في هذا العالم، مثلما في عالمنا، كانت نسبة ضئيلة من السكان هي التي تتحكم في الغالبية العظمى من سبل الإنتاج الأساسية من الأرض والمناجم والمصانع والسكك الحديدية والسفن، لمنفعتها الخاصة. وهؤلاء الأفراد من ذوي الحظوة قادرين على إرغام سواد الناس على العمل لحسابهم تحت طائلة الجوع. كانت المهزلة المأساوية الكامنة في مثل ذلك النظام تقترب بالفعل. الملاك كانوا يوجهون طاقة العمال على نحو متزايد إلى إنتاج المزيد من سبل الإنتاج بدلا من إشباع احتياجات الحياة الفردية. فالآلات قد تجلب الربح إلى الملاك، أما الخبز فلا يجلبه. ومع ازياد منافسة الآلة مع الآلة، تضاءل الربح؛ ومن ثم الأجور، وعلى إثرهما تضاءل الطلب الفعلي على السلع. دمرت السلع التي لم تجد لها سوقا، بالرغم من أن البطون كانت خاوية والظهور عارية. تزايدت البطالة والفوضى والقمع الصارم، مع تفكك النظام الاقتصادي. يا لها من قصة مألوفة !
ومع تدهور الأوضاع، وانخفاض قدرة الحركات الخيرية والمؤسسات الخيرية التابعة للدولة على مواجهة الكتلة المتزايدة من البطالة والفقر أكثر فأكثر، زاد ما يوفره العرق الجديد المنبوذ من منفعة نفسية لاحتياجات الكراهية لدى الأعراق المقدسة والتي لا تزال مزدهرة وذات نفوذ. وقد انتشرت نظرية مفادها أن هؤلاء الكائنات البائسة قد ظهرت نتيجة لتلوث عرقي منهجي سري قد حدث بسبب المهاجرين الرعاع وأنهم لا يستحقون أي اهتمام من أي نوع؛ ولهذا فلم يكن مسموحا لهم بالعمل إلا في أكثر الأشغال انحطاطا وظروف العمل الأكثر قسوة. وحين أصبحت البطالة مشكلة اجتماعية خطيرة، أصبحت الغالبية العظمى من أفراد العرق المنبوذ دون عمل يعانون من الفقر المدقع. وقد كان من السهل الاعتقاد بالطبع بأن البطالة لم تحدث بسبب انهيار الرأسمالية، وإنما بسبب افتقار هؤلاء المنبوذين إلى أي قيمة أو جدارة.
في وقت زيارتي، كانت الطبقة العاملة قد أصبحت موصومة تماما بأنها الطبقة المنبوذة، وقد كانت هناك حركة قوية تسير على قدم وساق بين طبقات الأثرياء والمسئولين داعية إلى تأسيس العبودية للمنبوذين وأنصاف المنبوذين حتى يمكن معاملتهم علنا كالماشية والتي كانت تمثل حقيقتهم في واقع الأمر. وفي ضوء خطر استمرار التلوث العرقي، حث بعض السياسيين على ذبح المنبوذين جميعا، أو إجراء تعقيم شامل لهم على الأقل. أما البعض الآخر فقد أوضح أنه نظرا لأن إمدادات العمالة الرخيصة أمر ضروري للمجتمع، فسوف يكون الخيار الأكثر حكمة هو تقليل أعدادهم فحسب وذلك من خلال قيادتهم إلى الموت المبكر بالعمل في وظائف لن يقبل بها أفراد «العرق النقي». ويجب أن يحدث هذا على أي حال في أوقات الرخاء، أما في أوقات الانتكاس، فمن الممكن ترك الفائض من السكان للموت جوعا، أو استخدامهم في المختبرات الفيسيولوجية.
الأشخاص الذين جرءوا على اقتراح هذه السياسة في بادئ الأمر، تعرضوا للجلد بسياط السخط الشعبي الشديد، غير أن سياستهم قد طبقت في واقع الأمر. لم يحدث ذلك بصورة مباشرة، وإنما بالموافقة الضمنية، وبغياب أي خطة أخرى بناءة بدرجة أكبر.
في المرة الأولى التي أخذت فيها إلى أفقر مناطق المدينة، دهشت حين رأيت أنه بالرغم من وجود مساحات كبيرة من المناطق العشوائية الفقيرة والتي كانت أقذر من أي شيء في إنجلترا، فقد كان فيها أيضا العديد من البنايات العظيمة النظيفة التي تليق بأن تكون جزءا من فيينا. كانت هذه المباني محاطة بالحدائق، والتي كانت مزدحمة بالخيام والأكواخ الوضيعة. كان العشب باليا والشجيرات محطمة والورود مداسة. وكان الرجال والنساء والأطفال يتسكعون في كل مكان متسخين ومهترئي الثياب.
عرفت أن هذه البنايات الراقية قد بناها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية (عبارة مألوفة، أليس كذلك؟!) أحد أصحاب الملايين، والذي كان قد جنى ثروته عن طريق التجارة في عقار يشبه الأفيون. قدم المباني إلى مجلس المدينة، وقد مات واستقبلته السماء من طريق النبلاء. الأكثر استحقاقا والأقل بغضا من الفقراء قد أسكنوا في هذه البنايات كما ينبغي لهم، غير أن بعض الاحتياطات قد اتخذت بتعيين إيجار مرتفع بالدرجة التي تكفي لاستبعاد العرق المنبوذ. بعد ذلك حلت الأزمة. وواحدا تلو الآخر، تعذر على المستأجرين الدفع وطردوا. وفي غضون عام، كانت البنايات خالية تقريبا.
تلا ذلك سلسلة عجيبة للغاية من الأحداث، ومثلما كنت سأكتشف، كان أحدها من السمات المميزة لهذا العالم الغريب. بالرغم من أن الرأي العام الموقر كان انتقاميا تجاه العاطلين، فقد كان عطوفا للغاية تجاه المرضى. حين كان المرء يصاب بمرض، يكتسب حرمة خاصة، وتكون له أحقية على جميع الأصحاء؛ ولهذا ففور أن كان أي من هؤلاء المخيمين التعساء يرزح تحت وطأة مرض خطير، كان ينقل كي يتلقى الرعاية المناسبة بجميع موارد العلوم الطبية. وسرعان ما اكتشف الفقراء المعدمون كيفية سير الأمور، وفعلوا كل ما في وسعهم كي يمرضوا. وقد نجحوا نجاحا عظيما فامتلأت المستشفيات بهم سريعا؛ ولهذا فقد جهزت هذه البنايات سريعا لاستقبال ذلك الفيضان المتزايد من المرضى.
عند مشاهدة هذه الأحداث الهزلية وغيرها، تذكرت نوعي. غير أنه بالرغم من تشابه البشر الآخرين معنا في جوانب عديدة، فقد شككت بدرجة كبيرة في أن ثمة عاملا لا يزال غامضا علي قد حكم عليهم بإخفاق لن يخشاه نوعي الأرقى أبدا. الآليات النفسية والتي كانت الفطنة والحس الأخلاقي في حالتنا يخففان من حدتها، قد برزت في هذا العالم بإفراط باهظ. غير أنه ليس من الصحيح أن البشر الآخرين كانوا أقل ذكاء أو فضيلة من البشر من نوعي. لقد كانوا في التفكير المجرد والابتكار العملي أندادا لنا على أقل تقدير. إن العديد مما توصلوا إليه من أوجه التقدم الحديثة في الفيزياء والفلك قد تجاوز حدود إنجازاتنا الحالية. بالرغم من ذلك، فقد لاحظت أن الجانب النفسي كان أكثر فوضوية مما هي الحال لدينا، وكان التفكير الاجتماعي مشوها على نحو غريب.
في مجال الإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، كان البشر الآخرون يتفوقون علينا بدرجة كبيرة في الجانب التقني، غير أن استخدامهم لاختراعاتهم المذهلة كان مفجعا. في البلاد المتحضرة، كان الجميع فيما عدا الطائفة المنبوذة يحملون جهاز استقبال للجيب. ولأن البشر الآخرين لم يعرفوا الموسيقى، فقد بدا هذا أمرا غريبا، لكن لأنهم كانوا يفتقرون إلى وجود الصحف؛ فقد كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن لرجل الشارع أن يعرف بها نتائج اليانصيب والألعاب الرياضية، والتي كانت قوام غذائه العقلي. وعلاوة على ذلك، فقد احتلت مكانة الموسيقى ثيمات شمية وذوقية كانت تترجم إلى أنماط من الموجات الأثيرية التي تبثها جميع المحطات الوطنية الكبيرة، ثم تستعيد صيغتها الأصلية في أجهزة الاستقبال الجيبية وبطاريات التذوق التي يمتلكها السكان. كانت هذه الآلات تقدم محفزات معقدة لأعضاء التذوق والشم في اليد. وقد كان هذا النوع من الترفيه فعالا للغاية حتى إن المرء كان غالبا ما يرى الرجال والنساء على حد سواء يجلسون وقد وضعوا يدا في جيبهم. وقد كان ثمة طول موجي محدد مخصص لتهدئة الأطفال الصغار.
طرح جهاز استقبال جنسي في السوق، وكانت البرامج تذاع له في العديد من البلاد لكن ليس فيها كلها. كان هذا الاختراع الاستثنائي توليفة من الإذاعة واللمس والتذوق والرائحة والصوت. لم يكن يعمل عن طريق أعضاء الحس، بل من خلال التحفيز المباشر لمراكز الدماغ الملائمة. كان المستقبل يرتدي قبعة رأس قد صممت خصيصى لتنقل إليه من استوديو بعيد عناقات امرأة مثيرة ومتجاوبة، مثلما كان يختبرها آنذاك بالفعل «مذيع للحب»، أو تكون قد سجلت كهرومغناطيسيا على شريط فولاذي في مناسبة سابقة. ظهرت خلافات بشأن أخلاقية البث الجنسي. سمحت بعض البلدان ببث البرامج للذكور دونا عن الإناث، رغبة في الحفاظ على براءة الجنس الأطهر. وفي بلدن أخرى، نجح رجال الدين في القضاء على المشروع بأكمله على أساس أن البث الجنسي، حتى وإن كان للرجال فقط، سيكون بديلا شيطانيا لتجربة دينية منشودة يحرسونها بغيرة وتسمى الاتحاد العفيف، والتي سوف أتحدث عنها في تتمة هذا الكتاب. لقد أدرك رجال الدين جيدا أن سلطتهم تتوقف بدرجة كبيرة على قدرتهم على توليد تلك النشوة المغرية في رعيتهم عن طريق الطقوس وغيرها من الأساليب النفسية.
صفحه نامشخص