغم من إمكانية تبادل العون، فقد سعت كل من السلالتين إلى إبادة إحداهما الأخرى، وكادتا أن تنجحا. وبعد عصر من تبادل القتل الأعمى، راحت بعض الأصناف المحددة من النوعين والتي كانت أقل شراسة وأكثر مرونة، تكتشف بالتدريج فائدة التآخي مع العدو.
صفحه نامشخص